دينغ شياو بينغ: لا بد من فتح النوافذ وإذا دخل البعوض سنطرده لاحقا

غازي المفلحي / #لا_ميديا -
هناك مقولة مشهورة للقائد الصيني دينغ شياو بينغ، في سياق دعوته إلى مشروع الإصلاح عام 1981، وهو يدعو إلى أن تنفتح الصين على الغرب، حيث قال: «حتى تتقدم الصين لا بد من فتح النوافذ، ولا بأس إذا دخل البعوض، إذ علينا طرده بعد ذلك».
الصين تعرف أن ما يأتي من الغرب، خصوصاً نحو دول لها مقومات النهوض والإنتاج الاقتصادي والإنساني، والتأثير على العلاقات الدولية، يكون في الغالب مسموماً، ولها ذكرى مريرة لا تنساها، بدأت مع إحدى تجارب الانفتاح الصيني على الغرب، وهي حرب الأفيون عام 1840.

انفتاح وحذر
خاضت الصين تلك المعركة مع الإمبراطورية البريطانية، حينما كانت بريطانيا ترسل الأفيون إلى الصين عبر شركة الهند الشرقية، وقامت الحرب للقضاء على هذا الهجوم الغربي الغريب. هذه الحرب ونتائجها وحتى ثورة 1911 جعلت الصين تتعامل مع الغرب بانفتاح وحذر وتأكيد على بقاء المفاهيم الصينية كما هي دون تغيير.
ومع أن الثقافة الصينية استطاعت الاستفادة من الثقافة الغربية من خلال إدخال الأجهزة التقنية والأنظمة الإدارية المتقدمة، وإيفاد الطلاب والمسؤولين للزيارة والدراسة للدول الخارجية للاستفادة من التقدم التقني المتمثل في بناء الأساطيل الحربية الحديثة، وغيرها من التقنيات المتوفرة في ذلك الوقت، وكذلك للاستفادة من النظريات الفكرية والاقتصادية الجديدة في الغرب، إلا أنها حافظت وبشكل كبير على ضبط النظام الاجتماعي الثقافي التقليدي، لكونه الأساس لتحقيق النهضة الصينية.
هذا الانفتاح المنضبط حقق للثقافة الصينية حيوية وشمولاً لتطور ما سعت إلى تبنيه من الثقافات المختلفة وتطويعها وفقاً للقيم الصينية، وليحلق بها عالياً في مجال التقدم الصناعي لتتبوأ مكانة رائدة في مصاف الدول الصناعية، ولتصبح من أكثر الدول نمواً في العالم.
وغزو المنتجات الصينية لأسواق العالم وأولها الأمريكية والأوروبية، لا يشير إلى النجاح الاقتصادي الصيني المحقق دون الحاجة إلى الانغماس في المفاهيم الغربية الرأسمالية للاقتصاد، التي تستثمر كل شيء حتى القيم والأخلاق الإنسانية والمجتمعية والوطنية، ولكنه يثبت التميز التاريخي والتفوق المدفون للمارد الشرقي، في الصين والهند والعالم العربي وآسيا عموما، الذي يسقط النظرية الزائفة بأن التطور والتقدم هو غربي ولا يقوم إلا بالتغرب، ويعيد الثقة مرة أخرى إلى تلك الدول التي كانت أعظم الأمم القديمة والحضارات الكبرى، كما يعيد الكرة إلى الملعب الإنساني كله، شرقه وغربه، دون تميز أو إقصاء أو عنصرية، فمحرك النهضة الإنسانية هو العقل والتوظيف الحكيم لمقدرات الأرض والإنسان.

مواكبة العالم بحكمة
ربما يكون الصيني الجديد قد تغير مع سياسات الانفتاح الاقتصادي، في طعامه، وشرابه، وبنيته، وسلوكياته، وطريقة حياته، فهناك مطاعم «كنتاكي وماكدونالد» في الشوارع الصينية، وهناك ناطحات السحاب الزجاجية الشبيهة ببنايات نيويورك التي ليس فيها الرفوف والقرميد الصيني، وصار الصيني يرتدي بدلة وربطة عنق، لكن هذا تأثير فقط على القشرة الخارجية للأمة الصينية الحكيمة، التي تبني نفسها بذكاء، وتتضخم كقوة عالمية قد تصبح الأولى قريباً. فهذا التغير له حاجة اقتصادية محدودة عندما كان الصينيون يسعون إلى أرقام من النمو الاقتصادي للبلد أو المدن، ولكن كانت العودة سريعة للاهتمام بالموروث والفلسفة الصينية لترسيخها وتصديرها. فالإنسان الصيني يندمج مع العالم، ولكن من دون أن يفقد معالمه وشخصيته وهويته الصينية. والقوة الاقتصادية والعسكرية التي تناطح الولايات المتحدة الأمريكية، هي بلد يتميز بترسيخ وتمتين الثقافة الصينية المجتمعية المحافظة على قيم الأسرة والتربية السليمة وبر الوالدين والانتماء لموطن الولادة والعادات والتقاليد المثمرة، لكونها الأساس لاستمرار الروابط بين أبناء الوطن، وتحقيق الولاء للوطن، والثقافة المحافظة البعيدة عن الثقافة المنفتحة في العالم الغربي. ولم تكن أحد تروس حركة الصين المبهرة نحو مصاف الدول الكبرى، الدعاوى الفردانية والحرية المطلقة التي يتبناها الغرب، ولم تؤثر كثيرا سياسات الانفتاح الاقتصادي والتجاري التي بدأتها الصين في السنوات الأخيرة، في هذا المفهوم الاجتماعي الصلب، بل إنهم أخذوا يشددون عليه بشكل أكبر في مناهجهم الدراسية وندواتهم المتعددة، وحتى في مؤتمراتهم الداخلية والدولية لبيان تميز المجتمع الصيني واختلافه عن الحياة المادية الغربية.

تصيين العالم
لا تحافظ الصين على أساسات هيئتها الثقافية الشعبية والتاريخية فقط، بل تحاول تصديرها للعالم والتعايش معهم واحتواء ثقافاتهم داخل ثقافتها. فهذا الانسجام الصيني المتحرك والصاعد كمقاتل ساموراي واحد، تحته 56 قومية مختلفة لها كثير من الديانات بينها 10 قوميات مسلمة. وقد اتخذت حكومة الصين بعد تأسيسها عام 1949، سياسة مساواة كل القوميات مع حرية العقيدة، وبنيت الحضارة الصينية الجديدة بعد دمج عشرات الثقافات الصينية التقليدية والأخرى الحديثة الصينية والعالمية.
وعالمياً، تبحث الصين عن طرق لاستخدام القوة الناعمة لمرافقة النهوض السلمي بتطوير الثقافة الصينية الجديدة التي تتفق مع الثقافات الأخرى، ويستفيد ويتأثر بها العالم أيضاً، حتى تصبح الصين الرائدة عالميا. فالصين تقدم نفسها كدولة داعمة للقيم العامة مثل المساواة والسلام العالمي وتعزيز التعايش بين الثقافات والحضارة البشرية.
وبعد أن فشلت الرأسمالية طيلة 400 سنة في إقامة نظام أخلاقي إنساني عالمي محترم، وأصبحت كهنوت القرن الـ21 بالنسبة لأغلب دول العالم المسحوقة تحتها، تتجه الأنظار نحو الصين ليكون لها دور محوري في إنشاء نظام عالمي جديد.
وقد تنبأ المؤرخ البريطاني الشهير في القرن العشرين، أرنولد توينبي جوزيف (1889-1975)، أن القرن التاسع عشر قرن للمملكة المتحدة، والقرن العشرين قرن للولايات المتحدة، والقرن الحادي والعشرين قرن للصين. وفي نهاية عام 2012، أصدر مجلس الاستخبارات الوطني للولايات المتحدة (NSC) تقريرا بعنوان «الاتجاهات العالمية 2030»، توقع فيه أن الصين سوف تتجاوز الولايات المتحدة اقتصاديا لتصبح الأكبر في العالم قبل عام 2030. فجلب هذا التوقع القلق لكثير من الغربيين، وتسبب جزئيا في نظرية التهديد الصيني.
من الثقافة وليس من القوة الاقتصادية فقط، تخلق الحضارات للعالم، والصين تدرك ذلك من تجربة اليابان قبل بضعة عقود، عندما كانت اليابان ثاني أكبر اقتصاد في العالم، واشترت نصف جزيرة هاواي والعديد من العقارات في محيط تايمز سكوير بمدينة نيويورك في الثمانينيات والتسعينيات من القرن العشرين، وتطلع اليابانيون في أن يكون بلدهم «الأول في العالم». ولكن سقطت اليابان في الركود في ما بعد، وعزا الفيلسوف البريطاني برتراند رسل خطأ اليابانيين إلى أنهم ساروا على طريق التغريب والامبريالية بعد إصلاح ميجي، وأمل في ألا تتبع الصين مسار اليابان في التغريب الأعمى بعد حركة الـ4 من مايو 1919.

تعريفات جديدة وتحديات
تضع الصين، الوطنية والكفاءة والديمقراطية، حسب الفلسفة الصينية، ضمن أهم أولوياتها، ورفضت تماما نموذج الديمقراطية الأوروبية والأمريكية، رغم الاتهامات التي تنهال على الصين في مجال انتهاك حقوق الإنسان، وحرية الرأي والتعبير، وللصين رؤيتها الخاصة لحقوق الإنسان الرافض لما تتبناه الدول الغربية، وترى الصين أنه يجب إعادة تعريف هذه المفاهيم، كما أن لكل دولة ظروفاً ومفاهيم مختلفة، وقال ما تشاو شو، نائب وزير الخارجية الصيني، خلال منتدى جنوب جنوب لحقوق الإنسان، أواخر عام 2019، إن «شعب كل بلد له الحق في أن يقرر بنفسه مساره لتعزيز حقوق الإنسان».
وتتعرض الصين لهجمات غربية واسعة تشن أقواها وأوضعها الولايات المتحدة في حربها الاقتصادية ضد الصين، حتى إن فيروس كورونا الذي يجتاح الصين ويهدد بأضرار اقتصادية كبيرة عليها يقال عنه: إنه مؤامرة صنعتها الاستخبارات الأمريكية،  فهذا الفيروس المسجل كبراءة اختراع عــام ٢٠١٥ في قائمة براءات الاختراع الأمريكية برقم (١٠،١٣٠،٧٠١). والغرب يتدخلون اليوم في كثير من الشؤون الصينية والداخلية كالقوانين الصينية والاحتجاجات والمظاهرات، بغرض إثارة الفتن وزعزعة الوضع الصيني الداخلي وتشويه الصين خارجياً كمحاولة استغلال مظاهرات هونغ كونغ وتزوير أحداث وقمع وإبادة قيل إن مسلمي الإيغور يتعرضون لها في الصين. ولا ينسى الغرب البكاء في ذكرى قيام القوات المسلحة الصينية بإجهاض مشروع اختراق الصين، بفض مظاهرات طلاب جامعة بكين في ميدان «تيانانمن» التي كانت تطالب بديمقراطية على الطراز الغربي، ويعدون ما حصل عملاً عدوانياً كبيراً، ويصفونه بالمجزرة التي يضعون أرقامها وتفاصيلها.

الطريق من هنا
حققت الصين نهضتها الصناعية خلال فترة قصيرة باهتمامها بالعلوم والتكنولوجيا، وليس بدعاوى الغرب الليبرالية. فحتى عام 1949 - الذي يمثل تأسيس جمهورية الصين الشعبية - كان لا يوجد بها سوى 20٪ فقط من الطلاب الذين دخلوا المدارس الابتدائية، و30 جهازاً فقط للدراسة والأبحاث، فكانت من ضمن أهم الأولويات التي قامت بها حكومة الصين الإسراع في نشر التعليم، وتسريع التنمية التكنولوجية.
أنشئت الأكاديمية الصينية للعلوم في نوفمبر 1949، وأصبحت الآن مركزاً تنموياً للأبحاث العامة في العلوم الطبيعية والتكنولوجيا العالية الجديدة، حققت خلال 60 عاماً قنبلتين نوويتين، وقمراً صناعياً، وتم إرسال أول رائد فضاء صيني إلى القمر، ويدرس بها أكثر من 45 ألف طالب وطالبة في الدراسات العليا؛ لإعدادهم ليكونوا علماء بارزين في الإبداع التكنولوجي في مختلف التخصصات.
أما الأكاديمية الصينية للطب التي أنشئت عام 1956، فقد استطاعت أن تنشئ 18 معهداً للأبحاث، ويأتي المعهد الصيني لأبحاث العلوم البيئية ليقدم أبحاثاً ودراسات للتكنولوجيا العالية بهدف حماية البيئة، والتقليل من التلوث، والمحافظة على سلامة الزراعة والإنسان.
ووصلت مؤسسات التعليم العالي عام 2007 إلى 2321 جامعة ومعهداً عالياً، من ضمنها 260 جهازاً للأبحاث العلمية، وزاد عدد المقبولين في التعليم العالي ليصل إلى أكثر من 27 مليون طالب وطالبة. والصين تحتل المرتبة السادسة في العالم خلف الولايات المتحدة، واليابان، وألمانيا، وفرنسا، وبريطانيا، من حيث ضخامة الحجم الكلي المخصص للأبحاث والتطوير.
وسعت الصين للانطلاق من الصناعات العادية والتقليدية إلى الصناعات عالية التقنية من خلال توطين التقنية، حيث قامت بتهيئة البنية التحتية وتشجيع براءات الاختراع ودعم الكفايات الشابة، وفيها 54 مدينة صناعية.
ووضعت الصين خطة استراتيجية هدفها تحقيق تقدم مهم في مجالات التقنية المعلوماتية، والبيولوجية، والصيدلة الطبية، والصناعة المتقدمة، والطاقة المتقدمة، وتقنية البحار، وتقنية الزراعة الحديثة. وقد حصلت الصين على أكثر من 34 ألف اختراع للبراءة، وامتلكت أكثر من 13 ألف اختراع للبراءة الصناعية التكنولوجية العالية، سجلت بأسماء أفراد ومؤسسات تم على أساسها تصنيع كثير من المنتجات التي غزت الأسواق العالمية.
وتسعى الصين لإعادة تأسيس نفسها كقوة عالمية كبرى، بعد أن عانت من المهانة الغربية على مدى قرنين من الزمان. وقد نجحت الفلسفة الصينية التي يهاجمها الغرب في مضاعفة الاقتصاد الصيني، 42 مرة، ما بين 1980 و2018، لترتفع من 300 مليار دولار أمريكي، إلى 13 تريليون دولار. وتحتل الصين المرتبة الأولى كأكبر مصدر في العالم، وصدرت بنحو 2.5 تريليون دولار من البضائع، والخدمات، عام 2017، أي أكثر بكثير من صادرات الولايات المتحدة التي احتلت المرتبة الثانية، وهو ما دفع الولايات المتحدة لاتخاذ إجراءات حمائية للحد من غزو المنتجات الصينية لأسواقها.
وحتى الآن لازالت الصين تتحفظ في تعاملها مع الغرب، فقد رفضت 3 عروض من الولايات المتحدة ومنظمة الصحة العالمية بشأن إرسال خبراء لمكافحة انتشار فيروس كورونا، قبل أن تقبل به أخيراً لأن الفيروس يحتاج لتظافر جهود علماء من عدة دول للتصدي له.
وبالاستناد إلى تنبؤات صعود الصين التي ذكرناها سابقاً، تواجه الصين مشكلة خوف العديد من البلدان التي تعتقد أن نهضة الصين ستجعلها مهيمنة على غرار سلوك الدول الغربية بعدما أصبحت قوى عظمى، لذا فالصين ستبقى مستهدفة، وتحتاج إلى تعيين قيم ثقافية جديدة وهوية ثقافية متميزة تلتف حولها كثير من الدول والشعوب. وتحتاج إلى إيضاح أن الصين لن تفرض فلسفتها على الآخرين مثلما فعلت الدول الغربية في القرنين الـ19 والـ20، بل تعمل على تحويل الهوية الثقافية للحلم الصيني الى محرك ديناميكي للحضارة الإنسانية في القرن الـ21.
وبالرغم من محاولات التحصين الصينية، إلا أنها تعاني من غزو كبير من الثقافات الغربية، تحتاج الصين لابتكار فلسفلة أخرى لمواجهته. فمثلاً مع أن قانون الزواج في جمهورية الصين الشعبية لايزال يعرف بأنه اتحاد بين رجل وامرأة، لكن هناك تسرباً كبيراً لتوجهات الغرب الجنسية وصلت وانتشرت في الصين كالمثلية والتحول الجنسي والجندر وغيرها. ومع ذلك فالمنظمات الغربية ليست راضية بعد، وتقول إن وجهة الحكومة الصينية في هذه المواضيع ليست واضحة، فهي ليست مؤيدة ولا معارضة، فهي فقط متسامحة مع هذه الظواهر، ولكنها لا توفر لأصحابها حقوقاً كغيرهم من الأسوياء.
والتحدي أمام الصين اليوم يكون في تطوير حضارة ذات نفوذ أخلاقي وعلمي وثقافي، يأسر خيال شعبها وشعوب العالم وتوجهاتهم ورغباتهم. فإلى جانب السيطرة الاستعمارية فإن أوروبا سيطرت على العالم منذ عصر النهضة، من خلال التفوق العلمي والابتكار، وتنظيم المجتمعات وأفكار التنوير، ومازال العالم يعيش على إرث هذه النهضة، ويصدق كل ما تضيفه من مفاهيم بحجة أنها مسنودة إلى العلم والتجربة والنماذج الناجحة.