استطلاع وتصوير / عادل عبده بشر / #لا_ميديا -

على بعد 100 كيلومتر من العاصمة اليمنية صنعاء، بازدحامها وضجيج شوارعها وأحيائها المكتظة بسكانها المقيمين، إضافة إلى مئات آلاف النازحين إليها بسبب العدوان، يقع عالم مختلف، حيث الحقول والفلاحون البسطاء، ومساحة لا بأس بها من البهجة التي افتقدتها مناطق كثيرة في اليمن منذ سنوات جراء العدوان.
وفي كل عام يستقبل المزارعون في اليمن موسم حصاد البُن بفرحة عارمة وسط مشاركة جميع أفراد الأسرة، رجالا ونساءً، في عملية الحصاد، كنوع من الترابط الاجتماعي في المناطق الريفية، ولكونه مصدراً رئيسياً للرزق داخل الريف اليمني.
صحيفة "لا"، وبالتعاون مع مؤسسة الشعب الاجتماعية للتنمية، عبر "مشروع أنا اليمني"، شاركت المزارعين في قرية "الحُطيب" بمنطقة حراز محافظة صنعاء، بهجة حصاد البن، أو الياقوت الأحمر، كما يطلق عليه المزارعون.

وارد الماء وارديه
لم تكن الشمس قد فارقت مخدعها، حين كان محسن الهماسي- كبير المزارعين في منطقة الحُطيب شرقي حراز- قد ارتدى زيه الشعبي، وأعد عدته للذهاب إلى الحقل والاستمتاع بجني محصول البُن مع نجله علي وأفراد أسرته، حيث يجتمع الرجال والنساء والأطفال في الحقول في موسم حصاد "البُن"، في مشهد يبدو جميلاً، يعكس جانباً من التآلف بين أفراد المجتمع اليمني، وشكلاً من أشكال الصمود في وجه العدوان.
على أصوات المهاجل الزراعية يبدأ أبناء حراز مراسم جني محصول البن بالتقاط الحبيبات من أغصان الأشجار بعناية فائقة ومتعة لا مثيل لها، فما تقطفه الأصابع ليست مجرد ثمار حمراء اللون، وإنما هي مجوهرات تنتجها الأشجار بشكل موسمي كل عام.
يبدأ الحاج غالب، وهو أحد المزارعين في قرية الحطيب، بالتغني بالمهجل الزراعي:
وارد الماء وارديه
وردوها يا جمالي
لا تخلوها ضوامي
فوق ماذا شانحمل
فوق ذا رافع سنامه
ومن وراء الحاج غالب يردد المزارعون هذا المهجل وغيره، كنوع من الاحتفاء بموسم الحصاد، وبما يضيف الحماس للمزارعين أثناء عملية الجني.

الموسم الأفضل
يقول الهماسي: "موسم البن هذا العام يعد الأفضل مقارنة بالأعوام السابقة، وذلك نتيجة للجهود الدؤوبة التي بذلها المزارعون للاهتمام بزراعة البن وإصلاح الأرض وتوسعة الحقول، خصوصاً بعد الحملة التي نفذها أبناء شرقي حراز لقلع شجرة القات واستبدالها بشجرة البن".
وأوضح أن زراعة البن تعتمد بدرجة رئيسية على مياه الأمطار، حيث قام الكثير من المزارعين بإنشاء حواجز لتجميع مياه الأمطار واستخدامها لري أشجار البن.

عملية جني المحصول
وتمر عملية جني المحصول وحتى إعداده للتصدير، بعدة مراحل، حيث يقوم المزارعون بقطف حبيبات البن الحمراء من الأشجار في الحقول بعناية فائقة، وتجميعها في زنابيل صغيرة مصنوعة من أوراق النخيل اليابسة، أو أوانٍ بلاستيكية تُعلق في صدورهم، ثم يتم إفراغ محتويات الزنابيل الصغيرة في زنابيل كبيرة، ليقوم الرجال بعد ذلك بحملها على ظهورهم أو أكتافهم، ونقلها من الحقل، مشياً على الأقدام عبر المناطق الوعرة، إلى شاحنات تنقل المحصول، بعد ذلك، عبر الطرق الجبلية الوعرة، إلى مواقع قريبة، حيث يتم تفريغ المحصول في حاويات مفتوحة كبيرة مخصصة لتجفيفه تحت أشعة الشمس.
وبعد تجفيف المحصول تحت أشعة الشمس لعدة أيام، يتم تنظيفه وتعبئته في أكياس بلاستيكية، وبيعه للتجار المحليين الذين ينقلونه إلى معامل التقشير والطحن، ثم يتم تعبئته في أكياس بلاستيكية أخرى، وبيعه لتجار التجزئة المحليين، في حين يقوم تجار آخرون بتصديره إلى عدد من أسواق دول العالم.
ويتم تصدير البن اليمني حاليا إلى دول الخليج, وإلى اليابان والولايات المتحدة وكندا وروسيا وفرنسا وإيطاليا والدنمارك وألمانيا وتركيا والهند.
وطبقاً لتاجر البن غالب الهماسي، فقد كان المزارعون في منطقة شرقي حراز، قبل عدة سنوات، يقومون بتجفيف البن خلال موسم الحصاد، في أسطح منازلهم، ثم تخزينه وبيعه بكميات متفرقة، والاستفادة من ثمنه، وخلال السنوات الأخيرة تم تطوير عملية التجفيف، حيث يقوم التجار بشراء البن أثناء موسم الحصاد والقيام بتجفيفه في أماكن خُصصت لذلك.
ودعا الهماسي بقية المزارعين في اليمن إلى أن يحذوا حذو أبناء شرقي حراز في اقتلاع أشجار القات واستبدالها بأشجار البن. 
أسرة الهماسي، هي واحدة من آلاف الأسر اليمنية التي تعتمد على محصول البن لتنمية دخلها, حيث يعمل في هذا المجال ما يقارب المليون شخص بدءا من زراعته وحتى تصديره.

حتى آخر رشفة
ويعتبر البن اليمني من أغلى أنواع البن في العالم، لتميزه بالجودة والمذاق الخاص للقهوة التي يتم إعدادها منه، وهي جيدة إلى آخر قطرة.
وتنتشر زراعة البن في العديد من المناطق اليمنية، ومن أشهرها "حراز، صعفان، بني مطر، يافع، الحيمتين، صعدة، العدين، ريمة، وصاب، تعز، المحويت، حجة" وغيرها.. ويزرع في الوديان حيث المناخ الدافئ الرطب، وفي السفوح والمدرجات الجبلية على ارتفاعات تتباين من 700 إلى 2400 متر فوق سطح البحر.

توجه حكومي
منتصف نوفمبر المنصرم، أصدرت وزارتا الصناعة والتجارة، والزراعة والري، قراراً مشتركاً بحظر استيراد البن وقشوره وغلاته إلى اليمن.
وتضمن القرار إبلاغ كافة الدوائر الجمركية في عموم الجمهورية بالتنفيذ، ومنع إدخال أية شحنات من البن والقشر المستورد.
وشدد على ضرورة الالتزام من كافة الأجهزة والجهات المعنية بتنفيذ القرار كل في ما يخصه.
ويأتي هذا القرار في إطار الجهود الحكومية لحماية الإنتاج المحلي من البن وقشوره وغلاته من المنافسة غير العادلة، استناداً إلى قانون التجارة الخارجية رقم 16 لسنة 2007م، وضمن حزمة من الإجراءات والبرامج التي تهدف إلى تشجيع التوسع في زراعة البن اليمني كأحد أهم المحاصيل النقدية وأشهر أنواع البن في العالم.
ويعتبر القرار بداية الطريق الصحيح للاهتمام بأهم الثروات اليمنية التي جرى إهدارها خلال العقود الماضية.
ووفقاً لبيانات الإحصاء الزراعي، فان مساحة زراعة البن في اليمن شهدت تراجعاً نسبياً من 34 ألفاً و652 هكتاراً عام 2014م، إلى 33 ألفاً و544 هكتاراً في 2017م، فيما بلغت الإنتاجية من هذا المحصول 20 ألفاً و59 طناً مقارنة بـ18 ألفاً و767 طناً خلال الفترة نفسها.

شهرة عالمية
كسب البن اليمني شهرة عالمية كبيرة باعتبار اليمنيين كانوا السباقين في زراعة شجرة البن واكتشاف حبوبه كمشروب له مذاق خاص، وإدخال البن كسلعة تجارية تم نقلها من موانئ اليمن (وأشهرها ميناء المخا) الذي أطلق عليه اسم "موكا" لاشتهاره بتصدير البن اليمني، إلى أطراف العالم، قبل 8 قرون.
وكانت أول صفقة للبن في ميناء المخا اشتراها الهولنديون عام 1628, ثم استمروا في جلبه إلى مراكزهم في شمال غربي الهند وبلاد فارس، ومن ثم إلى هولندا التي بدأ فيها بيع البن اليمني لأول مرة عام 1661م.
ونجحت تجارة البن اليمني نجاحا باهرا بعد أن اكتشفت جودته العالية وقهوته المتميزة بنكهة مختلفة عن جميع أنواع البن في العالم. 

أمنيات تتحقق
ينتظر المزارع اليمني بشغف موسم حصاد البن كل عام، حيث يرتبط موسم الحصاد بالكثير من الأمنيات والمشاريع التي يتطلع المزارعون إلى تحقيقها واحداً تلو الآخر، ومن بينها مشاريع الزواج وبناء المنازل واقتناء السيارات وتكوين تجارات مختلفة.

مشروع "أنا اليمني"
أنا اليمني.. برنامج وطني توعوي، أطلقته مؤسسة الشعب الاجتماعية للتنمية في العاصمة صنعاء، بتاريخ 8 ديسمبر 2018م، بحضور رسمي وإعلامي وشبابي. 
يهدف البرنامج إلى تجسيد الهوية اليمنية، وتعزيز روح الوطنية والتلاحم والشموخ لدى المجتمع اليمني، وتعميق الوحدة الوطنية، والتصدي لكل دعوات الانفصال والمحاولات الخارجية لتفتيت يمن الوحدة والجمهورية، وبث التفرقة والطائفية والعنصرية بين أبنائه.
كما يهدف البرنامج إلى إبراز الشموخ والحضارة اليمنية، والتأكيد بأن الإنسان اليمني منذ قرون عدة شامخ وحر أبي هامته تعانق السماء وجبينه لا يركع إلا لله. ويقدم البرنامج العديد من الأنشطة التوعوية والثقافية والخدمية عبر تنفيذها بالمشاركة بين أوساط الشباب، وحالياً يوجه البرنامج مشاريعه وأنشطته للاهتمام بالزراعة والتنمية المستدامة.