وللتو، أقاموا ثكنة عسكرية مدججة بالسلاح الآلي والخفيف والمصفحة رابضة للحيلولة دون هروب أحد من أبناء إخوتي كما كانوا يتوهمون، ولم يكن في بيتنا ساعة حصارهم سوى أولادي وأحفادي وبناتي، ودام الحصار أياماً، وبعد أيام، وفي ساعة متأخرة من الليل، وصلت إلى منزلنا مجموعة من الضباط ترافقهم قوة عسكرية رديفة.
تقدم مني أحد الضباط وقال: يطلب إليكم إخلاء البيت.
فقلت له: لأي شيء، فهذا بيتنا، ملكنا، وهو ليس من بيوت الدولة، وما في البيت إلا الأطفال الصغار والبنات وبعض الأحفاد، ورجالنا لا ندري أين هم، فأجاب والغضب يبدو على وجهه: الأوامر التي طلب إلينا تنفيذها فوراً، تقضي بضرورة إخلاء البيت ونقلكم إلى مكان آخر.
فقلت له: وإلى أين إن شاء الله.
قال الضابط الحانق: لا أدري، المهم يجب إخلاء البيت، ونظر إلى عساكره ومصفحته.
دخلت إلى غرف الأولاد والأحفاد والبنات فرأيتهم غارقين في نوم عميق، وصممت على عدم إيقاظهم مهما كانت النتائج، ولينفذ الله قضاءه، وعدت وكأن زلزالاً يضربني من كل جانب، أنفاسي ملتهبة وأوداجي محتقنة، وأمارات التحدي بادية على ملامحي، فقلت للضابط:
الأولاد نيام، ولن أوقظهم في مثل هذه الساعة المتأخرة من الليل، إذا أردتم فخذوهم وأيقظوهم رغماً عني وبالقوة، وتراجع الضابط إلى الوراء، وأطرق رأسه، ونظر إلى الأرض بنظرات كأنها حزينة كسيرة لعل شهامة ونخوة رجال اليمن، قد هبت عليه فذاب خجلاً من نفسه وقال: إذن ماذا ترين الحل؟
فقلت: حراستكم مشددة وصارمة علينا، ومراقبتكم والحمد لله دقيقة، ولم يتبق سوى سويعات وتهل تباشير الصبح، وفي الصباح سنكون جاهزين بإذن الله تعالى.
وأقر أن الضابط قد استجاب، وقال: إذن ننتظر حتى الصباح، وفي الصباح أيقظت الأولاد والأحفاد والبنات، وعلى عجل طلبت منهم أن يتأهبوا، فظن الأولاد والأحفاد أن الفرج قد اقترب، كانوا يتراشقون الابتسامات وعيونهم تلمع ببراءة طفولية صادقة، لا دمعة هاملة، ولا الأرض تضيق بهم، فهم لا يعون ما جرى.
وتأهبوا كأنهم ذاهبون إلى مدارسهم، لبسوا وأكلوا من الطعام أقله، عمدت إلى كبت أحزاني، وإنما نفسي تلومني لوماً قاسياً. وسأَلَتْ نفسي نفسي: لماذا أنجبت يا تقية؟ ما كان أغناك عن الإنجاب، ما ذنب هؤلاء الأولاد، حتى يتعرضوا لكل هذا الذل والقهر؟
كانت أسرتي الصغيرة مكونة من ثمانية (أولادي وأحفادي), لملمت أشلائي وتحاملت على نفسي، وناديت العاملات والمساعدات والشغالات، وحين تحلقن حولي، قلت لهن: اسمعن يا بناتي، لم يبق لكن خير في مصاحبتي، فالأمور كما ترين، غدت يدي فارغة فقد استولوا على كل شيء، وأنتن لكن مطالب لمواجهة أعباء الحياة، والله لا ينسى عباده، ورزقكن على الله.
وانكفأت العاملات على أنفسهن كل واحدة تغطي وجهها بيدها وتبكي بكاءً حارقاً، وانصرفن مودعات حزينات، بعد أن قبلن الأحفاد والبنات، وكان وداعاً لا زالت آثار جروحه تنكأ عروق قلبي حتى الساعة، غير أن واحدة منهن تعلقت بي ورمت بنفسها على صدري، تبكي بحرارة وحرقة، وقالت: ستي لا أريد شيئاً، أريد فقط البقاء معكم، عشت في بيت الخير والعز ولا أريد مفارقته، والله يرحمنا برحمته، كانت من المحويت، شريفة بأخلاقها، وفية بطباعها.
وتهيأنا لمواجهة قدرنا، انتظم العساكر في صفين طويلين، وكانوا متأهبين مستعدين، بنادقهم مصوبة، وأصابعهم على الزناد، اتخذوا حالة الجهوزية، وغيرهم اعتلى السطح للمراقبة، عيونهم محدقة تتلفت في كل اتجاه، وغاظني رامي المدفع، فقد قفز إلى مصفحته، وأهب مدفعه واستعد.
وسار جمعنا من بين الصفين، وضحكت في قرارة نفسي، هل يخشى هؤلاء العساكر من القنابل التي تلقيها أنامل الأطفال الصغيرة الناعمة، أم تراهم ظنوا بأن مفاجأة تنتظرهم، ونستولي على سلاحهم، وصعد أولادي وأحفادي وبناتي وأنا إلى عربة عسكرية محكمة الإغلاق، أعدت لنقلنا لجهة مجهولة، وتحرك الموكب الأسير، وواصلنا سيرنا في اختراق شوارع صنعاء، تحت الحراسة من الأمام والخلف، لا ندري إلى أين المصير، ولاحت مني التفاتة، فإذا نحن بقرب دار بستان الخير، وهو من بيوت أخي الإمام أحمد رحمه الله، وتوقف الموكب، وفتحت بوابة القصر، لأجد أعداداً كبيرة من عساكر الجيش موزعة في ساحة بستان الخير وعند أسواره, وخلف الأسوار وعند برجه، واقتادونا بحذر ويقظة، وأصعدونا أدراج بستان الخير، ولشدة ما رأيت، فإذا الغرف مملوءة بنساء وعوائل آل حميد الدين، أمهات وأخوات وزوجات وبنات وأطفال وأولاد آل حميد الدين، كنا أكثر من سبعين أسرة وتجاوز عددنا المائة.
وإذا بهم قد اعتقلوا كافة الأسر: النساء والأطفال والأولاد في الليل، وأخليت كافة منازلنا، كلنا خرجنا بملابسنا وبعض أغراضنا الضرورية، وبقيت منازلنا، وبيوتنا خالية عرضة للنهب والسرقة المنظمة، وقد نهبت وسرقت كما عرفنا في ما بعد، وقد جعلوا من بستان الخير معتقلاً لنا، وعلمنا في ما بعد أيضاً أنهم جعلوا من قصور الإمام أحمد في تعز معتقلاً لعوائلنا هناك، ولم نكن على اتصال بهم، ولا نعلم من أمرهم شيئاً، ويبدو أن أهالي تعز من عساكر وضباط قد عرفوا الإمام أحمد وكرمه وجوده وشهامته، كانوا أحسن معاملة من حراسنا، وأقل فظاظة من المجموعات التي تولت أمر اعتقالنا، وعلمنا أن الحراسة في تعز كانت فقط للمرافقة عند الخروج والدخول، وليس للتشديد وتنفيذ الاعتقال، فالتعليمات عند الضباط والعساكر هناك...: المعاملة بكل اللطف والاحترام، الحراسة فقط لمنع الهروب أو الاختفاء، بدون إشعار من في قصور تعز من عوائل وأسر آل حميد الدين أنهم رهن الاعتقال.
أما نحن في صنعاء فقد انقطع الاتصال عنا، فالتلفونات ميتة لا حرارة ولا حراك لها، ولا ندري عن العالم الخارجي شيئاً، لا رسالة ولا جواب ولا خروج ولا دخول، رقابة شديدة دائمة، وتبديل مستمر للعساكر، حتى الأطفال منعوا من الدراسة، ورفضوا السماح لأي طفل بالخروج إلى المدارس، وتسامع الناس في صنعاء خبر اعتقالنا في بستان الخير، فوصل بعض المشائخ الذين سمح لهم بالعبور إلى ساحة معتقل بستان الخير، يسألون عن أحوالنا، وما نحتاج إليه، بدواعي الشهامة والنخوة التي اجترحت في عروقهم، وعاداتهم اليمنية بسبب اعتقال نساء وأطفال وأولاد، واحتراماً ووفاءً لأهلنا ورجالنا. واتفقنا كلنا في المعتقل على عدم طلب أي شيء من الأمور المادية، وإنما طلب شيء واحد فقط، وهو: طلب مدرس لتعليم الأولاد، وكان التعليم هو مطلبنا الوحيد، ولكن ما استجاب المتمردون (الثوار) لطلبنا ولا لرجاء المشائخ.
وذات يوم نهاراً وصل ضباط يبدو عليهم أنهم محققون أو ثوار، واستدعيت لأقابلهم، وحين وقفت أمامهم، بادرني أحدهم بالسؤال: أين زوجك؟ فأجبته: لا علم لي ولا أدري أين هو، أنتم الأدرى والأعلم، فنحن مقطوعون عن العالم، وممنوعون من سماع الأخبار، وفوجئنا بأسلوب آخر يزيد فظاعة عما نلاقيه حتى الآن.
جاؤوا إلينا وعرضوا علينا الرحيل إلى مصر، ورغبونا بذلك وبأننا سنلقى معاملة طيبة كريمة هناك، ستخصص لنا منازل ومصاريف، ويذهب أولادنا إلى أحسن وأرقى المدارس هناك، وسيكون الترحيب بنا حاراً.
فرفضنا كل ذلك، وأبدينا إصرارنا على البقاء في اليمن، نتعلق بزمام الصبر على المعاملة السيئة والقاسية من قبل معتقلينا، ولا نرحل لنكون رهائن عند النظام المصري، والخير في ما اختاره الله.
وقد عرفنا في ما بعد أن هذا الاقتراح كان رغبة من السادات ليرحلنا إلى مصر، ونحتجز هناك، ولكي يمنع سفرنا كنوع من الضغط على رجالنا أو مبادلتنا في ما بعد.
ومن طريف ما يختزن في ذاكرتي عن أيام اعتقالنا في بستان الخير أمور مفرحات مبكيات، فقد نفد مخزون طحين الحنطة الموجود أصلاً في مخازن بستان الخير بعد مدة، وأعلمنا الضابط المراقب المسؤول عن حراستنا بعدم وجود طحين، وبالتالي انعدام الخبز، فكان رده: أجهزوا على الشعير والذرة، وكنا قد آلينا على أنفسنا ألا نكلم أي رجل من الحراس وغيرهم، وكلفنا اثنتين من العاملات كلما استوجب الأمر، فقالت إحدى العاملات: (إن صغارنا غير قادرين على أكله، فأرسلوا لنا ما يكفي الأطفال، أما الكبار فنحن نأكل خبز أي شيء كان)، فتجاهل طلبها، ومضى في طريقه وانصرف، فقامت إحدى النسوة من بناتنا بجمع ما تقتنيه من ذهب هدايا عرسها، وفضتها، وشيئ من ثيابها وبعض العبي وخواتمها وأقنعتها، بقصد بيعها وشراء أو استبدالها بشيء من طحين الحنطة.
وذاعت هذه القصة بين العائلات والأسر اليمنية القريبة من معتقلنا، وما هو إلا يوم أو بضع يوم حتى شاهدنا جمعاً من نساء يمنيات قد تدافعن عند بوابة بستان الخير رغم الحراسة والتشدد في المراقبة، واقتحمن البوابة إلى ساحة بستان الخير الخارجية، وهن يحملن على رؤوسهن (التويرات), وهي أوعية مصنوعة من سعف النخيل، وكانت مملوءة بأنواع الخبز المصنوع من الحنطة، نساء صنعاء قمن بعجن الطحين وخبزه، واقتحمن علينا بعشرات التويرات لإطعام أطفالنا الخبز، فنظرت إليهن وأنا فخورة، وقلت: بارك الله باليمن رجاله ونسائه، فهم أهل النخوة والشهامة والعزة والكرامة.
تركت هذه الحادثة أثراً عميقاً في نفوسنا، فالدنيا ما زالت بخير، والخير فيها إلى يوم القيامة، وكل ذلك رغم الدعاية المسمومة والشتائم التي تذاع كل صباح ومساء، الطاغية، الظالم، القاتل، ورغم الإجراءات والتعقيدات التي تفرض علينا. 
يتبع العدد القادم