طلال سفيان/ لا ميديا

لرمضان نكهة أخرى في مدينة تعز. كانت مدينة عابقة بمآذنها وأسواقها ومجالسها. على مر التاريخ, احتضنت أحياء المدينة تنوعا ديموجرافيا، وقدمت صورا جميلة للتعايش. كانت كذلك ذات يوم، وكان معها ذكريات مدينة لا تنسى. 

مقايضة تنقذ الفكر المتطرف
امتازت منطقة (الجحملية) بتعدد مجالسها الروحانية والثقافية, وشكلت زواياها الصوفية نفحة عبقة بالأنسام الربانية دون أن تضاهيها منطقة أو حي آخر في المدينة. 
في منطقة (الجحملية العليا)، وتحديداً (حي قريش) كما يحب أن يطلق عليه سكان المنطقة، تأسست أول زاوية صوفية في المنطقة: زاوية الشيخ عدنان الجنيد، والتي تأسست عام 1981 على يد جده العارف بالله السيد يحيى عبدالمعطي الجنيد، الذي نزل من جبل صبر واستوطن الجحملية العليا، وجعل من بيت السيد أحمد يحيى الجنيد، والد عدنان، زاوية للطريقة العلوية. 
عندما كان السيد عدنان في التاسعة من عمره (عام 1981)، بدأ يأخذ العلم عن جده العلامة يحيى عبدالمعطي الجنيد، ليرث الفتى الأغر بعدها خلاصة العلم والطريقة من جده الذي توفي عام 1986. وهناك أقام السيد عدنان الزاوية وأحياها بالعلم وتدريس المريدين والمحبين وإقامة المناسبات الدينية والموالد المصطفوية. وكان الناس يفدون إلى زاويته من كل حدب وصوب. 
بوتريتها وأمسياتها الرمضانية, تركت الزاوية العدنانية العلوية بصمتها على الجحملية وتعز ككل. وكانت مقاماً لنفح النسمات الروحانية على مدار السنة. وعلى مسافة قريبة منها كانت زاوية الرعوي. وكان هناك أيضاً الزاوية الشاذلية التي أسسها عبدالله سنهوب في الجحملية الوسطى عام 2005, تسير على نفس الخطى كملتقى للمحبين بأمسياتها الرمضانية. 
ومع ليالي رمضان، كانت الجحملية عامرة بروحانية الثقافة بمجالس العزي مصلح الحاشدي (الخبير الأثري اليمني الشهير) ومجلس رشاد حمود، وغيرهما من المجالس الرمضانية الثرية بتنوعاتها الدينية والثقافية والفنية والاجتماعية. 
هي الجحملية؛ كانت ذات يوم عنواناً لذلك الزمن الجميل وليال رمضانية تتحسر عليها اليوم الأطلال والركام والحطام من الموت المخيم هناك منذ رمضان العام 2015. 

روحانية تفوح بعبق التاريخ
خلافا لبقية أشهر السنة، تجذب المساجد اليمنية خلال شهر رمضان عدداً كبيراً من المصلين، الذين يداومون على أداء الصلوات الخمس فيها. ولمدينة تعز عدد من الجوامع والمساجد المهمة التي تجتذب المصلين والزائرين لجمال معمارها. 
في المدينة القديمة (قلب الحالمة) يشمخ جامع ومدرسة الأشرفية، أحد مساجد مدينة تعز التاريخية، والذي بناه السلطان الأشرف إسماعيل بن العباس عام 696هـ وافتتح في السنة التي توفي فيها 803هـ، وهو أحد سلاطين الدولة الرسولية. والمسجد (من أهم المدراس الدينية في تاريخ اليمن الإسلامي)، ويضم الصرح إضافة إلى قاعة الصلاة، مدرسة وأضرحة عدد من ملوك الدولة الرسولية. وعلى بعد خطوات تنتصب منارة جامع المظفر أو (المدرسة المظفرية)، أحد أبرز المعالم التاريخية الحضارية في محافظة تعز، أنشأه السلطان المظـفر يوســـــف بن عمر بن علي بن رسول، ثاني ملوك الدولة الرسولية، في النصف الأول من فترة حكمه (648هـ/ 1250م).
وعلى غرار مساجد المدينة العتيقة (الأشرفية والمظفر...) تميزت منطقة الجحملية بجوامع حملت راية التعايش الديني المذهبي الصحي ومثلت الرونق الخاص للروحانية، وبالذات في الشهر الفضيل. ومن أشهر جوامعها جامع العرضي وجامع عباس وجامع الحسين بن علي رضي الله عنهما وجامع نصار. وقد بنيت على الطراز الصنعاني، كما هو الحال في جامع العرضي المبني بالحجر الأسود (حبش) وفيه باحة كبيرة تشبه باحة الجامع الكبير بصنعاء، فهو يشبهه من حيث التصميم، وقد بناه الإمام أحمد على غرار الجامع الكبير. 
ويتميز مسجد العرضي، الواقع في حي الجحملية، بطابع معماري أثري فريد من نوعه، يمنح مرتاديه أجواء روحانية خاصة، يمتزج فيها عالم الروحانيات بالموروث التاريخي والحضاري للمكان، وهو ما يجعلهم يتنافسون في أداء الصلوات وحضور الدروس القرآنية والابتهالات الرمضانية تحت سقفه الذي بني بطريقة معمارية مميزة تجلب له تكييفاً طبيعياً، وهو ما جعل هذا أشبه باستراحة روحانية للصائمين طيلة الشهر الكريم. 
بُني جامع العرضي عام 1952، بأمر من الإمام أحمد حميد الدين، جوار المقام (المتحف حالياً) وتم الانتهاء منه وتجهيزه عام 1955.

علامات ونكهات مسجلة
 مع كل ظهيرة رمضانية, تنساق الحركة كصورة حية لجماليات لوحات هاشم علي وقصص محمد عبدالولي. النساء النازلات من جبل صبر وعبدان حاملات على رؤوسهن العزفات التي تحتوي على الفطير واللحوح والفواكه والحقين... هناك على الأرصفة تجلس بائعة (الملوج) وإلى الجوار بائعو الخضروات.. في جولة الجحملية يحمل المكان ماركة مسجلة باسم (بوفيه سنهوب) للقديد والزبيب، و(بوفيه محمد صغير) للشعير، و(قهوة مخسو)، و(برعي مبخوت). 
في شهر رمضان تتجلى مظاهر المدنية المتقدمة والرفاهية المتجذرة حتى في المأكل الفريد، وبالأخص أصناف الحلويات المعروضة للبيع. وقبل الفطور خاصة تكاد شوارع المدينة تنفجر بزحام الصائمين المنكبين على شراء تلك الحلويات: حلويات (الكينعي)، الرواني، والشعوبية التي تصنع بمهارة فائقة ولخليطها أسرار لا تزال تحتكر صنعها وبيعها أسر لا تزيد على أصابع اليد، بدءاً بالكينعي الذي ذاع صيته في أرجاء اليمن وكانت حلوياته تُحمل هدايا إلى خارج الوطن، وانتهاءً بالبعداني والجُلب وبروق والكوكباني في الجحملية, وطرمبا العداهي وبقلاوة الحشيبري في (باب الكبير)، ورواني وكنافة السرور في حارة الميدان، وسمبوسة ياسين في شارع 26 سبتمبر. 
تتبدى المدينة بمعالم تكاد أن تصبح علامة رمضانية مميزة. في المدينة القديمة يتحول (مقهى الشعبي) في (السمسرة) إلى قبلة للكبار والصغار. وكأس شاي في مقهى ابن الحاج يعدل المزاج. وعلى مقربة منه مطعم علي مدرة الذي يوفر لزبائنه (مدار) الفول الممزوجة بالآلة (خضار وجبن تعزي)، ومعه مطاعم (مدهش) و(طبز). وفي (باب موسى) هناك (بيت عطير) للبطاط والبيض والباجيه. وانتقالاً إلى الأعلى تفيض مطاعم (حوض الأشراف) بسحور مميز قوامه الفتة مع الحليب والعسل. 
هي الحالمة التي كانت لياليها الرمضانية تتزين بزحام شارعي 26 سبتمبر والتحرير، واستراحات فندق الإخوة وجبل صبر بإطلالات بديعة على مشاهد المدينة. 

أضواء أخيرة
لرمضان نكهته في هذه المدينة، ففي السابق كان الناس يضيئون خارج بيوتهم إحياء للياليه المباركة، وتنتشر ألعاب الأطفال وفوانيسهم والدراويش... وابتهالات الرجال وزيارات النساء وأناشيد الأطفال المصحوبة بإيقاعات دقات العلب الفارغة و(يا مساء جينا نمسي عندكم...)، و(رمضان جانا.. هييي هييي...). 
في رمضان كانت الملاعب حاضرة بقوة في مدينة تعز. على ملعب كلية التربية بحي (الكامب) وملعب الشهداء بالعرضي, تنطلق المنافسات الكروية بمشاركة فرق الشركات والجامعات والأندية... وتحت الأضواء الكاشفة كانت الكرة تتدحرج منذ زمن طويل قبل أن توقفها الأقدام القاتلة والمدمرة لمشهد الحياة الرمضانية واليومية أيضاً في المدينة التي كانت حالمة ذات يوم.