تحقيق/ نشوان دماج / لا ميديا -

مؤسسة انضباطية صرفة، تتبع الأوامر وتتقيد بالتعليمات، وتتصرف وفق شيء اسمه الأمر العسكري. ذاك ما يتبادر إلى الذهن عن مؤسسة اسمها التوجيه المعنوي.
وقد تعني تلك المؤسسة للكثيرين حياة صارمة، من الصعب أن تخلق إبداعا؛ لأن الإبداع بذاته حالة خلق لا تطيق التقيد، ولا تجيد الالتزام. ذلك صحيح إلى حد ما؛ لكنه ليس حكما نهائيا، فقد نجد في هذه المؤسسة الانضباطية متسعا للإبداع، لا نجده في أكثر جهات الإبداع نفسها، يسمو الفن فيها إلى أعلى ذراه، ويتحول الفعل المأمور فيها إلى فعل آمر، ومن انضباط إلى رفض، ومن «نفّذ بالأمر العسكري» إلى «أنا الشعب يا فندم».

مردة في الأدب والفنون
تلك صرخة لأحد منتسبي تلك المؤسسة، لا شك أنها ظلت دويا في أذني ذلك الـ«فندم» وفي آذان «فنادم» آخرين أتوا وسيأتون. وهي أيضا قصة التوجيه المعنوي اليمني؛ المؤسسة الانضباطية التي خرج من عباءتها مردة في الشعر والغناء والأدب والإعلام اليمني، لا يقلون شأنا عن رفاقهم من السلك المدني. 
وبالتالي قد تنطبق تلك المقدمة على مؤسسات عسكرية في بلدان أخرى. أما الجيش اليمني أو مؤسسة التوجيه المعنوي في اليمن، فلا.
المسألة هنا تتعدى شيئا اسمه «التوجيه المعنوي» بمعناه التقليدي، فكل جيش لديه ذلك الشيء، وتتعدى حالة ثورية مؤقتة تنحصر بمجموعة أناشيد وطنية، بل هي حالة فنية وأدبية خالصة، وفي الوقت نفسه حالة ثورية مستمرة، لا يتسع لها الزي العسكري ولا المؤسسة العسكرية ذاتها. فكان لها أن تتفجر وتكسر في طريقها كل طوق. ويُحمَد لتلك المؤسسة أنها لم تقف بوجهها، بل كانت سبيل عون ومدد إلى حد كبير؛ على الأقل في فترة ما من عمر الجمهورية.

المروني شاعر الجيش
كانت ثورة الـ26 من سبتمبر بمثابة نداء فجّر مكنونات دفينة لدى غالبية اليمنيين، فلبوه بكل طاقاتهم. وجد الفنانون والأدباء والشعراء أنفسهم، كغيرهم من أبناء الشعب، في خضم الدفاع عن ذلك النداء الذي لم يكن سوى صوتهم هم.
كانت الثورة حدثا مهيبا. أذيع في أول أيامها بيان الجمهورية الأول: هنا صنعاء.. إذاعة الجمهورية العربية اليمنية. بدأ الإرسال الإذاعي على الموجة المعتادة بنشيد «الله أكبر يا بلادي كبري». كان مدير الإذاعة حينها الأستاذ أحمد حسين المروني. شرع الملازم علي قاسم المؤيد والشباب المتواجدون في الإذاعة، وهم: محمد عبدالله الفسيل وعبدالعزيز المقالح وعبدالوهاب جحاف وعبدالله حمران وصالح المجاهد، بإعلان بيانات الثورة وأهدافها. 
وطالما أن الحديث هنا عن الكوادر الإبداعية التي خرجت من عباءة الجيش، فإننا سنجد المناضل والشاعر الكبير أحمد حسين المروني يأتي في مقدمة هؤلاء، فقد كان ضابطا في الجيش؛ كما أنه كان مديرا لإذاعة صنعاء قبل الثورة. وهو الذي يقول عنه الزبيري مخاطبا إياه: «... (إنك) قوة وطنية كبرى شدت في أزرنا ورفعت من رؤوسنا، وسدت ثغرة في تجمعنا وتكتلنا ما كانت لتسد إلا بك». ويقول عنه الأديب أحمد جابر عفيف: «هذا المناضل العملاق يمثل لهذا الجيل وللأجيال القادمة قدوة ومثالا أعلى من حيث الفكر والثقافة والسلوك والموقف الوطني والتمسك بالمبدأ، ورفض الظلم والاستبداد والتخلف، والصدق مع النفس ومع الآخرين، والإيمان بحتمية التغيير». 
كما يقول عنه الدكتور عبدالعزيز المقالح: «كان الأستاذ أحمد حسين المروني ومايزال من أبرز أساتذة الأجيال التي تلاحقت وصنعت التغيير الشامل الذي يكبر ويتعمق ويتجسد بالعطاء الخصب المتلاحق». 
أما الأستاذ عبدالله البردوني فيقول عنه في كتابه «رحلة في الشعر اليمني قديمه وحديثه»: «عرف أحمد المروني في أول تجاربه الشعرية، وذلك في الأربعينيات، بأنه شاعر الجيش لحماس شعره وعسكريته... فالرجولة تطفح من شعر المروني، والحماس يمتد من بيت إلى بيت». ويضيف في موضع آخر عن شخصية المروني: «فهو عذب الروح عذب النكتة والحديث، مستقيم الأخلاق، رفعته الجندية والأفلاطونية عن الميوعة واللهو الرخيص. حتى إنه أنِف الغزل أو انعدمت بواعثه فيه لغلبة الجدية عليه على شيوع هذا اللون في مجايليه...».

قامات إبداعية
سنجد أيضا داخل المؤسسة العسكرية قامة شعرية كبيرة، هو الشاعر عثمان أبو ماهر، صاحب كلمات «يمينا بمجدك يا موطني»، النشيد الذي لحنه وغناه الفنان أحمد المعطري. كذلك سنجد شاعر القوات المسلحة العميد عبدالله معجب، صاحب المعلقة الشهيرة «سبتمبر المجد»، والتي يقول مطلعها:
يا ثورة الشعب يا منهاج وثبتنا    يا صيحة الحق يا فردوس عليانا
سلاحنا أنتِ والفكر المضيء لنا    وأنتِ في السعي والإبداع رجوانا
كما سنجد من أبناء هذه المؤسسة الفنان أحمد حنيش، الذي يقول الفنان الآنسي إنه أستاذه بامتياز. وكذلك الفنان القدير إبراهيم طاهر، صاحب أنشودة «أنا يمني واسأل التاريخ عني أنا يمني»، والتي ليس ثمة يمني إلا ووعاها في قلبه كتعويذة. كان الفنان إبراهيم طاهر عميد المعهد العسكري للموسيقى، وبذل جهودا جبارة في تخريج فرق فنية كثيرة، وعازفي قانون عديدين أمثال عبدالباسط الحارثي وأحمد الخالدي.
وماذا لو وجدنا أن هذه المؤسسة استطاعت حتى استيعاب هامة بحجم البردوني، الذي كان أصلا من المساهمين في تأسيس التوجيه المعنوي، فأشرف على عدد من صحف ومجلات الجيش. كذلك الأمر بالنسبة للشاعر الكبير عباس المطاع، كاتب الأنشودة الخالدة «لبيك يا يمن الحضارة والخلود» التي غناها الفنان علي الآنسي. سنجد أيضا قامات غنائية كبيرة أمثال علي الآنسي وعلي السمة ويحيى العرومة وأحمد المعطري ومحمد الحرازي وعصام الأخفش وغيرهم.
إذا وجدنا كل ذاك، فكيف يمكن لنا أن نظل نعتبر هذه المؤسسة الإبداعية الخصبة مجرد دائرة توجيه معنوي في قوات مسلحة ما؟! الأمر يتجاوز ذلك بكثير. 

الآنسي يصدع بأول نشيد ثوري
بعد أسبوع من الثورة، تشكلت في إذاعة صنعاء فرقة من عدد من الفنانين (قاسم الأخفش، السنيدار، الحارثي، السمة، حمود زيد عيسى وآخرين). صدع علي الآنسي من ميدان الشهداء في تعز بأول نشيد ثوري «جيشنا يا جيشنا»، من كلمات وألحان الفنان علي أحمد الخضر. كان الآنسي حينها في تعز، جنديا في مفرزة الحجرية، بمعية أخيه العميد أحمد الآنسي، فيما حسه الفني موجه نحو ما يحتدم في الجنوب من أغان ثورية رافضة للاحتلال البريطاني. قبل أنشودة «جيشنا يا جيشنا» كان الآنسي قد أعد «باسم هذا التراب». كانت الأغنية كأنها إيذان منه إلى نفسه بالثورة، قبل أن يسمع نداءها في صنعاء فيلبيه من ميدان الشهداء في تعز بالنشيدين معا. إنما لايزال ثمة نشيد آخر أعده الآنسي قبل الثورة، وهو نشيد «في السهول والجبال». وفي مقابلة إذاعية للمتألق علي أحمد السياني، يتحدث الآنسي في نهايتها عن ملابسات أنشودة «في السهول والجبال» وأن ثمة سببا كان يحاول دائما أن يتحاشاه معها، لكن الحقيقة لا بد منها في نهاية الأمر، حسب قوله. يقول الآنسي إن القصيدة هي لمحمد البدر، ولي عهد المملكة المتوكلية، وإنه «كان ثمة أبيات فيها تتحدث عن ولاية العهد، خصوصا وأن الآمال كانت حينها معقودة على محمد البدر كولي للعهد، فقلت للأخ علي صبرة لا بد من حذف هذه الأبيات حتى أغنيها. كانت القصيدة تتحدث عن وحدة التراب، فلحنتها على أساس أنها أغنية وحدوية، بعد أن حذفت منها ما يتعلق بولاية العهد، ولم يكن تلحيني وغنائي لها على أنها أغنية للثورة؛ على عكس «باسم هذا التراب» الذي كنت قد أعددته كنشيد للثورة».

لم يعد الغناء «جريمة» يعاقَب من وُجد متلبسا بها
وبالرغم من أن علي الآنسي كان قبل الثورة جندياً في الجيش المتوكلي، إلَّا أنه آثر أن تجده الثورة الفتية في زي مدني، فتحوَّل نحو الإذاعة والإعلام حتى حين.
تحدث الآنسي عن أول لحن له على «التنَك» «كل الناس بعد الزين» والذي غناه في ما بعد الفنان أحمد السنيدار، وعن أول عود حصل عليه وهو في ريعان شبابه، فألقاه والده في التنور، غير قابل بأن يكون ابنه فنانا. «مع أنه كان يميل إلى الفن ويطرب له؛ إنما لم يكن ليقبلها من ابنه على الإطلاق»، يقول علي الآنسي في تلك المقابلة الإذاعية. 
كان الفن يعتبر دنساً، والمطرب لا يجالسه أحد ولا يتحدث إليه أحد ولا يسير معه أحد، هكذا يتحدث الفنانون عن تلك الفترة من حياتهم.
والآن، وعند سماع صوت الثورة، ها هو الفنان أخيرا يخرج إلى الضوء شاهراً عوده، لم يعد الغناء «جريمة» يعاقَب من وُجد متلبسا بها. ولم يعد الشيخ قاسم الأخفش في وارد أن يلف عوده ببطانية فيشعر كأنه يسير صوب «الرادع» (اسم لأحد سجون الإمام)، ولا في وارد أن يخرج خائفا يترقب «أدخل إلى الناس في ظلمة، وأغني في ظلمة، وأعود إلى منزلي في ظلمة» (ظلمات بعضها فوق بعض). 
لم يعد له أن يفر بعوده وصوته إلى عدن كملاذ أخير لهما، مثلما اضطر إلى ذلك من قبله الشيخ محمد الماس، هربا من سطوة وهابية عششت في ذهنية الحاكم «الزيدي»، بحيث لم يعد لها من شاغل إلا تتبع أولئك المساكين والوقوف لهم بكل مرصاد. كان الفكر الزيدي قد انحسر إلى مسائل واجتهادات متزمتة، فأصبح يولي اهتماماً بالغاً بـ«هذا حلال وهذا حرام»، بعد أن كانت الزيدية مفهوما محضا يتلخص معناه وفحواه ومضمونه وجوهره في شيء واحد: الثورة.

إذاعة صنعاء في قلب المعركة
كانت إذاعة صنعاء هي المنبر الوحيد للتواصل بين أبناء الشعب، وفي مواكبة أحداث الثورة. حضرت في ميدان المعركة، وغطت جميع المعارك. وفي الميدان السياسي والمدني، اضطلعت بدور بارز في تناول الأنشطة والتطورات السياسية للدولة الفتية. واكبت كل ذلك الزخم بالعديد من البرامج الثورية، استقبلت المفكرين والأدباء والفنانين.
لم يكن التوجيه المعنوي قد تأسس بعد؛ إذ لم يتأسس إلا عام 1964 تحت مسمى «إدارة الشؤون العامة»؛ وربما مع زيارة عبدالناصر إلى اليمن في أبريل 64. وبالتالي تولت إذاعة صنعاء منذ اليوم الأول للثورة ذلك الدور، وأدت مهمتها بجدارة. حشدت طاقاتها وكوادرها إلى الجبهات، زارت كافة المواقع القتالية، واكبت البطولات التي يسطرها أبطال الجيش دفاعا عن جمهوريتهم الفتية، حشدت الأغاني الثورية لتقاتل جنبا إلى جنب مع رصاص الثائرين. «قذيفة» الفنان أحمد السنيدار كانت حاضرة في صدارة كل معركة. لم يأل الفنانون ولا الإعلاميون ولا الشعراء جهدا في القتال إلى جانب رفاقهم في السلاح. ولذلك عندما تأسس التوجيه المعنوي للقوات المسلحة، لم يكن له أن يخرج عن المسار الذي كانت قد رسمته إذاعة صنعاء.


تأسس التوجيه المعنوي عام 1964 تحت مسمى «إدارة الشؤون العامة». وبالتالي كانت إذاعة صنعاء طوال تلك الفترة من عمر الجمهورية هي المنبر الوحيد للتواصل بين أبناء الشعب، وفي مواكبة أحداث الثورة. حضرت في ميدان المعركة، وغطت جميع المعارك. واضطلعت الإذاعة بدور بارز في تناول الأنشطة والتطورات السياسية للدولة الفتية. وواكبت كل ذلك الزخم بالعديد من البرامج الثورية، وحشدت الأغاني الثورية لتقاتل جنبا إلى جنب مع رصاص الثائرين. لم يأل الفنانون ولا الإعلاميون ولا الشعراء جهدا في القتال إلى جانب رفاقهم في السلاح. ولذلك عندما تأسس التوجيه المعنوي للقوات المسلحة لم يكن له أن يخرج عن المسار الذي كانت قد 
رسمته إذاعة صنعاء.

رصيد من الأغاني والبرامج الوطنية في جبهات القتال
ومن أبرز ما سنجده في أجندات التوجيه المعنوي حينها البرنامج الإذاعي الشهير للفنان والإعلامي الأستاذ حمود زيد عيسى، صاحب نشيد «أخي المهاجر زمان الفرد قد ولى»، من كلمات الثائر سالم أحمد السبع، والذي سُجل في إذاعة صنعاء أول الثورة، ونقصد به برنامج «صالح علي» في السبعينيات، الذي جاب الجبهات هو وصاحبه، بمعية مدير التوجيه حينها نعمان المسعودي. 
صوت مصر كان حاضرا بكل عنفوانه في مؤازرة «ثورة اليمن السعيد ثورة الشعب المجيد». ليس ثمة من يمني حينها إلا وحفظ ذلك النشيد الثوري للفنانة المصرية فايدة كامل التي زارت اليمن في ذلك العام نفسه (1964)، مع فريق من الفنانين والممثلين والإعلاميين المصريين. 
«جادت مصر إلى الدرجة التي لا يمكن لليمنيين إلا أن يظلوا ممتنين لها على الدوام»، هكذا تحدث لصحيفة «لا»  العقيد محمد صالح عباس، نجل الشاعر الكبير صالح عباس، ورئيس منتدى ثقافي مهتم بقضايا الفن والأدب، مؤكدا : «نحن في الشمال يجب أن نشكر كلا من مصر وروسيا لما قدمتاه من عطاء كبير لثورة الـ26 من سبتمبر. ففي الوقت الذي تكالبت فيه على تلك الثورة كل رجعيات العالم، بدءاً بمملكة بني سعود ومشيخات النفط، مروراً بإيران الشاه، وانتهاءً بالعدو الصهيوني، كانت مصر وروسيا واقفتين إلى جانب الثورة». 
وبخصوص الزخم الثوري الذي كان يعيشه اليمنيون حينها، يضيف العقيد محمد عباس: «لا تستطيع الفصل بين عسكري ومدني، ولا بين نضال مدني ونضال عسكري؛ فالكل حاضر والكل مشارك. وكذلك الأمر بالنسبة للفنانين؛ لا تستطيع أن تفرق بين عسكري ومدني، سواء من حيث رصيد كل واحد منهم من الأغاني الوطنية أو من حيث حضورهم في جبهات القتال».

فرقة المسرح العسكري
كان الفنان أحمد المعطري حينها مكتفيا بصوت بندقيته في القتال دفاعا عن الجمهورية. التحق بركب الجيش منذ الأيام الأولى لقيام الثورة، وتحديدا في 12 أكتوبر 1962، منضما إلى صفوف القوات البرية. في العام 1969 سجل لإذاعة صنعاء أول أغنية له بعنوان «سمراء شاوية». كان حينها مايزال ضابطا في القوات البرية، فتم استدعاؤه للعمل في التوجيه المعنوي. بعد انتقاله، أسس في 1971 مسرح الفنون العسكرية. شكل فرقة المسرح العسكري مستعينا بمثيلتها في مصنع الغزل والنسيج (وأي دهشة يمكن أن تحدث للمرء بأن كان لمصنعٍ فرقة مسرحية!). 
قدم المسرح العسكري في السبعينيات أعمالا كثيرة لكتاب مسرحيين كبار، أمثال محمد الزرقة وعبدالكافي محمد سعيد وآخرين، مثل مسرحية «شمس النهار» و«الجندي المستجد» و«كل له عالمه الخاص»، وغيرها. لم يتركوا معسكرا ولا ثكنة من ثكنات القوات المسلحة إلا وزاروها، بحسب المعطري.
«كان المرحوم أحمد صالح الأبرش أول من طلبته من الفنانين إلى المسرح العسكري. أما الفنانون الذين كانوا ضباطا أساسيين في الجيش، فهم بحسب الترتيب الأبجدي: إبراهيم طاهر، أحمد المعطري، عصام الأخفش، علي السمة، علي حنش، يحيى العرومة... وآخرون لا تحضرني أسماؤهم»، يقول الفنان أحمد المعطري، قبل أن يستأنف: «بالنسبة للفنانين أمثال علي الآنسي وأحمد السنيدار ومحمد الحارثي وغيرهم، فهؤلاء كانوا مدنيين، وتم ضمهم إلى التوجيه المعنوي عندما كنت أنا مديراً عاما للمسرح».
ويضيف: «عمل الجميع كفريق واحد، جسّده ذلك النشيد الخالد «خالدٌ أنت يا يمن»، من كلمات الأستاذ أحمد الخزان، وألحان عبدالصمد القليصي، وأداء مجموعة من الفنانين، وهم بحسب التسلسل الأبجدي: أحمد السنيدار، أحمد المعطري، عبدالكريم علي قاسم، محمد الحارثي، محمد الخميسي، يحيى الأخفش. سافرنا بالنشيد إلى شتى المحافظات».

فترة الرئيس الحمدي الأخصب في تاريخ اليمن الحديث
أما أول نشيد وطني للفنان أحمد المعطري فهو «يميناً بمجدك يا موطني»، من ألحانه وكلمات الشاعر عثمان أبو ماهر. «قُدم النشيد لأول مرة سنة 1971، في أول حفل لافتتاح المسرح العسكري. ولا أستطيع أن أجيب على سؤالك كيف كان صدى النشيد، لأنني سأكون مادحا لنفسي». 
يضيف المعطري، ولكن هذه المرة بتحفظ شديد يجعلك تستغرب، أنه غنى لحركة 13 يونيو بقيادة الرئيس الشهيد إبراهيم الحمدي، «لأنها كانت الحركة الوحيدة التي يمكن أن نعتبرها تصحيحا فعليا لمسار ثورة الـ26 من سبتمبر. ولأن عهد هذا الرجل كان خصبا على كافة المستويات السياسية والثقافية والفنية». 
يوافقه العقيد محمد صالح عباس بالقول إن «فترة الرئيس الشهيد إبراهيم الحمدي كانت من أخصب الفترات في تاريخ اليمن الحديث رغم قصرها الشديد، حيث لم تتعدَّ 3 سنوات. وهذا ليس رأيي وحدي على أية حال؛ بل إن هناك إجماعا يكاد يكون كليا حول شخصية الحمدي عند كل من يمكن أن تصادفهم من ضباط وعسكريين ومدنيين ومثقفين وأناس عاديين من أوساط الشعب. لكن هذا لا يمنع من سلبيات كانت للرجل، لاسيما في الفترة الأخيرة من حكمه، منها أنه سمح بإنشاء ما يسمى المعاهد العلمية، وفصلها عن وزارة التربية والتعليم. فكان ذلك مواصلة لما اتفق عليه مشائخ الرجعية (دينيين وعشائريين) مع الرجعية السعودية على تنمية التخلف وتدمير البنية الثقافية والفنية التي كانت قد بدأت تخطو خطاها بفعل ثورة سبتمبر، وكذلك نشر الإسلام السياسي (الوهابية) في تلك المعاهد لتخرج لنا أجيالا كارثية سيعاني المجتمع اليمني منها طويلاً، ومازال يعاني إلى اليوم. كما أن من سلبياته أنه خلف شخصيات كارثية في عدد من الجهات الحكومية، ومنها تلك التي ظلت ترأس دائرة التوجيه المعنوي للقوات المسلحة طويلا لدرجة السأم، وكذلك الشخصية التي رأست وزارة الإعلام والثقافة في ما بعد، عندما كانت الوزارتان ماتزالان وزارة واحدة. وطالما أن الحديث هنا عن الحراك الثقافي والفني والإعلامي الذي كانت تعيشه دائرة التوجيه المعنوي في القوات المسلحة، فإن هاتين الشخصيتين، ودون أن أكون بحاجة إلى أن أسميهما، هما في رأيي المسؤولتان عن انحسار الجانب الثقافي عموما والفن الغنائي على وجه الخصوص؛ بحيث أصبح الفنانون، وأعني الجدد منهم بطبيعة الحال، ليسوا أكثر من فناني أعراس، أو فناني مناسبات خاصة بالفندم الفلاني والقائد العلاني». 
ويضيف عباس: «عندما ننظر في الجانب الإبداعي لمؤسسة التوجيه المعنوي قبل أن تقضي عليها تلك الشخصية، أو قبل أن تعيدها إلى مجرد توجيه معنوي، سنجد أنها كانت مؤسسة تتعدى اسمها وتتجاوزه إلى فضاءات أرحب. فهي لم تكن خاصة بمجرد إعلام عسكري وعلاقات عامة بين مؤسسات الجيش الأخرى. وأستطيع القول بأن التوجيه المعنوي في اليمن كان أقوى من أي توجيه معنوي في الجيوش العربية. فهو في اليمن الصحافة والأدب والمسرح والفن الغنائي والفرق الموسيقية، وهو الجزء الأكبر من تلك الشخصيات العظيمة التي صنعت الوعي عند الإنسان اليمني بشكل عام، ثقافة وغناءً وأدباً وصحافة ومسرحاً وفناً، من عبدالله البردوني إلى الفنان التشكيلي عبده الحذيفي. كان لذلك التدفق أن يستمر ويتجدد لولا أن جاء ذلك الرجل، فبدأ عهد الكبت والاعتقالات، وعاد التوجيه المعنوي إلى مهامه في الجيوش الأخرى، إعلاما عسكريا وعلاقات عامة. غدا الشعر تغنيا بهذه الزعامة أو تلك، وتمجيدا لشخصها الكريم الذي أصبح هو الوطن؛ فرأينا أغنيات من تلك التي لا يمكن إلا أن تصبح عارا ونقطة سوداء في سجل صاحبها». 
واختتم عباس حديثه للصحيفة قائلا: «كانت فترة الحمدي جميلة، لكنها ورّثت آفات سيعاني منها التعليم والثقافة والفن عموما».

السمة يلطم وزير الثقافة والإعلام من أجل الآنسي
شخص آخر من قدامى ضباط القوات المسلحة، اشترط على الصحيفة عدم ذكر اسمه، يروي عددا من المواقف بطلها تلكما الشخصيتان مع الفنان علي الآنسي على سبيل المثال، باعتبار أنه كان ملاصقاً له في أكثر أوقاته، حسب قوله. الموقف الأول للشخصية التي تسنمت تلك الأيام وزارة الإعلام والثقافة. استدعت ذات مرة الفنان علي الآنسي إلى مكتبها، وكان معه الفنان علي السمة، وراحت توجه حديثها المسف نحو الآنسي بشكل مستفز وصوت مرتفع، لدرجة أن السمة لم يتمالك نفسه، فتوجه مباشرة نحو ذلك الصوت صافعاً بلطمة من يده خد الرجل، وقائلاً في نفس الوقت: من يقولوا لأبوك تتطاول على هامة بحجم الآنسي؟! برر الآنسي موقف الرجل معه، محاولا تهدئة صاحبه، بأنه في حالة مخمورة. لكن السمة لم يعتبر ذلك مبرراً، فقال: يسكر في بيته.
تنهد صاحب القصة منتقلا إلى مشهد آخر يشكو فيه الفنان علي الآنسي إليه ومجموعة من رفاقه مزاجية عدد من القادة العسكريين (الفنادمة)، قائلا باستياء: من فرغ على نفسه قال هاتوا لنا كأسا وغانية واديتوا علي الآنسي معاكم!
اختتم الرجل حديثه بالقول إن علي الآنسي قبل وفاته كان يقول لمن حوله بأنه إذا حدث له شيء فغريمه فلان الفلاني؛ يعني ذلك الشخص الذي كان متسنما حينها التوجيه المعنوي، وأصبح له اليد الطولى لاعتبارات يعرفها الجميع، بحسب قوله.
لا نستطيع الجزم بصحة أي من تلك القصص الثلاث، ويجب أن تؤخذ باحتراس على أية حال؛ لكن الشيء المؤكد في النهاية هو أن علي الآنسي طيلة المرحلة الأخيرة من حياته الفنية مورست ضده ضغوط من قبل القائمين على مثل تلك المؤسسات التي حسب عليها، وأنه هضم كثيرا لدرجة الإفقار، وبالرغم من ذلك ظل أبيا أنفا رافضا أن يمجد أحدا سوى وطنه وشعبه وثورته، على عكس البعض ممن ضعفوا واستكانوا وغنوا لهذا الزعيم أو تلك الشخصية، وأن «أنا الشعب يا فندم» صدع بها الآنسي في وجه أولئك الذين أرادوا أن يختزلوا الوطن في شخوصهم، من زعماء وقادة عسكريين، فاعتقل وسجن بسببها: انتظرته سيارة في «السايلة» وهو خارج من بيته في صنعاء القديمة، وأخذه جهاز الأمن واعتقلوه. حُظرت الأغنية بطبيعة الحال، وانتظرت فترة من حياة علي عبدالله صالح، حتى قيل إنه هو الذي أمر بإطلاق سراحها.

قضية قتل السمة
 قيدت ضد مجنون
قتل علي السمة، وقيدت القضية ضد مجنون. كثيرون قالوا إن المخابرات السعودية هي من قتلته بسبب أغنيته: 
يالله اليوم يا اخوان
حان وقت الطلب حان
نستعيد نجران وجيزان
والذي بايكون كان
وذلك في قصة مشابهة لما سيحدث بعد ذلك بعقود للفنانة التونسية ذكرى بسبب أغنيتها «مين يجرا يقول». لكن آخرين أكدوا أن قاتل الفنان علي السمة كان مجنونا بالفعل، وأن هناك وثيقة موقعا عليها من أعيان حارته في صنعاء القديمة، ومن ضمنهم السمة نفسه، تشهد بأن الرجل مختل العقل؛ وهي وثيقة احتاجتها أسرته، حسب قولهم، لإعفائه من تجنيد إلزامي، وأن أغنية «يالله اليوم يا اخوان» لم يغنها السمة إلا مرة واحدة، وفي جلسة مقيل مع الرئيس السابق علي عبدالله صالح، وأن الأخير قال له حينها: مش وقت هذي الأغنية الآن يا علي!