غازي المفلحي/ لا ميديا

قيل إن «الحقائق والأفعال تُرى ولا تسمع». وبناءً على ذلك فإن الإخلاص والحب الحقيقي للوطن يقاس بما تفعله لأجله من موقعك أياً كان، وبقدر ما أعطيته من جهدك، ووقتك وراحتك، وماذا لمس أبناء جلدتك من خير منك، سواءً كنت فرداً عادياً أو في رأس الهرم السياسي أو التجاري أو الاجتماعي أو غيرها من مواقع التأثير. 
رجال المرور في الحديدة مثال وطني عملي يستحق الوقوف عنده، كونهم يترجمون عملاً معنى الوطنية وأنها فعل مخلص وصادق مستمر حتى في أصعب الظروف، عندما يكون الاستمرار غاية في الصعوبة. 

صمود مضاعف 
تعد مهمة شرطي المرور من أكثر مهام عناصر الشرطة مشقة، فهي تحتاج الكثير من الصبر والوقوف لفترات طويلة والمخاطرة الدائمة بالتعرض للمرض، بسبب الوقوف في الشمس الحارقة وتحت الأمطار والرياح الباردة أو المحملة بالأتربة والأمراض، بالإضافة إلى تعرضهم المستمر للغازات السامة المنبعثة من عوادم السيارات التي يقضون ساعات طويلة وهم بينها. أما معاناة رجال مرور الحديدة فهي مضاعفة بسبب العدوان. ومن أكثر ما يشد انتباهك إذا زرت محافظة الحديدة هم رجال المرور الذين يختلفون حقيقة عن غيرهم في بقية المحافظات، فهم في الحديدة يقومون بمهمتهم في تسهيل حركة المرور وليس تصعيبها وعرقلتها، كما يحدث للأسف في محافظات أخرى وخاصة العاصمة، فرجال مرور الحديدة يسهلون حركة المرور في الشوارع فعلاً كما هو موكل إليهم وبكل رحابة صدر، ويمارسون عملهم بكل نشاط وانضباط، يظهر احترامهم لمهنتهم، كل في فترته المحددة، التي أصعبها الفترة من الـ11 ظهراً إلى 3:00 عصراً، حيث تتجاوز درجة الحرارة فيها الـ40 مئوية وبانقطاع رواتب يزيد عن الـ30 شهراً، والحرب مطلة برأسها من أطراف المدينة، وقذائف المرتزقة تسقط كل وقت في أماكن وقوفهم في الشوارع والتقاطعات. 
في كل دوار وشارع في الحديدة هناك رجل مرور يعمل بأمانة وإخلاص، ليس لأنهم يحصلون على رواتب كبيرة أو بدلات كثيرة أو أية مبالغ من هنا أو هناك، ولا لأنهم محاطون بعدسات التصوير والمديح والتصفيق وباقات الورود كالصامدين المترفين الذين قد يختنقون داخل بدلاتهم لو وقفوا نصف ساعة في ذلك المكان وذلك التوقيت، بل يقومون بذلك لنقاء نفوسهم التي تتحرك مع الوطن ولأجل أبنائه، فيسير العمل بأفضل طريقة ممكنة. ورضى المواطنين وحبهم لرجال المرور أكبر مكافأة لهم ودليل على أنهم يقومون بعملهم على أكمل وجه، وهذا ما يمدهم بالصبر والاستمرار في عملهم، حسب ما قال لنا رجال المرور الذين التقيناهم ولمسنا منهم الصبر والوطنية.

على الجميع تلبية نداء الوطن
إن رجل المرور راية وطنية من رايات الصمود في مواجهة العدوان، فهو يؤدي رسالة وطنية وأخلاقية، ودوره في الميدان لا يقل أهمية عما يقدمه المقاتلون في جبهات الدفاع عن اليمن، فهو الصامد طوال 4 أعوام في أداء عمله بكل إخلاص والتزام رغم تدهور الوضع الاقتصادي الكبير وعدم صرف الرواتب في عموم اليمن وفي الحديدة على وجه الخصوص.
في ساعات ذروة الحر الشديد، وبينما الناس يختبئون في بيوتهم وداخل سياراتهم المكيفة، يقف المساعد أول/ عبدالله عايش سالم (46 عاماً) في "دوار كمران" بشارع صنعاء، يؤدي عمله كالمعتاد بصبر ونشاط منقطع النظير. 
أغلب أيام دوامه كما أخبرنا تأتي في واحدة من أصعب ورديات الدوام، وهي من الساعة 11 ظهراً إلى الساعة 3 بعد الظهر.
أخبرنا المساعد أول عبدالله عايش أنه يؤدي مهنته الوطنية هذه منذ عام 1998 ولا يزال مستمراً رغم هذه الفترة شديدة الصعوبة على كل يمني، فرجال المرور كغيرهم من الموظفين بلا رواتب والوضع الاقتصادي في الحديدة واليمن أكثر من سيئ، ولا يؤمن معيشته مع أفراد أسرته الـ6 غير الرعاية التي تصرف لهم كل شهر أو كل شهر ونصف. كما أن المدينة في فوهة الحرب، ولكن هذا لن يدفعه لترك عمله أو مغادرة مدينته التي تحتاجه. وقال: "دافعنا للعمل أننا نؤدي واجباً وطنياً يخدم كافة المواطنين، وننظم حركة السير والحركة العامة والحياة في المدينة التي سنحافظ عليها من الموت الذي يجلبه رعب الحرب".
تجد رجل مرور في كل "دوار" في الحديدة، التي يبلغ عددها 15 دواراً، يتناوبون طوال اليوم في 4 ورديات تبدأ من الساعة 6:30 صباحاً وتنتهي الساعة 3 فجر اليوم التالي.
يقول عبدالله عايش إن رجل المرور صاحب مهنة مقدسة تتمثل في حفظ الأمن وحفظ حياة المواطنين وتأمين حركة السير، والكثيرون لا يدركون صعوبة مهنة رجل المرور وجهوده المهمة في أرض الواقع لتأمين سير الحياة بالشكل الطبيعي ومنع حصول ازدحامات واختناقات قد تصبح فوضىً عارمة بدون رجل المرور.
يشكر عبدالله عايش ويشيد بأهل الحديدة الذين وصفهم بأنهم ودودون ولا يحتاجون للتعامل بشدة معهم، وأن تعامل رجال المرور معهم يكون باللين والأسلوب الطيب، وهناك تناغم بين مرور الحديدة وأهلها. 
أخبرنا عبدالله عايش كذلك أن هناك من توقف عن العمل من رجال المرور بسبب الأوضاع التي خلقها العدوان، وهناك من رحل إلى وجهات مختلفة لا يعلمها، وهناك من توفي وهناك من قتل ولكنهم قليل. وحسب ما أفادنا فإن نحو الثلثين من رجال المرور مازالوا صامدين ويعملون، والذين قال إن لسان حالهم هو أن "هذه بلادهم وسيصمدون فيها كيفما كانت الظروف، والوطن الآن في أمس الحاجة لكل أبنائه ليثبتوا فيه بعملهم في كل القطاعات، المرور والصحة والتعليم والأمن وغيرها".

جبهة المرور
مهمة رجل المرور من المهام التي تحمل مخاطر عالية، إذ يتعرض العاملون فيها إلى خطر الإصابة بأمراض متعددة، وتستلزم توفير رعاية طبية ومهنية ووقاية تستلزمها هذه الوظيفة، كالفحوصات الدورية والتأكد من اللياقة الطبية ووقاية الجهاز التنفسي وبنية الجسم عند رجال المرور، والحرص على التغذية الجيدة ومراجعة الطبيب مباشرة في حال إحساسه بأي مشكلات صحية، غير أن كل هذا لا وجود له في الوقت الراهن في ظل ظروف العدوان وحصاره الممنهج الذي يكاد يوقف عجلة الحياة في البلد، ويهدد بسلب حياة رجل المرور بكلها في أي لحظة، وهم بالكاد يوفرون قوت يومهم ولا وقت أو مال لديهم ليصرفوه على الحفاظ على سلامتهم.
 ومن الأمراض الشائعة التي تظهر لدى رجال المرور حسب ما أفادنا عبدالله عياش وزملاؤه ويعانون منها وأقعدت بعضاً منهم في بيته، هي ضيق التنفس والسعال الشديد، بالإضافة لآلام المفاصل وآلام الظهر وآلام الأقدام بسبب التهاب أعصاب هذه المناطق من الجسم التي تكون تحت ضغط الوقوف لساعات طويلة، وقد أصيب بها رجال مرور لايزالون في الـ40 من أعمارهم وهي تعيقهم عن أداء مهامهم بالرغم من أن هذه الأمراض لا تأتي إلا لمن هم فوق سن الخمسين، بالإضافة إلى التهابات العيون وأمراض القلب غير المباشرة.
وحسب معلومات طبية فإن أغلب هذه الأمراض ناتجة عن الالتهاب الرئوي، وأزمات الربو وضيق النفس، وتشنج القصبات الهوائية، خاصة لمن يعانون من حساسية في الأنف. كما أن الذين يعانون من ضغوطات عصبية وحساسية وأمراض أخرى من رجال المرور يكونون أكثر تضرراً من غيرهم، وكل تلك الأمراض ناتجة عن التواجد في أجواء ملوثة تكثر بها الأدخنة والأتربة، وهذا ما يحصل عند البقاء فترات طويلة في الشوارع بجوار عوادم السيارات التي تطلق الغازات السامة، لكن رجال المرور في الحديدة يقفون كالأشجار رغم تعرضهم لكل أنواع المعاناة والمخاطر وإذا ماتوا فسيموتون في مدينتهم واقفين كما أكدوا، الأمر الذي يجعلنا نقف إجلالاً وتقديراً لهم وهم الصامدون الصابرون في الحديدة وفي عموم اليمن.
 وعلينا كمواطنين أن نحرص على مساعدتهم وتسهيل عملهم من خلال الالتزام بقواعد وقوانين المرور، كما نناشد الحكومة العمل على تحسين ظروف عملهم وتوفير ما يمكن من رواتبهم ومن الرعاية المعيشية والطبية وفق المتاح.