صلاح الدكاك / لا ميديا -

أعترف بأنني كنت مغفلاً كبيراً عندما قررت السفر إلى المهرة براً، فقد أردت توفير ثمن تذكرتي الطيران، معتقداً أن "القرش الأبيض ينفع في اليوم الأسود" على حد المثل المصري، غير أنني اضطررت ـ في نهاية المطاف ـ لأن أدفع 20 "باكو ـ بالمصري أيضاً" هي ثمن تذكرتي طيران مضافاً إليه ثمن تذكرة سفر إلى المكلا عبر البر يمكن اعتبارها مجتمعة ضريبة "سوء تقدير" وبقليل من الصدق "ضريبة غباء".
كانت الأمور تسير على ما يرام والباص يراقص راكبيه "الفالس" في طريقه إلى المكلا، وكان "القات الرداعي" قد بدأ يفعل فعله في رؤوسنا عندما ملت على أذن جاري الحضرمي الذي يحتل المقعد أمامي مباشرة، وسألته سؤالاً وجيهاً جداً: كم تستغرق الرحلة من المكلا إلى الغيضة عن طريق البر؟!
وأجاب بنرجسية حضرمية معهودة: يومان! وبدت إجابته مزحة سخيفة في نظري، فكررت السؤال وتلقيت الإجابة نفسها وتبخر معها مفعول القات الذي "خزنته" طوال 10 سنوات دفعة واحدة من رأسي.. وأنا الذي توهمت أن المسافة بينهما مجرد "بسقة أو رجمة" باللهجة الشرعبية.. ومن يومها وأنا أفكر جدياً في إعداد دليل موسوعي يكون عنوانه "اعرف وطنك" قد يخدم ـ على نحو ما ـ أولئك الذين يأنسون في أنفسهم الجهل بوطنهم، فالقضية ليست قضية جغرافيا إنما قضية وطن!
وكم سيكون مناسباً أن نستبدل الشعار الحدودي القديم "وطــــن لا نحميه لا نستحقه"، بشعار آخر "وطن نجهله لا نستحقه".. مهما يكن فإنه من الجميل أن تعرج على المكلا ولو عن طريق الخطأ وقد اضطررت -راغباً- لتمضية 3 أيام هناك بانتظار رحلة طيران الأحد، وهي إحدى رحلتين خلال أسبوع تقلع فيهما الطائرة بين المكلا والغيضة، إلى جانب رحلة الثلاثاء..

45 دقيقة مع الأشغال الشاقة
تعامل المضيفة الجوية ركاب الرحلات الداخلية معاملة زوجات الباشوات لفلاحي الصعيد، بتأفف ونفور واضحين، وتنصحك بربط الحزام حول خصرك بينما ترغب لو أنها تلفه حول عنقك، وتتمنى لك رحلة سعيدة، والحقيقة أنها لا تتمنى ذلك إلا لأن مصيركما واحد، وتقدم لك علبة العصير الوحيدة وهي تتمتم في سرها "مطرح ما يسري يهري"، ويصلك صوتها عبر "المايكرفون" بنبرته النحاسية ليخبرك بأن زمن الرحلة هو "45 دقيقة" بينما هو 45 سنة وتأبيدة مع الأشغال الشاقة بالنسبة إليها... هذه هي تجربتي الثالثة في السفر ضد جاذبية الأرض على متن طائرة، والمهرة محافظة يصعب تمييز ملامحها من ارتفاع 21 ألف قدم، وحتى عندما هبطت الطائرة إلى أقل من نصف هذا الارتفاع لم أشاهد سوى ما يشبه "مكعبات نرد" متناثرة على مساحة 93 ألف كيلومتر مربع، هي تماماً مساحة محافظة المهرة الممتدة كصفحة بيضاء من الجغرافيا تبلل أطرافها الجنوبية زرقة البحر العربي، وتكبح جماح تضاريسها المندفعة شمالاً المملكة العربية السعودية وشرقاً سلطنة عمان، وتستلقي على الشق الصحراوي منها حدود حضرموت غرباً. وتتألف هذه المحافظة البكر من 9 مديريات تضم 12 عزلة ومركزاً و105 قرى يعيش فيها أكثر من 489 تجمعاً سكانياً، ويبلغ إجمالي عدد سكانها أكثر من 201.769 نسمة تتركز غالبيتهم في المديريات الواقعة على الساحل، أما المناخ فمعتدل بمحاذاة الشريط الساحلي، وصحراوي في الأجزاء الأخرى، وتهطل الأمطار بغزارة صيفاً على المناطق الساحلية من المهرة، وفي الوقت الذي لا تساعد هذه الأمطار في الزراعة، فإن هطولها الغزير على الجزء الشرقي وعلى مدى 3 أشهر يُحيله إلى منتجع صيفي بديع يقصده السياح من دول الجوار تحديداً، علاوة على الوافدين من مختلف المحافظات الأخرى، مستغلين ذلك التجلي الزاهي للطبيعة لاسيما في مديرية "حوف" الحدودية التي تشاطر سلطنة عمان حيازة الجبل الأخضر.

كونتيسة فرنسية
يلعب الحظ لعبته معي أحياناً، وها هو أحد أقاربي يلوِّح لي بيديه من خلال زجاج البوابة الرئيسية لمطار الغيضة. لقد حضر لاستقبالي دون شك. وعندما تهبط على تراب المهرة الملتهب ذات يوم ستدرك معنى أن يستقبلك أحد أقاربك هناك، وأن تقلك سيارته إلى سكن مجاني مشفوع بثلاث وجبات في مدينة كالغيضة ينقصها الكثير لتكون مدينة، ولا تزال تتعثر على عتبات التحول إلى غابة من الإسمنت.. إنها عاصمة المحافظة، غير أنه لا عاصم لك فيها من التشرد، ففنادقها التي لا يتجاوز عددها أصابع اليد الواحدة، تتعاطى مع النزلاء بعملتين "الأخضر، والعربي"، وهي عملات لا تزور محفظة صحفي محلي إلا بمقدار ما يزور "مذنب هالي" سماء كوكب الأرض، وتقدم لك المطاعم وجبات لا تشبه ما تعرفه من وجبات إلا في أسمائها، وعليك أن تتعود ـ حتى إشعار آخر ـ أن تتناول طعامك على طاولات كانت بيضاء ذات يوم، وكيف تتنازل عن نصف طعامك لقطة هائمة على وجهها وذباب يتكالب على مائدتك، كما يتكالب عمال الحراج على فرصة عمل وحيدة بعد أسبوع من الانتظار، وأحياناً يكون عليك أن تترك "الطبق مستوراً"، فالغوص كثيراً فيه يوقظ كائنات غريبة تتمدد بسلام في القعر، ويفترض ألا تفسد عليها أحلامها، ولا تبحث عن طباخ ماهر، فالجوع وحده هو أمهر طباخي المهرة.
حتى اللحظة لا تزال الغيضة مدينة بلا كهرباء ولا مياه، وهي تعتمد في جانب الإنارة على مولدات صغيرة تجارية، وفي المياه على الآبار و"البوزات" الخاصة، ويبقى على المشترك سداد فواتير كهرباء باهظة الثمن تصل في المتوسط إلى 7000 ريال شهرياً، وتتجاوز هذا الرقم صيفاً بزيادة استهلاك الطاقة في مواجهة الحر كما هو الحال في محافظات الساحل عموماً. وتفتقر الغيضة لشبكة مجارٍ حديثة، وخلال السنوات الـ6 الأخيرة شهدت المدينة نشاطاً عمرانياً ملحوظاً، غير أن الأمر لا يحتاج إلى الكثير من الفطنة لتكتشف اعتباطية هذا النشاط من خلال  الانتشار العشوائي للأبنية والتوسع غير المدروس بعناية، علاوة على شبكة شوارع ضيقة تتقاطع وتفترق وتلتقي بصورة تثير أعراض حمل مبكرة لدى الرجال.. سيقول أحدكم: إنها صفات تشترك فيها غالبية مدن اليمن! نعم ولكن الغيضة إلى وقت قريب كانت لاتزال لوحة عذراء لم تطمثها ريشة، وكان في وسعنا أن نرسم عليها أجمل المشاهد، ونسقط على بياضها أحلامنا في مدن لا تترك لنا الفرصة لخيانتها على طريقة الرجل الشرقي عندما يخون زوجته لأنها لا تتجمل، مدن تلبس في الصباح بزة عامل ياباني، وفي المساء فستان "كونتيسة فرنسية" مدعوة إلى حفل عشاء وسهرة.. مدن توفر لك كل رغباتك المشروعة بدءاً بأريكة على الساحل وانتهاء بـ"ستاد رياضي" وصالة مغلقة للرماية.. والغيضة في شكلها الحالي هي مجموعة منازل صفيح بطوابق عديدة رغم أنها تبيض ذهباً في صندوق التحسين، والتعلل بالإمكانيات هو استهبال فاضح، وفي المهرة اليوم مقولة يتهامس بها العامة مفادها "اعطني خمسمائة طن شروخ، أعطك إمارة كالشارقة".
إنه لعبءٌ ثقيل أن نمتلك وطناً بهذه السعة والرحابة، ثم نعجز عن استغلاله وإعماره على النحو السليم، فكيف يغدو الحال عندما ينزع ـ فقط ـ في تجيير مزاياه لصالح نشاز الأهواء الخاصة. وكـ"يمنيين" فإننا نعرف جيداً من أين تنهش كتف الوطن، وكيف نبني أرصدتنا الشخصية على حسابه، لكن أحدنا لا يفكر كيف يحافظ على هذه الكتف ويبقي على حصة الأغلبية المعدمة فيها، والمهرة تشهد ـ اليوم ـ سباقاً مسعوراً لنهشها باعتبارها "كتفاً" واعدة، وتحتفظ بالكثير من عافيتها، وتمنح الحكومة صكوكاً عقارية ببذخ للمستثمرين ومنتسبي الجهاز الإداري بغية خلق نشاط اقتصادي في المحافظة وتوطين منتسبيها كحافز يشجع أولئك الموظفين المنقولين للعمل فيها على الاستقرار، والمشكلة أنها تكتفي ـ فقط ـ بمنح الصكوك، ولا تسأل عن مصيرها! لذا فإن تجارة الأراضي البيضاء هي التجارة السهلة والمربحة اليوم في المهرة، فالأمر لا يتطلب أكثر من ورقة طلب وملف "جر" تضعه في الهيئة العامة للاستثمار أو مكتب التخطيط والإسكان، لتعود بقطعة أرض تقوم ببيعها بعد ذلك "باطناً" أو تدخل بها شريكاً لمستثمر فاته زمن العرض ولم يحجز نصيبه من رأس المال السائب هذا.
بلغ عدد المشاريع الاستثمارية المرخصة للعام 2002م على سبيل المثال، 17 مشروعاً في مختلف مجالات الاستثمار، وفي الوقت الذي قدرت التكلفة الإجمالية النظرية لهذه المشاريع بمئات الملايين، فإن قيمة الموجودات الثابتة لاتزال "صفراً" بانتظار أن يرفع المستثمرون طوبة واحدة على الأراضي الممنوحة لهم، وهو ما يبدو أنه لن يحدث طالما ظلت الحكومة تمنح الصكوك، وتصك أذنيها عن مصيرها.

متاعب بالجملة
لا شيء يثير الفضول في الغيضة سوى الفوضى تسحب نفسها على كل شيء، والحياة تمضي أكثر من ساذجة في بادية تحاول أن تبدو كمدينة وتفشل، والشوارع كالسيارات وكوجوه المارة وكالمحلات التجارية بلا عناوين ولا أرقام ولا لافتات، والتاريخ يختفي وراء كل ذلك هو أيضاً بلا عنوان.. لا شيء قديم ولا شيء جديد، وأي شيء يشبه كل شيء، والمدينة تتضخم بشكل يومي لتوفر فرص عمل تكفي لشغل سواعد نصف عمالة حراج صنعاء وتعز وعدن لو عملت الحكومة على تخفيض أسعار المواصلات إلى نصف ما هي عليه حالياً، وغالبية الوافدين على المهرة هم من الباحثين عن فرص عمل والموظفين حديثاً أو المنقولين، ودعونا من المشتغلين بتهريب السيارات والسلع والأدوية وقراصنة الشروخ الصخري، فهؤلاء زوار موسميون وسفراء غير مقيمين، والجميع ـ في النهاية ـ باحثون عن عمل و"مصدر رزق".
وليس هناك من يبحث عن المتاعب سواي، ومتاعب المهرة بالجملة، ولا مناص سوى مديرية حوف لتحتفي بك وتحتمي بها من متاعبك.

حور العين
إنه الـ15 من أكتوبر/ تشرين الأول.. هذا يعني أنني تأخرت قرابة شهر، وكان يفترض أن أحضر باكراً لأفاجئ حوف متلبسة بحالة انتشائها الموسمي، ففي هذا الوقت من السنة تبدأ الطبيعة عدها التنازلي لتسلبها مخمل زهو ظلت تباهي به نظيراتها من مديريات المهرة طيلة 3 أشهر، هي فترة انفلات محاجر الغيـــــوم المثقلــــــة بمطر الشوق ودموع الفرحة بلقاء سنوي طال انتظاره، تتفتح على إثره مسامات حوف وتنشق جبالها عن شفاه ظامئة لقبلات السماء، وتضطجع تربتها لرسول الخصب كعروس محب استسلمت بخشوع لصعقة اللمسات الأولى..
تقع "حوف" شرقي المهرة على بعد 150 كيلومتراً من الغيضة عاصمة المحافظة، وتستغرق الرحلة إليها ساعة ونصف الساعة بالسيارة، وتمضي الطريق محاذية للبحر، وحتى عندما تأخذ هذه الطريق منعرجاً جبلياً، فإن البحر يصر على الاحتفاظ بشعرة "معاوية" معها.. إنه بالفعل يتسلق الجبل، على حد وصف أحد رفاق الرحلة، ويبدأ تسلقه عند "فتك" القرية البحرية الواقعة عند بداية الثلث الأخير من المسافة إلى حوف، حيث تأخذ التضاريس شكلها الجبلي في سلسلة تمتد متوغلة في الأراضي العمانية التي ينتصب الجبل الأخضر كعلامة على حدودها، ويقع جزء منه ضمن مديرية "حوف".
لم تكن المديرية قد خلعت ثوبها الأخضر تماماً عندما انتهت بنا الرحلة وسط أحراشها الجبلية الكثيفة، وكانت الحشائش الخضراء لاتزال تفترش معظم أجزائها، والعشب يصنع تماساً جميلاً مع زرقة البحر، وباستثناء هذه الأمواج يداخلك شعور قوي بأنك في "محافظة إب". ولعل حوف هي المقصودة بذلك الوصف الذي يرد في كتاب "البريبلوس" القديم: "منطقة جبلية وعرة يجللها السحاب". وهي إحدى البقاع اليمنية التي دفعت المؤرخين القدامى إلى تسمية اليمن بـ"بلاد اللبان"، ولعل شجرة اللبان هي الشجرة الوحيدة ذات النفع والجدوى بين الأشجار المؤلفة لأحراش حوف، فهذه لا ينتفع بها إلا كأحطاب عند أفول موسم الخضرة، وقبل ذلك لا تعدو أن تكون ديكوراً جميلاً ومرتعاً للأبقار المنتشرة بأعداد كبيرة هناك. ويجري فريق من المعنيين بقضايا البيئة دراسة لطبيعة حوف بصدد إعلانها محمية طبيعية قريباً بالنظر إلى ما تمتاز به المديرية من تنوع بيئي، علاوة على عدد لا بأس به من الحيوانات البرية النادرة كالسباع والضواري التي تستوطن أحراشها الكثيفة، والسلاحف الأندر بين مثيلاتها عالمياً.
إنها حوف محمية اللبان والغزلان والأخضر المندلق على زرقة البحر، وفي الموسم القادم ستدور الطبيعة دورتها وتعيد لحوف حلتها المخملية لتباهي بها طيلة 3 أشهر، ثم تبدأ عدها التنازلي لتسلبها هذه الحلة الموسمية المثيرة، غير أنها لا تقوى على أن تسلبها إثارة الضفائر المرسلة وحور عيون الشرقيات، وستظل تباهي الطبيعة بجمال لا يعرف موسماً للأفول.

* كتبت مادة الاستطلاع 
في العام 2003