تحقيق: بشرى الغيلي/ لا ميديا

ما إن يغادروا أرض الوطن، حتى يلبسوا جلوداً غير جلودهم، ويتناسوا بقرة زعكمة، وحمار القرية الذي ينقل على ظهره الماء صباح مساء، والذي مروا معه بكل الشعاب والأودية، ليتحدثوا بلكنات: بدي، وعايز، وأبغى، والأخيرة تكثر إليها هجرة (البغبغة)، مع أن لهجتهم اليمنية أجمل وأرقى بكثير، البعض بررها لكي يفهمه الطرف الآخر، بينما صنف آخر قال إنه يتجنب حيل بعض من يتعاملون بدونية مع اليمني، فيما حمّل البعض الآخر الدراما اليمنية التي هي موسمية، ناهيك أنها لا تتجاوز حارة المخرج، وعائلته. في هذا التحقيق الذي ناقشته (لا) مع المختصين ومن مروا بتجارب غربة، ومن لا يزالون بأرض المهجر، يضع النقاط على الحروف، ويلفت انتباه المعنيين بأن يهتموا بالهوية اليمنية التي هي بأمس الحاجة إلى مزيد من الاهتمام..

أتحدث بلهجتي كأني كائن فضائي!
محمد النقيب (إعلامي ومغترب) يرى أن المواطن اليمني هو الكائن الوحيد الذي إذا سافر دولة يقلد مواطنيها في الكلام، ويدلل على كلامه بقوله: مثلاً: إذا ذهب مصر يقول (عايز)، وإذا ذهب الخليج يقول (أبغى)، وإذا سار دول الشام يقول (بدّي)... بينما تلاقي المصري يتحدث لهجته، وكذلك الشامي، والخليجي، أينما حلوا وولوا، إلا اليمني لا يتحدث بلهجته وكأنها عورة، حسب تعبيره.
ويضيف النقيب أنه حدثت له مواقف في بلاد الغربة، منها: مع أصحاب بقالات، وتاكسيات، وباصات، وأنهم لم يفهموا ماذا كان يتحدث، لدرجة أنه قال مرة لأحدهم: (شكلي نزلت من الفضاء أو أيش؟).. يبتسم ويواصل: والصراحة ليس عندهم حجة، لأننا من نقلدهم في بلدانهم، فتضيع لهجتنا، ولا يفهمون حديثنا إلا بصعوبة.

(أشتي)!
ويستدل محمد على كلمةٍ يمنية تستبدل بكلمات بعض البلدان عندما نقول لهم (أشتي) لا يفهموننا إلا إذا استخدم بدلها (عايز) المصرية، أو (بدي) الشامية، أو (أبغى) الخليجية... وهذه كمثال فقط!
ويختم النقيب بسبب وجيه ومهم جداً هو المسلسلات اليمنية التي من السنة للسنة مثل (السمبوسة)، والتي قد لا يتابعها إلا المخرج وعياله وأربعة من الحارة مجاملة للمخرج.. على عكس المسلسلات الخليجية والمصرية والشامية العابرة للقارات وليس فقط للحدود.

لم أخجل من لهجة وطني
اللغة العربية الفصحى لم تكن كتلة واحدة، بل كانت لهجات مختلفة، مثل اليمانية، والنجدية، ولا تزال اللهجات اليوم تحتفظ ببعض الأنماط النحوية/ الصرفية/ الدلالية القديمة... بهذه المداخلة بدأ سمير دوبل (مغترب) حديثه عن اللهجات بشكل عام، واليمنية بشكل خاص... ويضيف دوبل: عن نفسي لم أخجل من لهجتي، بالعكس أفتخر بها جداً، والخليجيون يفهمونني هنا، ويذكر أنه مغترب عن الوطن منذ ما يقارب 16 عاماً، وكذلك لكل مديرية من مديريات اليمن لهجتها، وذلك يعود لفترة من فترات الانعزال التي كنا فيها منعزلين عن بعض، والكلام لا يزال لدوبل، ويعلل أن ذلك التنوع في اللهجات اليمنية جعل الغالبية يتحدثون بلهجات تنتسب لكل منطقة، مما جعل بعض الصعوبة في نطق كلماتها.

ضعف في الشخصية!
لهجتي اليمنية من أجمل اللهجات في العالم، ونحن في الغربة لا نتحرج أبداً من الحديث بها، ومن يغيرون لهجتهم فور وصولهم، هذا يعتبر ضعفاً في الشخصية لا أكثر... عنتر الصوفي (مغترب) يضيف: ليس هناك أي دخل لجمال اللهجة من عدمه، وأن من يغيرون لهجتهم فور وصولهم، هم أنفسهم من يلبسون العقال فور دخولهم الحدود، حيث إنه لا يوجد مبرر لتغيير اللهجة، إلا من يشعر بالنقص، وليس راضياً عن نفسه، فيلفت انتباه الناس إليه.
يضيف الصوفي أنه رغم عمله في محل تجاري، ويتطلب عمله مقابلة الخليجيين، إلا أنه يتخاطب معهم بلهجته اليمنية، ويفتخر بها. ويختم: لا يجتمع عقل وعقال في رأس رجل واحد، وإنما يحاول أن يحتفظ بماء وجهه باختلاق الأكاذيب لا أكثر.

حتى آمن مكرهم
ياسمين الفقيه (إعلامية) تقول: لا أعتقد أن اليمني يتحرج من لهجته، ولكن لصعوبة فهمها من قبل الطرف الآخر، فيضطر اليمني إلى التقليد بعض الشيء للهجة أصحاب البلد الذي توجه إليه.. تضيف الفقيه عن تجربةٍ لها وهي في بلاد الغربة: عن نفسي حينما كنت في القاهرة، كنت أتحدث بلهجة بيضاء يفهمها المصريون ويظنون أني سعودية، ومن هنا كانوا يرفعون علي الأسعار ويستغلون هذه النقطة. تستدرك ياسمين: اكتشفت حيلة، وهي أنه لا بد من التحدث بالمصرية بجدارة حتى يظنوا أني منهم، حسب قولها. وتستدل بحديث الرسول الكريم: (من تعلم لغة قومٍ أمن مكرهم).

 لنتجنّب لطشهم..!
ليست ياسمين الوحيدة ممن اضطروا للتحدث باللهجة المصرية لأسباب بررتها كاستغلالهم وجشعهم مع الغرباء، بل يتفق مع رأيها وليد الجيلاني (مغترب ومخرج أفلام) الذي يبرر أيضاً: لا بد من التماشي مع عادات وتقاليد المنطقة التي يحط إليها رحاله، وينطوي هذا أيضاً على اللهجة التي من الأهمية له أن يتقارب معها بلهجة المجتمع الذي يعايشه، لأن لهجته قد لا تكون مفهومة، كمصر مثلاً من الصعب جداً أن يتحدث اليمني بلهجته لسبب بسيط، وهو أن من سيتخاطب معه لن يفهم ما يتحدث به، ويحدث كثيراً هنا مثل ذلك، وغير هذا تجدين أن أغلب الداخلين إلى مصر من بلدان عربية أخرى يتحدثون بنفس لهجة أهل البلد الذي يعايشونه.. ويختم: لنتفادى صاحب السلعة في دكانه الذي يتحايل على اليمني ويرفع السعر عليه لمجرد أنه يمني، ثانياً كي نتعايش مع المجتمع بسهولة، ونسلم من تحايلهم وجشعهم.

همهم (الفلوس)
على حساب انتشار الدراما!
ولأن للفن رسالة عظيمة في نشر ثقافات الشعوب، وخصوصاً اللهجات، كما أننا عرفنا تعدد اللهجات، من خلال الدراما الشامية والمصرية وغيرها.. ولضعف انتشار الدراما اليمنية التي عبرها تنتشر اللهجة كغيرها من اللهجات.. وفي هذه الجزئية تحدث لـ(لا) الفنان سليمان داوود قائلاً: بالنسبة للدراما، المشكلة الكبرى أنهم لم يضعوا الشخص المناسب في المكان المناسب، كوزارة الإعلام، والمؤسسة العامة للإذاعة والتلفزيون، والفضائية اليمنية، منذ نشأتها حتى وقتنا الحاضر، كذلك عدم الاهتمام بإنتاج الدراما اليمنية، لأن اهتمامهم تركز بتقاسم الإنتاج (الفلوس)، واللهجة اليمنية من أعرق وأفضل اللهجات في العالم، ومن أفصحها.
ووجه داوود نداءه لوزارة الإعلام بأن يركزوا في الفترة الحالية، والتي هي فترة العدوان، على إنتاج الدراما، وليس فقط التركيز على البرامج، لأن الدراما رسالتها أقوى وأكثر تأثيراً.

عدم وجود نصوص منافسة!
توضح أيضاً الفنانة فتحية إبراهيم أن اللهجة ليست السبب، لأن المشاهد العربي صار يفهم مسلسلات بالصعيدي، والسوري الريفي، وترجع السبب إلى ضعف الإنتاج، والتوزيع الداخلي والخارجي، وعدم وجود النص القوي المنافس للنصوص والأعمال الخارجية، وعدم وجود شركات متخصصة لصناعة النجوم الذين يقومون بمهمة تسويق الأعمال الفنية خارجياً.
تضيف إبراهيم: الدراما والنصوص اليمنية أنتجت بحسب تقاليد وأعراف مجتمعنا اليمني، لذلك لا تصلح للتوزيع الخارجي، تبرر ذلك: لأن مشاكلنا غير مشاكل العالم، ولأنها تخصصت بمعالجة مشاكل محلية، ولم تكن دراما عامة لكل المجتمعات، كذلك عدم وجود دور سينما، وهو ما أسهم في أن يظل الفن اليمني فناً داخلياً مقنناً، لأن السينما تجعل الفن يغوص في كل المجتمعات المنفتحة والمنغلقة على حدٍّ سواء، وبدون قيود أو خوف.. لذا نحن لا نستطيع تعدي هذا الحاجز، لأننا مازلنا محافظين في طرحنا الدرامي والفني بكل جوانبه.
وتختم الفنانة فتحية إبراهيم بالإشارة إلى ضعف الجانب الداعم للفن والإعلام اليمني، وعدم وجود شركات إنتاج محلية ضخمة تستطيع إنتاج مسلسلات منافسة طوال السنة، وإعطاء أجور مناسبة لنجوم وأبطال أعمالها، لذلك إنتاجنا ضعيف جداً، لأن أعمالنا موسمية، وهذه فترة تعتبر أسوأ فترة مرت بها الحركة الفنية في اليمن.

لا توجد مقاييس للهجات
د. إبراهيم طلحة (شاعر وأديب) يوضح عدة أسباب لتعدد اللهجات، كذلك يؤكد أن العربية الفصحى هي الجامعة لكل العرب، يقول: أولاً يجب أن ندرك أن معظم الظواهر اللهجية تعود تاريخيًّا إلى القبائل اليمنية، وحتى الظواهر اللهجية في بلدان عربية أخرى، ثانيًا ينبغي معرفة أن اللهجات لا تمدح ولا تعاب، فهي محايدة، ولا توجد لهجة حلوة ولهجة قبيحة، لأنه لا توجد مقاييس ومعايير علمية. ثالثًا اليمني لهجته أصعب من لهجات المجتمعات الأخرى تقريبًا، ومما سهل لهجات أخرى كالمصرية والشامية والخليجية، هو حصولها على حظ من الظهور الإعلامي. رابعاً - وهو المهم - يجب على اليمني الاعتزاز بلهجته وعدم التحرج منها، فالآخرون بلهجاتهم لم يبلغوا الثريا ولا سطح القمر. خامساً - وهو الأهم من المهم - أن لغتنا العربية الفصحى تظل اللغة الجامعة للعرب سواء اجتمعوا أو تفرقوا، فاللغة هوية، وهي آخر حصنٍ منيعٍ للقومية العربية.

اللاشعور الشخصي
ولعلم النفس رؤية حول قضية عدم الاعتزاز والثقة باللهجة الوطنية، يوضحها من جانب نفسي أ. مهدي محمد العبري ـ معالج نفسي، ورئيس فرع نقابة الأخصائيين الاجتماعيين والنفسيين بذمار، بقوله: ما يحدث للمهاجر اليمني أثناء هجرته إلى دول المهجر هو عدة عوامل أهمها: أزمة هوية بين هويته الحقيقية وبين هويته المقلدة في بلد المهجر، وهذه الأزمة ناتجة عن صراع الدور بين ذاته الحقيقية، وذاته المثالية التي ينشدها في بلد المهجر كنوع من المسايرة للمجتمع الجديد الذي هاجر إليه، وهو ما يسمى اللاشعور الشخصي، والذي يحاول فيه الشخص الفصل بين شعوره الحقيقي، ويكتسب قيم وثقافة المجتمع الذي يعيش فيه، ثانياً: البحث عن الذات وأزمة الهوية التي يفتقدها المغترب، وهو ما يشعره بأن الثقافة التي يقلدها، أو يكسبها ستضفي على شخصيته شعوراً بالثقة والانتماء، ثالثاً التنشئة الأسرية والاجتماعية القائمة على العنف والحرمان، وسلب حرية الطفل، وعدم إشباع حاجته الأساسية من طفولته، تجعله ينظر إلى ذاته ومجتمعه نظرة دونية قاصرة، رابعاً الظروف الاقتصادية والمعيشية، التي هاجر لأجلها المواطن اليمني، ولمس في دول المهجر تحسناً لظروفه الاقتصادية والمعيشية، واستطاع توفير احتياجاته، فشعر بالامتنان لدولة المهجر التي هاجر إليها، وهذا الامتنان قد يتحول إلى انتماء عندما تكرس سلوكيات الأمان والسلام، وحسن التعامل.

تعزيز الانتماء للإرث الحضاري
يضيف العبري أن هناك جوانب نفسية ومبادئ مهمة تعزز لدى أفراد المجتمع، وتوفر للشخص ما يتيح له التعبير عن ذاته، والشعور بانتمائه وهويته، إلى جانب تعزيز قيم الإرث الحضاري والثقافي لبلدنا اليمن، والذي هو غني بحضارته، وموروث ثقافي يعزز قيم الحب، والجمال، والانتماء، وما هو ما يحتاج إلى إبراز الوجه المشرق لليمن، منها: الإشباع للاحتياجات الإنسانية المتمثلة في هرمية ماسلو احتياجات المحافظة على البقاء (الأكل والمأوى والمشرب)، كذلك احتياجات الأمن والسلامة، وهو أن يشعر الشخص بالأمن الجسمي والنفسي في عدم تهديد حياته واحتياجاته الأساسية، الحاجة للحب والانتماء أن يشعر بحب من ينتمي إليهم أفراداً أو جماعات أو دولة، والحاجة إلى تحقيق الذات، وهو أن يشعر الشخص بتجاوز المراحل الثلاث الأولى، ليشعر بتحقيقه للنجاح وتوفير سبل ومصادر معيشته، وهو ما يشعره بتحقيق وتقدير ذاته، وأخيراً الحاجة لتأكيد الذات، وفيها يشعر الشخص بالرضا عن حياته، وشخصيته، وعطائه، والاقتناع بما لديه، وهي أعلى مراحل الرضا والإشباع للفرد.