طلال سفيان/ لا ميديا

حركة مد هجومي عدواني مجنون على مدينة الحديدة، قابلتها حالة دفاع وطني بطولي أدت إلى جزر الموجات الهائلة لقوى العدوان إلى أطراف الساحل الغربي للمحافظة على مسافة 70 كم جنوباً.. ففي مثل هذا اليوم من الشهر الفائت, وصلت رأس الأفعى إلى مشارف المدينة، وتمكن أبطال اليمن من نزع نابها ودق رأسها واستئصال جسمها على عدة محاور.. لتعود معها عروس البحر للعب دورها التاريخي المفضل كحائط صد متين تتكسر عليه أمواج الأطماع الاستعمارية.
مثلت مدينة الحُدَيدة وميناؤها منذ حقب طويلة الدعامة الاقتصادية الرئيسية لخزينة الدولة اليمنية، ورافداً متنوع الموارد، ومنفذاً رئيسياً لدخول الواردات السلعية التي تغطي أغلب المحافظات الشمالية ذات الأكثرية السكانية في البلاد.
هذه المدركات، وضعت الميناء، بل المدينة برمتها، كهدف محتمل لقوات تحالف العدوان ومرتزقتها؛ مما استدعى حشد القوات وتقدمها نحوه برّاً وبحراً، أملاً بسقوطه والسيطرة عليه، في عملية شهدت مشاركة عسكرية أمريكية بريطانية فرنسية إسرائيلية (بحسب اعترافات هذه الدول)، واستخدمت فيها القفازات الإماراتية السعودية، ومعها جحافل من المرتزقة الخارجيين (السودانيين) والمحليين (اليمنيين).. وتحت يافطة مهترئة تبعث على الضحك والغثاء في آن.. زعم من خلالها إعلام العدوان بأن الميناء المحاصر من قبله يستخدم لتهريب الأسلحة الإيرانية إلى صنعاء، وأن الحوثيين يستخدمون موارده الجمركية في رفد عملياتهم العسكرية.
لم يمر أسبوعان من الهجوم على الحديدة وهدوء العاصفة بعد تمكن أبطال الجيش واللجان الشعبية المسنودين بالحاضنة التهامية، من صد الهجوم العدواني، حتى عادت المعركة إلى أوجها في مركز التحيتا.. لتلوح الأوراق مجدداً عن معركة السيادة والكرامة اليمنية، بعد أن تكشفت الوجوه القبيحة لمجموعة العدوان في التهام الساحل الغربي من باب المندب جنوباً حتى ميدي شمالاً، والمركز الأساس هي مدينة الحديدة. 
في ظل الهجمة الشرسة على الحديدة من قبل جوقة العالم الاستعماري الجديد، لابد من استقراء ما تمثِّله مدينة الحديدة من أهمية ديموغرافية في أجندات قوى الغزو والعدوان، وربطها بالعامل التاريخي الذي مرت به المدينة والشريط الساحلي الغربي بشكل عام.

ديموغرافية المدينة العروس
تحتل محافظة الحديدة موقعاً جغرافياً متوسطاً بين محافظات الشمال اليمني ذات الكثافة السكانية المرتفعة، في جزء من الجهة الغربية للبلاد، على أراضٍ أغلبها سهلية صالحة زراعيّاً، بساحل طويل يمتد على الضفة الشرقية للبحر الأحمر بطول 300كم، يبدأ من مديرية اللحيَّة شمالاً حتى مديرية الخوخة جنوباً، ويبلغ عدد سكانها 2,157,552 نسمة، محتلة الترتيب الثاني بعد محافظة تعز، وفقاً لنتائج التعداد السكاني لعام 2004. 
وتنتشر قبالة سواحل محافظة الحديدة أكثر من 40 جزيرة، كبراها جزيرة كمران المأهولة بالسكان، وعلى بعد 100 ميل بحري من مضيق باب المندب يقع أرخبيل حُنيش، الذي تنتظم جزره قبالة سواحل مديرية الخوخة، ومن أبرزها: حنيش الكبرى، وحنيش الصغرى، وسيول حنيش، وكذا جزيرة زقر، التي يوجد فيها أعلى قمة جبلية في البحر الأحمر، بارتفاع يصل إلى 2047 قدماً (624 متراً) فوق مستوى سطح البحر، فيما يتفاوت بُعد كل منها عن ساحل محافظة الحديدة بين 20 و45 ميلاً بحريّاً.
ويعد ميناء الحديدة ثاني ميناء يمني بعد ميناء عدن، وأحد أكبر الموانئ على البحر الأحمر، ويقع، تقريباً، في منتصف الساحل اليمني المشاطئ له. ويتصل بمناطق انتظار السفن عبر قناة ملاحية طولها 11 ميلاً بحريّاً، وعرضها 200 متر، ويمكنه استقبال السفن التي تصل حمولتها إلى 31.000 طن، وغاطسها 9.75 أمتار، وطولها 200 متر، ويمر منه في الوقت الراهن أكثر من 70% من واردات الغذاء والمساعدات الإنسانية في ظل حصار مطبق على الميناء من قبل التحالف الأمريكي السعودي.
وتبلغ مساحة الميناء الداخلية حوالي 3 ملايين متر مربع، ويضم 8 أرصفة، إجمالي طولها 1461 متراً، وبغاطس 10 أمتار في حالة الجزر، إضافة إلى رصيفين آخرين في حوض الميناء، طولهما 250 متراً، تُفرَّغ فيهما شحنات ناقلات النفط ومشتقاته الأخرى، كما يتبع الميناء عدد آخر من الساحات الواسعة الواقعة إلى جانب مرفقه الرئيس. 
إلى جانب ذلك، يتمتع الميناء بعدد من المزايا البارزة، منها: قربه من الخطوط الملاحية العالمية، عدم تعرضه للرياح الموسمية، تمتعه بالحماية من الظواهر الطبيعية (أمواج، ورياح، وتيارات مائية).. وقد تعرض ميناء الحديدة وهذا المرسى لعدد من هجمات طيران التحالف العربي منذ بداية العدوان في مارس 2015، نجم عنها أضرار كثيرة في الوسائل والمعدات.

أمواج.. وفولاذ
ارتبط تاريخ مدينة الحديدة، وسواحل تهامة عموماً، والجُزر التابعة لها، بموجات الغزو الأجنبي الطامع في اليمن، وهو ارتباط يكاد يكون ملازماً لكثير من مدن الساحل اليمني؛ ذلك أن اليمن لم يشهد في تاريخه غزواً عبر حدوده البرية، مثلما حدث مع حدوده البحرية. وكان من بين موجات الغزو التي تعرضت لها الحديدة، الحملات الاستعمارية البرتغالية والإنجليزية, أما العثمانيون فقد اتخذوا منها عام 1848 قاعدة عسكرية للانطلاق نحو مدن الهضبة في شمال البلاد.
خلال الحرب العالمية الأولى (1914-1918)، قَصفت سفنُ البحرية البريطانية المدينة مرتين؛ الأولى عام 1915، والثانية عام 1918. وبرغم ذلك لم يفقد الميناء أهميته كواحد من الموانئ القليلة التي ظلت مفتوحة أمام الملاحة البحرية، ثم أصبحت المدينة مركزاً هاماً في البحر الأحمر. وما إن تخلى العثمانيون عنها إثر هزيمتهم في هذه الحرب، حتى وقعت في قبضة الإمام محمد الإدريسي حاكم عسير، ثم استعادها الإمام يحيى حميد الدين عام 1925، لتقع، بعد ذلك، في قبضة الدولة السعودية، بعد أن سير الملك عبدالعزيز جيشه بقيادة الأمير فيصل، وبدعم بريطاني، واستطاع اختراق الساحل باتجاه ميدي ومن ثم وصل إلى مدينة الحديدة في 5 مايو 1934، مقابل تقدم القوات اليمنية في مناطق عسير، ثم انسحب منها ابن سعود مجبراً بعد 15 يوماً، بموجب اتفاقية الطائف في العام ذاته.

جزيرة الفنار - كمران
أهمية موقع اليمن وشواطئه على البحر الأحمر وخليج عدن والبحر العربي منذ القرن السادس عشر، جعلت منه موقعاً للأطماع والصراع السياسي والعسكري والاقتصادي من قبل الدول الاستعمارية، والتي سعت إلى فرض سيطرتها بالقوة على هذه المنطقة، حيث كان أول صراع فيها أثناء التدخل البرتغالي في 1513م، عندما حاول البرتغاليون بسط نفوذهم على بعض المواقع الساحلية في جنوب البحر الأحمر والمحيط الهندي واحتلال جزيرة كمران وجزيرة سقطرى لغرض تأمين سفنهم في طريقها إلى الهند، وقد نشط المماليك ثم العثمانيــــــون لطرد البرتغاليين من الجزر الكبيرة والمهمة مثل جزيرة كمران التي استعملت كموقع عسكري ومحطة رقابة على حركة النقل البحري ومركز للحجر الصحي للحجاج, وبالمثل كانت جزيرة ميون التي استخدمت لتموين السفن والإشراف على مضيق باب المندب.
الجزيرة اليمنية الكبيرة (كمران) التي تطل بوجهها الباسم نحو الحديدة, كانت هي الأخرى في وجه المدفع، إذ احتلها البرتغاليون عام 1513م، والمماليك 1515م، ثم عاد البرتغاليون إليها مرة أخرى عام 1517م بقيادة لوب سوليز، ومن ثم احتلتها بريطانيا عام 1867م، وطردهم منها العثمانيون عام 1882م، وأسسوا فيها محجراً صحياً للحجاج، ومرة أخرى عاد البريطانيون لاحتلالها مجدداً في الحرب العالمية الأولى حتى تم إجلاؤهم منها عام 1967م. 
وقد أنشأ الاحتلال البريطاني مطار كمران عام 1932م، بعد أن احتل الجزيرة عام 1915م، وكانت تنطلق منه الطائرات الحربية لضرب ميناء مصوع وأسمرا أثناء حربها مع الإيطاليين، وشهد مطار كمران عام 1940م نشاطاً تجارياً من خلال فتح الخط المدني الجوي الذي ربط الجزيرة بعدن.

بالونة عملية الثعلب
منذ ولادة الدولة الصهيونية البغيضة على التراب الفلسطيني بعملية قيصرية بريطانية عام 1948, لم تكن مدينة الحديدة بعيدة عن دائرة الدولة اليهودية.. ففي صيف عام 1972م وفي مدينة الحديدة تم إلقاء القبض على أخطر ضباط الموساد الإسرائيلي (باروخ مزراحي)، وكشف عن خططه التي كانت وراء رحلته إلى ميناء الحديدة، إذ اعترف بأن المخابرات الإسرائيلية كلفته بجمع معلومات عن الميناء والسواحل اليمنية، وخاصة البوابة الجنوبية للبحر الأحمر ومضيقه الاستراتيجي باب المندب والجزر الاستراتيجية المتحكمة بالمدخل وخليج عدن، والتقاطه صور للميناء.
وفي 1976 قامت طائرات مجهولة بالتحليق فوق قطاع باب المندب وقصفه، اتضح في ما بعد أنها كانت طائرات إسرائيلية اتجهت غرباً فوق الأجواء الإريترية قبل استقلالها عن إثيوبيا التي كانت ترتبط بعلاقات متينة مع إسرائيل، وتقدم تسهيلات جوية وبحرية، وكان الهدف من القصف هو معرفة حجم تواجد الحامية العسكرية اليمنية في باب المندب، وما تملكه من أسلحة وإمكانات دفاعية ومدى استعدادها للرد والتصدي لأي اعتداء.
وازداد الاهتمام الصهيوني بمنطقة البحر الأحمر تحديداً بعد حرب أكتوبر عام 1973، عقب إغلاق مصر الملاحة أمام السفن الإسرائيلية، لفرض حصار اقتصادي عليها، حينها بدأت إسرائيل محاولاتها لإيجاد بديل لحل مشكلة الملاحة بالتغلغل في المنطقة الجنوبية للبحر الأحمر, وعبر الشط الغربي الأفريقي لهذه البحيرة تكلل النجاح الصهيوني في إيجاد بقع لقدمه في جزيرتي مصوع ودهلك وهضبة دقمحري الإريترية، بعد أن جرى توقيع اتفاقية أمنية إريترية إسرائيلية في فبراير 1996، لتشكيل 3 قواعد عسكرية في البحر الأحمر.
ومع انطلاق العدوان السعودي الأمريكي على اليمن في مارس 2015, ظهرت على الأفق الأهداف والأطماع في نهب ثروات اليمن الكبيرة، وكذا موقعها الاستراتيجي، حيث أعلن تحالف العدوان السعودي الأمريكي في أكتوبر 2015 عن سيطرته على 5 جزر يمنية، ومن بينها جزيرة ميون التي تعد مفتاح باب المندب.
ليصبح معها الجزء الجنوبي للبحر الأحمر (غرباً) مضماراً رحباً للقواعد العسكرية الإسرائيلية والبريطانية والفرنسية، قبل أن يلتحق بهم التنين الصيني والرجل التركي المريض, وقبة حديدية تحت إمرة الأدميرال الأمريكي (شرقاً)، في مرحلة مفصلية تحاول التهام كعكة الساحل اليمني من باب المندب وميون حتى الحديدة وميدي التابعة لمحافظة حجة، بمساعدة كل الوجوه الدميمة.