بشرى الغيلي/ لا ميديا

لم تتوقع (ص. م - 22 عاماً) أنها ستواجه موقفا مستفزا يجعلها تصل إلى شقيقتها ثم تنهار باكية.. تقول (ص): (أرسلتني والدتي لأحضر الفساتين من بيت الخياطة بالحارة المجاورة، قبل المغرب بدقائق. وبينما كنتُ في أحد الأزقة حيث لا يوجد الكثير من المارة، وإذا بأحدهم يرفعُ ملابسه الداخلية ويقفُ أمامي، ليكشف عن عورته، حينها أسرعت الخُطى لاهثة صوب بيتنا، مرعوبة مما واجهت من قذارة وخسة وانحلال أخلاقي). وتضيف: (لاحظت والدتي اصفرار وجهي، وازرقاق شفتي، فقالت: لماذا تبدين مرعوبة؟ فقلتُ لها أنني وجدتُ مجموعة من الكلاب في الحارة فخفت ورجعت بسرعة، والحمد لله أنها اقتنعت. لكنني ما إن دخلتُ إلى شقيقتي في الغرفة وأغلقنا علينا الباب حتى أجهشتُ بالبكاء، خشية أن تسمعني أمي، لأنني لم أستطع أن أخبرها بحقيقة ما حدث)..  (ص) لو كان لديها وعي بالقانون وأن ما تعرضت له هو تحرش جنسي ويسمى قانونياً بـ(العمل الفاضح والخادش للحياء) لأبلغت عن الشخص المتحرش بها، لتشارك في الحد من انتشار تصرفات ضعفاء النفوس، ومن تخلوا عن قيمهم ومبادئهم.

صمتهن خطيئة أخرى
أجبرهن المجتمع والتقاليد على الصمت، وغرست فيهن تربيتهن أن من العيب على أي فتاة أن تُبلغ عن أي متحرشٍ يعترضها في طريقها، فيقال لها: سمعتك تطير في الهواء إن تحدثت! وهكذا صارت الفتاة تسكتُ وفي قلبها ألف غصّة من المضايقات التي تواجهها يومياً، في الجامعة والمدرسة والباصات والأسواق وعبر مواقع التواصل الاجتماعي، حتى في الطريق العام لا بد أن تواجه المتحرشين، سواءً باللفظ، أو بإيماءات وحركات تنم عن تدنٍّ أخلاقي لدى بعض الشباب.

 تركت مقعد الدراسة
جملتا تهديد كانتا كافيتين لتدمير مستقبل (س. أ - 18 عاماً)، الطالبة المجتهدة والمتميزة في مدرستها.
عائلة (س. أ) أصابهم الذهول أن ابنتهم قررت مغادرة مقعد الدراسة، ولا يدرون سبباً لمغادرتها، حيث كانت على وشك التخرج من الثانوية العامة، فقبل الاختبارات النهائية بشهرين فقط، أصرّت (س. أ) على ترك المدرسة نهائياً، مغلقة على نفسها باب غرفتها لتتحاشى محاولات الأهل إقناعها ومعرفة الأسباب. وخلال لقائي مع (س) ومحاولاتي إقناعها بالتحدث عن معاناتها، فتحت قلبها ولخصت قصتها:
(كنتُ دائماً من الأوائل في مدرستي، لا وقت لديّ أن أتحدث مع أحد، من البيت إلى المدرسة، والعكس. وبما أن المدرسة مختلطة كان هناك زملاء ينتظرون خروجي من بوابة المدرسة ليُسمعوني أقذع العبارات التي لم أتوقع أنني سأسمعها في يوم ما... مثل: لا بد لكِ من يوم يا حلوة مننا كلنا! أو كصيغة تهديد : الأيام بيننا يا قمر...)!
تضيف (س): (من الطبيعي أن أخاف على نفسي من الفضيحة إن تعرضت لمكروه، ففضلت أن أترك الدراسة)!.. تلك الحقيقة المُرة التي لم يعرفها أهل (س. أ)، وصمتها عما كانت تلاقيه من أذى من زملائها، أدتْ إلى هذا القرار الخاطئ بحقها في التعليم، ومواصلة تفوقها.

أخاف التسوق بمفردي!
الكلمات التي تسمعها أي فتاة تمر في الشارع، أو المواقف التي تحدث أمامها، تجعلها تُعيد النظر في كثير من الأمور، لتتجنّب الوقوع في نفس المواقف، وتتخوّف من أي ردة فعل, مثلما حدث مع (ع. ي - 20 عاماً) التي صارت تتحاشى الخروج للسوق بمفردها، مهما كانت احتياجاتها، وتضطر إلى انتظار شقيقاتها حتى يخرجن. تقول (ع. ي): (كنتُ يوماً ما مارةً بأحد الأسواق العامة وإذا بي أرى شابين يتبعان فتاة،  ويسمعانها أسوأ الكلمات، وحين ضاقت ذرعاً بتصرفاتهما صاحت بأعلى صوتها لعل أحداً يساعدها ويوقفهما عند حدهما؛ لكن أحداً لم يأبه لها، نظراً لازدحام السوق. ضاع صوتها وسط الزحام، فخلعت فردة حذائها وقذفت بها أحدهما، وإذا بمن يشاهدون الموقف يعيدونه على البنت المسكينة، وبدلاً من معرفة السبب الذي دفعها لفعل ذلك، فسّر كل من حولها تصرفها بأنه قلّة أدب). تضيف (ع) أن الفتاة عندما كانت تصيح لم يسمعها أحد، وحين دافعت عن نفسها أصبحت هي الملومة، وذلك قمة الظلم، حسب تعبيرها، بل إنها تعرضت لإهانات بأنها (تهاوز) (تعاكس) الشباب، و... و... ، تضيف: (بصراحة انكسرت نفسي، كوني رأيتُ الموقف بأمّ عينيّ، وكون المجتمع يحمّل البنت كل أخطائه، وصرت لا أخرج بمفردي، تحاشياً للمتحرشين، الذين لم يتركوا للناس المحترمة شيئاً).. التحرش له عواقب وتأثيرات سلبية على نفسية الفتاة، وحرمانها من العيش كإنسانة لها الحق في تصرفاتها وممارسة حياتها الطبيعية، لا أن تعيش فوبيا التحرش والانعزال، كما هي حالة (ع. ي).

عقوبة المتحرش
هناك من يلقين اللوم على عدم وجود قوانين تُجرم تصرفات المتحرشين، وعدم ردعهم، غير أن المحامية نجلاء محمد اللساني -مديرة الدائرة القانونية بالمكتب التنفيذي لاتحاد نساء اليمن-  ترد بالقول: (هناك قوانين تجرم ما يسمى الفعل الفاضح والمخل بالحياء، والذي يُعرف بأنه كل فعلٍ ينافي الآداب العامة أو يخدش الحياء... كما أن المادة (274) تنص على أن عقوبة مرتكب الفعل الفاضح علانية الحبس مدة لا تزيد على 6 أشهر، أو الغرامة، وعقوبة ارتكاب الفعل الفاضح مع أنثى في المادة (275) الحبس مدة لا تتجاوز سنة، أو غرامة لا تتجاوز ألف ريال).
وترى اللساني أن من الحلول الرادعة: تشديد العقوبة، وإشهار تنفيذ العقوبة، لأن اللاتي يتعرضن للتحرش عادة ما يسكتن عن ذلك، وعدم السماع بمعاقبة متحرش سببه السكوت وعدم الإبلاغ، لأن الفتاة تخاف على سمعتها من دخول قسم الشرطة أو النيابة. وختمت المحامية اللساني حديثها بالقول: (على أي فتاة تتعرض للتحرش أن تتقدم ببلاغ، ليتم الحد من التحرش الذي أصبح في كل مكان). 

 تأثير نفسي... وانعزال عن المجتمع
وللتحرش تأثير نفسي خطير على من تتعرض له، لدرجة أن البعض منهن دُمرت نفسياتهن تماماً، والبعض فضّلن العزلة عن المجتمع. وترى زينب الأسدي (أخصائية نفسية) أن السبب الرئيس لظاهرة التحرش يتمثل في: (ضعف الوازع الديني، والتنشئة الاجتماعية، مما يجعل الفتاة تتأثر نفسياً بشكلٍ قد يؤدي إلى العزلة والابتعاد عن المجتمع، لذلك يجب أن تكون هي المعالج النفسي لذاتها، بأن تؤهل نفسها للرجوع إلى حالتها الطبيعية، وممارسة أعمالها اليومية, وأن تتخلص من المشاهد السلبية، وتفكر بطريقة إيجابية، بأن التحرش جريمة مثل أي جريمة، لا تحدث لها كل يوم، وأن هناك رجالاً فيهم الشهامة والشجاعة والمروءة والصرامة، ويجب أن تتمتع بقوة شخصية، وقدرة في السيطرة على المواقف، ولا تضع نفسها في دائرة الضعف).

غياب التوجيه الأسري
(الفراغ والبطالة، وغياب التوجيه الأسري، والنظرة الدونية للفتيات وممارسة العنف ضدهن، وضعف الأخلاق والقيم، وحالات الحرب والصراع، وغياب القانون الرادع)، من أبرز عوامل انتشار ظاهرة التحرش الجنسي، من وجهة نظر الأخصائية الاجتماعية في المساحة الآمنة وكبير مدربي برنامج الدعم النفسي الاجتماعي، رضية المسوري، والتي تضيف: إن الحرب ساعدت في انتشار حالات التحرش في ظل غياب القانون الرادع، وما حدث قبل أيامٍ لشابٍ وأخته ذات الــ13 ربيعا خير دليل، حيث طعنوه عدة طعنات وأردوه قتيلا، كل ذلك لأنه دافع عن عرض أخته، التي حاولوا التحرش بها وسط شارعٍ مكتظ بالناس، ولم يجد الشاب من يساعده في ردعهم).

ظاهرة ترتبط بثقافة المجتمع
(التحرش ظاهرة موجود في كل المجتمعات البشرية، لكن تتفاوت نسبة انتشارها وآثارها وكيفية مواجهتها، من مجتمع لآخر بحسب الثقافة السائدة في المجتمع، فبعض هذه المجتمعات تنكر وجود الظاهرة، وفي حال ظهرت حالات تحرش فإنها تدين الضحية، وتلتمس للمتحرشين الأعذار والمبررات)،  ذلك ما قالته الأخصائية الاجتماعية باتحاد نساء اليمن ريهام الرداعي، التي تضيف: ( وبعضها الآخر يعترف بالظاهرة ويشير إليها باستحياء، دون أن يتخذ تجاهها أي إجراءات واضحة، كونه يتجاهلها بدعوى أنها مازالت حالات فردية ولم تتطور إلى ظاهرة وبدعوى أن مناقشتها والخوض فيها يسيء لسمعة هذا المجتمع أو هذه الدولة، متناسين أن التغافل عنها وتجاهلها يسهم بشكل كبير في زيادة انتشارها).

عوائق اجتماعية واقتصادية
ومن ناحيته، يقول وليد مانع، إعلامي، إن أسباب انتشار ظاهرة التحرش تتلخص في العوائق الاجتماعية والاقتصادية التي تحول بين الشباب وبين إقامة علاقات طبيعية مشروعة مع النوع الآخر، فينحرفون نحو هذه الأساليب المعيبة، ويتواطؤون مع بعضهم فيها تواطؤاً ضمنياً.

المعالجات
تقترح الأخصائية ريهام الرداعي بعض المعالجات للحد من هذه الظاهرة مثل: (تبني استراتيجية وطنية لمواجهة الظاهرة، تشمل التعريف بها، وتكثيف الحملات التوعوية بأضرارها ومخاطرها، والتوعية في المدارس والجامعات، وتوفير خطوط ساخنة مع المختصين لمساعدة ضحايا التحرش، وأن يكون هناك تكاتف اجتماعي على كل المستويات لمكافحة الظاهرة).

آخر الأوراق
اتفقت جميع الآراء على تكثيف الجهود، وتنفيذ حملات توعوية تبيّن مخاطر ظاهرة التحرش وأضرار السكوت عليها، وكذلك إعادة النظر في بعض التشريعات القانونية بما يحمي الفتاة، أسوة ببعض البلدان التي تعاقب المتحرش. وهنا نأمل أن تكون أول المبادرات في التوعية المكثفة اتحاد نساء اليمن، كونه المكان الذي تلجأ إليه الفتاة عند كل طارئ، وكونه يمثل صوتها الأقوى الذي يساندها، ويقفُ معها ويشعرها بإنسانيتها وأن من حقها أن تمارس حياتها دون أذى من أحد، كائناً من كان، وكذلك الجهات المختصة، ووسائل الإعلام المختلفة.