دعاء إبراهيم / مرافئ -

بسم الله الرحمن الرحيم
يا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ
أخذت الكتاب بقوة
حَرَّكْتُ بِهِ لِسَانَيَ لِأَعْجَلَ بِهِ 
فاضَت عَيني مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً 
مِما عَرفتُ مِن الحَق 
تَحسَّستُ مِن رُوحِ شَريعتي
تَوجستُ مِنهُ خِيفةً
لما هدأ عني الروع
كتبت كما علمني الله.


قبل أن أهبط في صحراء علي شريعتي، كنتُ قد قرأتُ في مقدّمة كتاب «هبوط في الصحراء»، بقلم الدكتور محمد حسين بزي، التي كتب فيها معاناته وقلقه وتحليقه ومن ثم هبوطه لمدة سنتين من الألم الخصب في تحقيقه للكتاب، و»استدعاء التاريخ وشخوصه وإسقاطهما على الواقع الفكري المعيش». أيضاً ما كتبته المترجمة مريم ميرزاده: «من يقرأ لشريعتي، لا يقرأ ليفهم، بل ليسلّم نفسه للتاريخ».. كلّ تلك أخذتني بعيداً إلى البحث في سيرة السيدة هاجر (عليها السلام)، تلك التي هبطت في صحراء مكة، في وادٍ غير ذي زرع، فعشتُ معها سعيها، في ملحمة العطش، في طوافها حول البيت.. حتى وصلنا كربلاء، وانتهى مطافنا في القدس نأتم خلف أبناء سارة وهاجر. 
كتاب «هبوط في الصحراء» (النصّ الكامل لآثار شريعتي الصّحراوية) الصادر عن دار الأمير في بيروت (2019)، في 864 صفحة من القطع الكبير، وبكلّ فصوله من مقدّمة، ورحلة المحقّق مع علي شريعتي وصحرائه، ومقدمة المترجمة كلّ ذلك بمثابة وحدة متكاملة، لم أستطع تجزئتها.. لأن تقرأ لعلي شريعتي، يعني أن تصطدم بروح عظيمة، وتقرأ كلاماً هو موجود فيك ولكن لا تقوله. 
في هذا الكتاب، وجدتُ لوحات جميلة من الفن التشكيلي، لوحات مليئة بالحركات المدوّرة الجذّابة وشبيهة بمنمنمات الفنّان الإيراني محمود فرشجيان. كان شريعتي يرسم ملامح الوجود، ونشأة الخلق وهي تدور في فلك منتظم سريع كأنّها تجري في دوامة، ومن ثم تستقر عند نهاية السطر وعند النقطة، لتبدأ الحركة من جديد في الجملة التي تليها، تارة في دنيا الواقع وتارة في تخوم التاريخ. 
بريشة الفنان لا بقلم الكاتب كان شريعتي يحرّك روحي وكل أحاسيسي، لا شعورياً.. رأيتُ علي شريعتي وعشت معه صراع النفس اللوّامة، ووصوله لمرحلة النفس المطمئنة، أعلى المستويات، تلك النفس التي كل ما تقوم به ترى الله قبله وفيه وبعده. 
لم يكن كلاماً من واقع الخيال والأساطير، نحن الآن في عالم يتعطّش فيه الناس جميعاً للروحانية بعدما أصبح ماؤهم غوراً، حتى غير المتدينين، نراهم يبتدعون شتى الطرق من التصوّف والعلوم الروحانية الغريبة. شريعتي ينظر إليهم في صمته ومنظاره الخاص، يحسّ بمسؤولية بني آدم في الرجوع إلى الله بنفس راضية مرضية مطمئنة. لم تكن طريقته صوفيّة بحتة أو رهبانية مبتدعة، بل كان على نهج علي (عليه السلام) في البحث عن الأسرار الروحانية الداخلية وأسرار الحياة البشرية، كما كان يقول:
دواؤُكَ فيكَ وَما تُبصِرُ - وَدَاؤُكَ مِنكَ وَما تَشعُرُ
أَتَحسب أَنَّكَ جُرمٌ صَغير - وَفيكَ انطَوى العالَمُ الأَكبَرُ
فَأَنتَ الكِتابُ المُبينُ الَّذي - بِأَحرُفِهِ يَظهَرُ المُضَمَرُ
وَما حاجَةٌ لَكَ مِن خارِجٍ - وَفِكرُكَ فيكَ وَما تُصدِرُ
بين سطور شريعتي، سمعت أدعية كثيرة، من تراث آل محمد، كنّا نحملها «كمثل الحمار يحمل أسفاراً»، سمعت دعاء الصباح، كميل بن زياد، يا عدتي، مكارم الأخلاق، أبو حمزة الثمالي، الإمام الحسين يوم عرفة، الجوشن الكبير، ودعاء الحزين، سمعتها كلّها ليس بلقلقة اللسان، بل انغماساً في معانيها وتحليقاً مع روحها. 
يا رفيق من لا رفيق له، يا صاحبي في شدتي، الحمد لله الذي وكلني إليه فأكرمني ولم يكلني إلى الناس فيهينوني، ظلمت نفسي وتجرأت بجهلي، يا من بعد عن لحظات العيون وقرب من خطرات الظنون، اللهم لا ترفعني في الناس درجة إلا حططتني عند نفسي مثلها، ولا تحدث لي عزاً ظاهراً إلّا أحدثت لي ذلّة باطنة عند نفسي بقدرها، يا غاية آمال العارفين، ارحم وَحْشَتِي مِنَ اَلنَّاسِ وأُنْسِي بِكَ يَا كَرِيمُ.
وهنا السؤال: هل حقاً كتب شريعتي هبوطه قبل أكثر من 50 سنة؟!
لكنّه كأنّما يصف واقعنا المعيش الآن، فمثلاً:
ص135، يقول: «جنّة هؤلاء المؤمنين ذي الأربع إنّها تبعث على التقيؤ، إنّها دنيا اللامبالاة، التسكّع، الاستهلاك، تخزين الطعام، الجماع ولا شيء آخر». ستجد هذا جلياً واضحاً أمامك، فقط بتصفحك لثوانٍ بسيطة محتوى الإكسبلورر في برنامج التواصل الاجتماعي مثل «إنستجرام».
ص212، يقول: «الوجع يبدأ من هنا، وجع بلا علاج، وأحزان خفيّة تفور من عمق الروح، واضطرابات تبلو الباطن بتلاطم وحشي وعات وعاصفة تهبّ في الداخل، وتسوِّد أفق الحياة والعالم أمام العيون، فيبدأ الضياع والبؤس ولا ينتهي أبداً.. أشياء تترك حاجاتنا العالية عطشى باستمرار وكلّ ما هو موجود كريه».
وهذا ما يفسر وصول فناني هوليوود إلى مرحلة «السوبر نوفا»، ومن ثم اللجوء إلى الانتحار أو تعاطي المخدرات، أمثال كازانوفا، بريتني سبيرز، إيمي واينهاوس... والقائمة تطول.
ص266، يقول: «هذا الفراغ والوحدة والفراق هو ما برّر مؤشر الانتحار المتصاعد في حياة اليوم المعاصرة».
نشرت منظمة الصحة العالمية، سبتمبر 2019، تقريراً عن ظاهرة الانتحار حول العالم. وجاء في التقرير أنّ شخصاً واحداً ينتحر كلّ 40 ثانية، أي أكثر من الذين قتلوا في الحروب وعمليات القتل أو سرطان الثدي!
ص286: يقول: «البرجوازية والرأسمالية اللتان كانتا في القرنين الماضيين متفائلتين في أن تستبدلا من خلال بناء حياة مشبعة مترفة، كلّ الأديان والفلسفات بفلسفة «أصالة الاستهلاك»، وأن تدفعا العامل من خلال إغداق النعم عليه إلى تقليد الأثرياء بدلاً من القيام بثورة، فيسليهم بفنون الإثارة والمتعة الكاذبة».
ألا يشبه هذا مشروع تركي آل الشيخ وهيئة الترفيه في السعودية الآن؟ 
ص294، يقول فيها ويسأل: «لمَ ترتاح؟ لأتمكن من العمل. لمَ تعمل؟ لأتمكن من الراحة. الإنتاج من أجل الاستهلاك، والاستهلاك من أجل الإنتاج. ماذا يفعل إنسان اليوم؟».
نعم، ماذا يفعل إنسان اليوم؟
«كم كان جميلاً كلام السكوت ونحن نصغي صامتين»...!
 
*كاتبة بحرينية