عدن- مهدي الصبيحي / #لا_ميديا -  

ما شهدته مدينة عدن في غضون السنوات الأخيرة، وتحديدا خلال الفترة (2015 ـ 2019) من بيعة الرخص في سوق الحراج «هو شيء لا يطاق»، بحسب تعبير سكانها.. «تغيرات مفزعة»، كما هي شهادات عدد من المراقبين، لما يجري في المدينة من تغيرات وتبدلات في بنيتها الديموغرافية، وحسرة على انحسار مدنيتها وتعمد إسقاطها إلى قاع التخلف والفوضى وتجريفها برياح القروية الهمجية والمناطقية والقبيلية المقيتة، وتهديمها بمعاول الإرهاب والفساد والجماعات المسلحة، في سابقة لم تشهد المدينة مثيلا لها على مدى قرون من تاريخها العريق.
فقد تم الاستيلاء على متنفساتها العامة وسواحلها، والبسط على معالمها التاريخية والأثرية، والعبث بمخططاتها العمرانية الذي وصل إلى درجة البناء العشوائي في شوارعها الرئيسية، كما هو الحال مع ساعة بيج بن الشهيرة التي تم الاستيلاء على مساحتها من قبل مليشيات المجلس الانتقالي، وكما هو حال عبث البناء العشوائي في صهاريج عدن التاريخية، وردم منشآت المملاح، والاستيلاء على حديقة عدن الكبرى في خور مكسر، وتجريف محمية الحسوة الطبيعية في مدينة الشعب، وغيرها من شواهد العبث، ناهيك عن انتشار الجماعات المسلحة ومظاهر حمل السلاح في الشوارع وفي وسائل المواصلات العامة وفي الأسواق وأماكن التجمعات الخاصة والعامة بما فيها مؤسسات الدولة والجامعات. 

تعطيل ميناء عدن الاستراتيجي
يتعرض ميناء عدن الاستراتيجي ومنطقتها الحرة اليوم لأبشع استهداف عدواني ممنهج من قبل سلطات الاحتلال الإماراتي التي تبسط سيطرتها عليه، وهي التي سعت ولاتزال تسعى جاهدة منذ مطلع هذا العقد لشل حركته ومنعه من استعادة نشاطه الحيوي بشتى الطرق والوسائل القذرة؛ من خلال تدمير أنابيب تزويد البواخر بالوقود وإغراق السفن وغواطس وتوربينات شركة أحواض السفن بعد أن تم تدميرها من قبل قوات الاحتلال الإماراتي خدمة لميناء دبي الذي زاد دخله السنوي في الفترة الأخيرة ليصل إلى نحو 300 مليار دولار، بسبب إيقاف وتجميد نشاط ميناء عدن.

إغراق عدن بالجماعات المسلحة والمليشيات الإرهابية
في تقرير مطول أعده غيث عبدالأحد، مراسل صحيفة «الجارديان» البريطانية، كشف كيف حول الاحتلال الإماراتي حياة سكان عدن إلى جحيم، حيث يقول: «قبل 4 سنوات، كان أيمن عسكر في سجن في جنوبي اليمن، يقضي عقوبة بالسجن المؤبد بتهمة القتل. أما الآن، فهو رجلٌ ثري ومهم تتقاطع صداقاته مع الكثير من خطوط الحرب الأهلية المتشظية التي دمَّرَت البلاد. عُيِّنَ عسكر، مؤخرا، رئيسا للأمن في ضاحية كبيرة في مدينة عدن الساحلية في الجنوب. عيَّنَته حكومة اليمن، التي تقصف السعودية، نيابة عنها، البلاد منذ سنوات، لكنَّ عسكر أيضا صديقٌ وحليفٌ للإمارات العربية المتحدة؛ أكثر الشركاء عدوانية في التحالف الذي تقوده السعودية».
ويقول التقرير: «اجتذب السعوديون الجزء الأكبر من استياء العالم بسبب تدخُّلهم الدموي في اليمن، لكنَّ الإمارات تؤدي دورا أقوى على الأرض، وقد عُرِفَ حلفاؤها في الجنوب، بما في ذلك مليشياتٌ محلية ومقاتلون سلفيون، علاوة على انفصاليي جنوب اليمن الذين يريدون الانفصال عن حكومة هادي، بالقتال ضد وكلاء السعودية في البلاد».

أعداء الأمس أصدقاء اليوم
ويواصل التقرير: «واليوم، يتحالف عسكر مع حكومة اليمن والإمارات العربية المتحدة، لكن منذ فترة ليست بالبعيدة كان عسكر عضوا في تنظيم القاعدة، المعادي لحكومة اليمن والإمارات على حدّ سواء. شقَّ عسكر ذو البنية المتينة والرأس الضخم المستند إلى أكتاف واسعة، طريقه إلى أعلى التسلسل الهرمي في حياة السجن: إذ كان يدير متجرا للبقالة في ساحة السجن، ويدير زنزانة للعب الـ«بلاي ستيشن»، وصاحَب أقوى عصابة في السجن، وهي مجموعةٌ من سجناء «القاعدة». كان يصلي معهم، ويحضر دروسهم، وأطلق لحيته، وبدأ في ارتداء أزياء مشابهة لأزيائهم، مع أنَّ أصدقاءه يقولون إنه لم ينضم قط للتنظيم بشكل صحيح، لأنه شديد الانتهازية ليدين بالولاء لقضية واحدة».
ويشير إلى أنه قبل أن يسيطر الإماراتيون على عدن كان عسكر لايزال في السجن. لكن في خضم الفوضى التي أعقبت ذلك، اقتحم مقاتلو «القاعدة» السجن وحرَّروا سجناءه. انضمَّ عسكر للجماعات المسلحة، وقاتَلَ ضد الحوثيين جنبا إلى جنب مع أصدقائه الجهاديين، مُمَيِّزا نفسه بوصفه قائدا ميدانيا شرسا، ومُقسِّما وقته بالتساوي بين القتال والنهب، بحسب الصحيفة البريطانية.
ويضيف: «بعد بضعة أشهر، من سيطرة قوات الاحتلال الإماراتي على عدن وسَّعَ عسكر اهتماماته إلى ما هو أبعد من الجهاد، ففرض إتاوةَ حماية على الميناء وابتزَّ عمولة مقابل كل شحنة تمر. ومع أنَّ الحكومة أصدرت عددا من مذكرات الاعتقال بحقه، فإنه نجا منها جميعا. وسرعان ما صادَقَ الضباط الإماراتيين الذين كانوا قد وصلوا بوصفهم جزءا من القوات التي استولت على المدينة، وأمضى أوقاتاً طويلة في دبي وأبوظبي، عقد خلالها علاقات. وقد كوفِئ على صداقته بعقد نقل مربح، وانتقل منذ ذلك الحين إلى العمل المربح بنهب مساحات واسعة من الأراضي الزراعية حول عدن».
وتابع الصحافي البريطاني: التقيت عسكر في الصيف بينما كان يستضيف أصدقاءه في مزرعته جنوب عدن. كانت المزرعة خصبة وخضراء وهادئة، بعيدة كل البعد عن شوارع عدن المزدحمة الخانقة. كان عسكر يمزح ويحكي قصصا من رحلته الأخيرة بالخارج، بروح دعابة قاطع طريق. إذ استأجر هو وصديق له 3 سيارات مرسيدس بسائقيها، لنقلهم وزوجاتهم وأطفالهم حول منتجعات شرم الشيخ في مصر، وأخذهم إلى الحدائق المائية والشواطئ ومطاعم المأكولات البحرية.
قال عسكر لأصدقائه المُتَحلِّقين حوله: «كان أسبوعا من النعيم. كان الأطفال سعداء للغاية، وكان يمكن للمرء نسيان جميع متاعب الحرب».

أمراء الحرب
وبحسب الصحافي البريطاني، ليس أيمن عسكر سوى أحد الأشخاص الذين أغرق الاحتلال عدن بهم، فهناك خليطٌ من إقطاعيات مُدجَّجة بالسلاح ومناطق فوضوية، يزدهر فيها قادةٌ ومُتربِّحون من الحرب وألف ملك من قطاع الطرق، من عينة أيمن عسكر.. وميليشيات محلية تدعمها وتُموِّلها الإمارات، فضلا عن تنظيم القاعدة وجهاديين آخرين. ويبدل بعض المقاتلين ولاءاتهم وفقا لمن يُقدِّم الأموال.

عدن بعد خروج أنصار الله 
ويصف الكاتب كيف أصبحت عدن تعج بمختلف الجماعات المسلحة عقب خروج الجيش وأنصار الله منها، بقوله: «بين ليلة وضحاها تقريبا امتلأت عدن برجال محليين مُسلَّحين بالبنادق مع «قادتهم»، الذين تجمَّعوا في المدارس والمباني الحكومة والميادين. لم يكن ثمة هيكل، إذ تجمع الأصدقاء والنشطاء والجيران أو الأقارب حول أيِّ زعيم في الحي ذي كاريزما، أو رجل غني أو بلطجي. كان بعضهم سلفيين، وبعضهم انفصاليين جنوبيين، وبعضهم من تنظيم القاعدة، وبعضهم مجرد شباب عاطلين. وفي كثير من الأحيان لم يكن ثمة خطوط واضحة تفصل هذه المجموعات. فقد يكون القائد انفصاليا جنوبيا وسلفيا في الوقت ذاته، وكثيرٌ من الشباب الذين انضموا للجماعات الجهادية لم يفعلوا ذلك لأسباب أيديولوجية، ولكن ربما إعجابا بانضباط الجهاديين وإمداداتهم الوفيرة من الأسلحة. كانت آلاف الاختلافات تفصل بينهم، ويُوحِّدهم أمر واحد: القتال والارتزاق».
ونوه إلى أنه لم تكن كل تلك المجاميع غير منظمة إلى هذه الدرجة، فالسلفيون، الذين أسَّسوا قاعدتهم في ملعب لكرة القدم، في مدينة عدن، كانوا متفانين ومتحمسين ومنضبطين، وسرعان ما برزوا بوصفهم أقوى العناصر. إذ قال لي أحد المشائخ السلفيين، الذي كان يدير قوة خاصة به: «كان السلفيون قد اتخذوا القرار بقتال الحوثيين حتى قبل دخولهم عدن. بالنسبة لنا كانت الحرب دفاعا عن الطبيعة السنية للمجتمع. نحن قاتلنا الحوثيين بوصفنا قوة دينية. قاتل الجميع تحت قيادتنا: الفصائل الدينية، والجنوبيون، وبلطجية الشوارع وحتى «القاعدة». أحيانا كان الأطفال يتوقَّفون عن القتال إذا لم يكن لديهم إنترنت ولم يستطيعوا الدخول على صفحتهم على فيسبوك». وكذا فقد أصبح السلفيون، لأسباب طائفية وأيديولوجية، قناة للأسلحة والأموال التي يرسلها التحالف، ما أدى إلى تمكينهم أكثر.
ويشير عبدالأحد إلى أن الحرب جمعت الحماسة الانفصالية لاستقلال جنوب اليمن، والطائفية السلفية والجهادية المعادية للشيعة. وكان ذلك خليطا متفجِّرا اجتاح المدينة. وكان أيُّ شماليّ في عداد المشتبه بهم، وأُلقِيَ القبض على المئات واحتُجِزوا في الستاد، بتهمة أنهم عملاءٌ حوثيون. وفي شهر ديسمبر 2015 حُفِرَت مقبرتان جماعيتان في مكان قريب.

الإمارات تحرك الانفصاليين
ويفضح التقرير أهداف الاحتلال واستغلالها لأحلام أبناء الجنوب الساذجة، بقوله: «كان للانفصاليين في الحراك الجنوبي آمال عريضة. فللمرة الأولى منذ عام 1994 ـ عندما سحق الشمال الجيش الجنوبي بسهولة لينهي محاولة الانفصال ـ أصبحت مدينة عدن بلا أية سيطرة شمالية. كانت جميع القوى الأمنية في أيدي الجنوبيين، وكانت لديهم أسلحة وحليفة قوية، هي الإمارات العربية المتحدة، التي سيطرت على الجبهة الجنوبية».
ولما كانت الإمارات هي التي تدعم عدن، فقد ظنَّ أهلها أنَّ المدينة سوف تصبح دبي القادمة، وسوف تأتي الكهرباء والمياه والوظائف. وكان قد قال الحاكم المتحمِّس، وهو جنرالٌ سابق عاد من لندن للمساعدة في إعادة بناء المدينة، إنَّ الشركات سوف تتسابق على المدينة. سوف تستعيد عدن مجدها القديم. وسوف يستعيد ميناؤها، الذي كان راكدا قبل الحرب، مكانته السابقة. وسوف تعيد السفارات فتح أبوابها. وفي الشهور التي أعقبت مغادرة الحوثيين عام 2015، كان يحتفى بالإماراتيين بوصفهم مُحرِّرين، وكانت أعلامهم تُباع في أكشاك السوق، وزيَّنَت صور حكامها زوايا الشوارع والأسلحة، بحسب الصحيفة البريطانية.
ويضيف التقرير: «أما في الشوارع، فقد كان الواقع مختلفا. إذ كانت «عدن المُحرَّرة» تشبه المدن الأخرى التي دمَّرَتها الحرب الأهلية التي أعقبت الربيع العربي، مع الدبابات الصدئة المحترقة والعربات المصفَّحة الجاثمة فوق التلال التي تشرف على مدينة من الشوارع المشوهة والمباني المدمرة، المنقلبة بعضها فوق بعض مثل رقاقات خرسانية مسحوقة، وشعب فقير بلا مأوى تحوَّلَ أفراده إلى لاجئين عشوائيين في مدينتهم. حلت عشرات المليشيات في مدينة بلا مياه ولا كهرباء ولا شبكة صرف صحي. أصبحت الحرب رب العمل الرئيسي، وامتلأت الشوارع بمقاتلين يستقلون ظهور شاحنات النقل مُسلَّحين ببنادق آلية ثقيلة. وكان قادة مجموعات المقاومة المتفرقة المبعثرة يطالبون بحصة من غنائم مدينة محطمة فقيرة».
ويستطرد: «قام عدد من قيادات تلك المجاميع ومليشيات الاحتلال، وهم عناصر مرتزقة مثل أيمن عسكر، بالسيطرة على الموانئ والمصانع وأية مؤسسة تولد دخلا، وفرضوا إتاوات حماية خاصة بهم. أما القادة الأصغر، فقد اكتفوا بنهب الممتلكات العامة والخاصة، لاسيما لو كانت الأخيرة ملكا لأشخاص شماليين».
وتابع الصحافي البريطاني: قال لي شيخ سلفي: «عندما انتهت معركة عدن، تُرِكنا في حالة من الفوضى. إذ انقسمت المدينة إلى قطاعات، وكانت كلُّ قوة أو مليشيا تسيطر على جزء مختلف، وتتصادم مع الآخرين».

الاحتلال الجديد والشيخ القواد
ويقول عبدالأحد في تقريره: «بحلول نهاية عام 2015، تعثَّرَت الحرب ضد الحوثيين بسبب التنافس بين أعضاء التحالف، وانتشار المليشيات التي تسيطر على مناطق في البلاد، انحسرت آمال أهل عدن بأنَّ مدينتهم الفقيرة سوف تزدهر بمساعدة إخوانهم الإماراتيين الأغنياء، إلى استياء وخيبة أمل. وكان الشيخ السلفي مقتنعا بأنه يجب فعل شيء ما.
ويضيف: «أصبح الشيخ زائرا معتادا للإمارات، مثل الكثير من القادة اليمنيين، ليتمتَّع بضيافة رعاته الجدد، ويستريح من الوضع المتدهور في عدن. وقال إنه خلال إحدى زياراته إلى أبوظبي، التقى أستاذا جامعيا مسنا ومستشارا لمحمد بن زايد، وليّ عهد الإمارات وقائد قواتها المُسلَّحة. صكَّ الأستاذ الجامعي عبارة جديدة وهي «خلجنة العرب»، أصبحت رائجة بين النخبة الحاكمة في أبوظبي. وبحسب ذلك الأستاذ الجامعي، فلكي ينجح باقي العالم العربي، فإنهم يحتاجون إلى اتباع نموذج ممالك الخليج، أي التخلِّي عن الديمقراطية والتمثيل الشعبي في مقابل توفير الرخاء المالي والأمن. اقتنع الشيخ السلفي بذلك فورا».