روبرت فيسك
صحيفة "الإندبندنت" البريطانية

لم تكن المملكة السعودية أبدا واحة أمان كما يدعي حكامها، بل على العكس كانت بلد تاريخه انقلابات وانقلابات مضادة.
عمليات التطهير ومزاعم التعذيب واتهامات الخيانة والاشتباه في القتل والحرب المجنونة في اليمن، والخطة المدمرة "لإصلاح" السعودية، التي تلقى دعما من الولايات المتحدة والغرب والصحافة المتملقة. إذن ما الجديد؟!
مسكين محمد بن سلمان! بعيداً عن كونه مستبداً جديداً مخيفاً ولا يمكن السيطرة عليه في الخليج (تصفية أقرب أقربائه، وحبس منافسيه، والشروع في صراع مدمر في اليمن) إنه يتبع مساراً مألوفا في تاريخ بلاده. فلطالما كانت المملكة السعودية أرض الانقلابات والانقلابات المضادة والغضب الإسلامي والخوف من الاغتيالات. هيا يا رفاق، لنمنح (MBS) استراحة.
صحيح أنه اعتقل عمه الأمير أحمد بن عبد العزيز وابن عمه الذي أطاح به من منصب ولي العهد عام 2017، ووضعه تحت الإقامة الجبرية، محمد بن نايف، إلى جانب الأخ غير الشقيق محمد بن نواف ومجموعة من أفراد العائلة الحاكمة الآخرين، ويفترض أنهم من المخلصين، كما تم اعتقال وزير الداخلية الحالي، عبدالعزيز بن سعود بن نايف، ولكن تم الإفراج عنه بعد استجوابه في نهاية الأسبوع.
لم تقل العائلة المالكة أي شيء عن حملة الاعتقالات (لم تنكرها بالتأكيد)، ولكن هناك الكثير من الحديث، كما هو الحال دائما بين دكتاتوريات الشرق الأوسط، عن مؤامرة للإطاحة بالحاكم الفعلي للمملكة. ومن الغريب أن وكالة أنباء "رويترز" نقلت عن "مصدر" في المنطقة قوله إن ولي العهد محمد بن سلمان اتهم المحتجزين الجدد "بإجراء اتصالات مع قوى أجنبية، بمن في ذلك الأمريكيون وغيرهم، للقيام بانقلاب".
والأكثر غرابة أن وسائل الإعلام الغربية، بما في ذلك صحيفة "وول ستريت جورنال" التي كشفت القصة الأصلية للاعتقالات، لم تتكهن بمن قد يكون "الأمريكيون وغيرهم". وبدلاً من ذلك، تم وصف تصرفات محمد بن سلمان في الصحافة بأنها "يائسة" و"متهورة" وبـ"جنون العظمة" وأن ولي العهد نفسه متقلب "زئبقي".
اللقب ذاته "الزئبقي" الذي أعطي للعقيد القذافي عندما أظهر لأول مرة علامات وإشارات معادية للغرب، مع أنه وصف بالوجه الجديد والإصلاحي عندما قاد انقلابا على الملك الفاسد إدريس، وانتهى القذافي كما نعرف الآن بـ"الديكتاتور". لم يحقق محمد بن سلمان هذا اللقب الحصري حتى الآن. لكن من هم "الأمريكيون" الذين تعاون معهم "الانقلابيون"، هذا إن كانت التقارير صحيحة؟! بالتأكيد ليس دونالد ترامب، "الزئبقي" بالتساوي معه. ولا "فيلسوف" صفقة السلام الفلسطينية الإسرائيلية، جارد كوشنر، الذي يُعتقد أنه "قريب" بشكل خاص من وريث عرش السعودية البالغ من العمر 34 عاما - الوريث الذي شن الحرب المخيفة على اليمن في عام 2015 والتي تسببت حتى الآن في مقتل آلاف المدنيين.
أما فيما يتعلق بالإدارة الأمريكية، فإن ولي العهد محمد بن سلمان هو أحد أهم مشتري الأسلحة الأمريكية قيمة، حتى لو كانت رغبته في شراء ما يسميه ترامب أسلحته "الجميلة" لا تقابلها دائما مليارات الدولارات التي وعد بها واشنطن.
ومع ذلك، ليس هناك شك كبير في أن المخابرات الأمريكية لديها موقف مختلف من الأمير، وبدت عدم ثقتها، بل كراهيتها للأمير واضحة عندما أعلنت أنه هو الذي أعطى الأوامر بقتل الصحافي جمال خاشقجي، الذي قطعت جثته قبل 17 شهرا في القنصلية السعودية في إسطنبول، وأنكر ابن سلمان أي مسؤولية عن ذلك، فيما أظهر ترامب غضبا من (سي آي إيه) التي استفزته تقاريرها التي كانت توضع على مكتبه.
وبحسب ما ورد، سعى عملاء المخابرات الأمريكية والبريطانية للحصول على ضمانات من محمد بن سلمان، بعدم اعتقال الأمير أحمد عندما عاد من بريطانيا في تشرين الأول/ أكتوبر 2018، بعد نفي اختياري في لندن، حيث أخبر محتجين ضد الحرب في اليمن أن المسؤولية يجب ألا تقع على كاهل عائلة آل سعود كلها، قائلا: "ما علاقة آل سعود بهذا كله؟! هناك أفراد متورطون ولا تدخلوا الكل".
نايف، نجل أحمد، أحد أبرز ضباط المخابرات والأمن في المملكة، والذي لا يزال قيد الاعتقال والاستجواب، يحظى بالاحترام من قبل وكالة المخابرات المركزية والبنتاغون كخبير في "تحالف مكافحة الإرهاب" الذي يديره الأمريكيون. ومن المفهوم ألا يرضى محمد بن سلمان عن تعليقات أحمد، لأنه كان واحدا من المقصودين بتعليقاته "بعض الأفراد".
في ظل ظروف الشرق الأوسط فإن ضمانات كهذه تعد بمثابة سكب الماء في الصحراء. لكن الاعتقالات الأخيرة لا تترك مجالاً للشك في أنها مثل اعتقالات عام 2017 لـ 500 من الأمراء السعوديين في فندق ريتز كارلتون ضمن ما سمَّاه "مكافحة الفساد المزعومة"، وما هي إلا مقدمة لما سيأتي، وأنها موجهة للمخابرات الأجنبية التي باتت تخشى من قوته وعدم قدرتها على التكهن بتحركاته، ولحسدها له على التأثير الذي يمارسه في البيت الأبيض. إلا أن اعتقالات ابن سلمان الأخيرة كانت لأشخاص مؤيدين لترامب ومن غير الداعمين لـ(سي آي إيه).
أحداث الحرب الاقتصادية التي يشنها محمد بن سلمان ضد روسيا، وقراره ضرب أسعار النفط، تشير إلى أن أجهزة الأمن التابعة لفلاديمير بوتين، التي تعد أذكى بكثير من مخابرات الشرق الأوسط أو المخابرات الأنجلو أمريكية، ليست مهتمة بحماية ولي العهد السعودي من الانقلابات وضرورة عودته إلى التبعية، فكان أجداد محمد بن سلمان من أقاموا علاقات دبلوماسية مع الاتحاد السوفييتي السابق عام 1926، وكان السوفييت أول دولة أجنبية تمنح اعترافا دبلوماسيا كاملا بالمملكة السعودية.
الآن يتصرف حكام البلاط الملكي في الرياض مثل الحكام البلاشفة الأولين في موسكو: دم قليل وشك كبير تجاه من يعتقد أنهم من الموالين لهم من الأمراء. ويبدو أنهم غير واعين لمخاطر تصفية الحسابات مع الأمراء مثلهم، واستفزاز بوتين، وقتل اليمنيين وخاشقجي، وإزعاج وكالة المخابرات المركزية الأمريكية (سي آي إيه)، كل ذلك في الوقت نفسه.
الملك السعودي الأول، عبد العزيز بن سعود، عانى من المنافسين له الذين هددوا حكمه. وربما فكر محمد بن سلمان بمصير الملك فيصل الذي كان شخصية إصلاحية حقيقية، والذي انخرط في اليمن بعد اندلاع الحرب الأهلية عام 1962، ودعم الملكيين ضد الجمهوريين الذين أرسل العقيد جمال عبد الناصر إليهم 70 ألف جندي مصري للدفاع عنهم.
داخل المملكة أقام الملك فيصل ما يعادل دولة الرفاهية، إلى جانب وزارة العدل. وفي عام 1969 شك أن مجموعة من ضباط سلاح الجو الموالين لمصر يخططون لانقلاب عسكري يهدف لتحويل المملكة إلى جمهورية عربية، وقام الملك باعتقال مئات الجنرالات والضباط البارزين. وفي ذلك الوقت حصل الملك على معلومات من المخابرات الأمريكية حول الانقلاب، ولهذا قام بحملة التطهير، لكنه حاول المصالحة بين القبائل العربية والشيعة في المنطقة الشرقية، ودفع بتعليم المرأة، ورفض سلطة رجال الدين، وكان إدخاله التلفاز وتأثيره "الكافر" على أرض مكة والمدينة المنورة سببا لاحتجاجات عنيفة أدت إلى مقتل الأمير خالد بن مساعد.
شقيق خالد قتل الملك بعد عشرة أعوام. وهو تعلم في الولايات المتحدة. وزعم صحافيون عرب في بيروت لاحقا أنه كان يعمل لصالح (سي آي إيه). واستطاع فيصل بن مساعد دخول البلاط الملكي عام 1975 مع وفد وزاري كويتي، وقتل عمه، بعدما أطلق عليه النار ثلاث مرات. ووصف القاتل لاحقا بـ"المجنون"، وقيل إنه تصرف بدافع الانتقام، وأعدم لاحقا، ونقل وهو يمشي مترنحا نحو السياف الذي قطع رأسه بسيفه الذهبي أمام 20 ألفا من المتفرجين.
السعودية لم تكن أبدا واحة للهدوء كما يزعم حكامها وأمراؤها، فالمسلحون الإسلاميون انتفضوا من داخل الحرم عام 1979، بقيادة رجل غاضب من إصلاحات الملك فيصل، وتمت السيطرة على الانتفاضة بدعم من كوماندوز فرنسي، وظل شبحها يلاحق الملك خالد وآل سعود منذ ذلك الوقت. ويعرف محمد بن سلمان تاريخ بلده بشكل جيد، وحتى لو لم يتعلم كيف سيحكم المملكة فإنه سيرث الحكم من والده البالغ من العمر 84 عاماً. وبالنسبة لأعدائه فهو خطير وطموح ويتبع عواطفه بدلا من مستشاريه، لكنه كما تقول الاكليشة "ابن زمنه".
لم تكن المملكة السعودية مطلقا رمزا للأخلاق كما يزعم حكامها، وتفهم رغبات الديكتاتوريين. في الواقع، لقد منحت اللجوء لشخصيات غير إسلامية، مثل زين العابدين بن علي، وعيدي أمين، الذي قتل 100 ألف شخص في أوغندا.
في الشرق الأوسط اليوم كل مستبد يخاف من الثورة العربية التي ظهرت أولا في تونس عام 2011. هل ستنتهي في السعودية، الأرض التي ولد فيها الإسلام، والتي تشهد معركة ليس بين الملك والشعب، لكن صراع أشقاء يخوضه آلاف الأمراء الذين يريد كل واحد منهم الحصول على السلطة والمكانة مظلة أعضاء العائلة الملكية المتبادلة؟ وفي هذه الحالة هل يلام محمد بن سلمان لو خاف من النهاية ذاتها؟!
"21 عربي"
13 مارس/ آذار 2020