تيموفي بورداشيف
مركز "كلوب فالداي" الروسي

في خضم الإجراءات التي تتخذها مختلف الدول الأوروبية، والتي من أبرزها إغلاق حدودها بشكل تام وحتى بين بعضها البعض، تتجلى نماذج الأنانية الوطنية. وهو ما يثير أسئلة من قبيل: ما مدى قدرة "اللعبة الأخيرة" -المتمثلة في هذه الجائحة العالمية "كورونا"- على هدم التكامل الأوروبي؟
تكشف التدابير الضخمة المتخذة لمقاومة فيروس كورونا أن من الضروري الاعتراف بأن "النظام الليبرالي العالمي" قد تفكك بالكامل.
ولطالما أثارت مسألة انهيار النظام الليبرالي العالمي حيرة الغرب في المنتديات العالمية التي يهيمن عليها.
ومن الممكن القول إن الأزمات التي تعرض لها العالم خلال الـ15 السنة الماضية هي مجرد تمرين بسيط أمام هذه الجائحة. فقد انتهكت الولايات المتحدة مرارا وتكرارا هذا النظام لتكشف بذلك عجزها عن إدارته.
وفي الواقع، كان مقررا إصلاح مجلس الأمن الدولي في التسعينيات، عندما لم تكن الصين وروسيا تمثلان لاعبين دوليين مهمين آنذاك. وبطبيعة الحال كان ذلك ليؤثر على النظام العالمي بشكل عام.
ولكن ضعف بعض الدول لا يستمر إلى الأبد، إذ إن روسيا والصين نجحتا في التحول إلى قوى عالمية هامة.
ومن بين جميع اللاعبين العالميين، لا تعد أوروبا قوة عسكرية بالغة الأهمية مقارنة بالولايات المتحدة، لكن وصلت رفاهية شعوبها إلى مستويات غير مسبوقة من حيث التطور والازدهار.
وفي الوقت الراهن، تشهد أوروبا ظروفا صادمة أجبرتها على غلق جميع حدودها، وذلك دليل على "الأنانية الوطنية". فهل ستكون جائحة كورونا "اللعبة الأخيرة" التي ستدمر التكامل الأوروبي الذي لم يعد قادرا على الاستمرار؟
لم يكن القادة الأوروبيون يتوقعون احتمال وقوع وباء من هذا النوع عندما أجبروا سلطات إيطاليا وإسبانيا واليونان على خفض تكاليف الرعاية الصحية بشكل كبير من أجل التغلب على أزمة سنة 2013.
وفي الحقيقة، ينطبق هذا الأمر على العديد من القضايا الأخرى، على غرار الصراع مع روسيا فيما يتعلق بالقضية الأوكرانية.
ويعزى السبب الرئيسي لهذا النهج السياسي غير الناجع إلى الفجوة بين العمل السياسي وعدم القدرة على تقدير العواقب.
فبعد الحرب العالمية الثانية، عانت أوروبا من خسائر كبيرة، وسعيا لاستعادة النمو الاقتصادي خسرت استقلالها السياسي، وأصبحت متورطة بشكل أو بآخر في خضم الصراع الثنائي بين الولايات المتحدة وروسيا، الذي انخرطت فيه الصين في وقت لاحق.
هناك العديد من الافتراضات من قبل خبراء أوروبيين تفيد بأن أوروبا قد تتحول إلى "عملاق اقتصادي، بينما تبقى قزما سياسيا".
والجدير بالذكر أن أوروبا لا تبالي بمصير الإنسانية من حولها في سبيل تحقيق مبتغاها. وفي الوقت الراهن، تثبت الصين العكس، وذلك من خلال تقديم المساعدة للأوروبيين (إيطاليا)، مؤكدة من خلال ذلك أن النهج الذي تتبعه سواء في مواجهتها لوباء كورونا أو بشكل عام هو نهج صائب. في المقابل، تثبت أوروبا أن النهج السياسي الذي تتبعه غير ناجح.
أوروبا وخلال تطورها بعد الحرب كان في مقدورها -إلى حد كبير- التغلب على مشكلة تفاوت الإمكانيات بين الدول الأوروبية. ولكن حل هذه المشكلة لا يتطلب فقط مؤسسات رسمية، وإنما يتطلب أيضا ثقافة سياسية خاصة في العلاقات بين الشعوب.
من الضروري أن يعمل الاتحاد الأوروبي على إيجاد أعلى أشكال التنظيم الاجتماعي لضمان حقوق الضعفاء الأساسية، بغض النظر عن مساهمتهم في التنمية العامة. ولكن، على مدى العقود الأخيرة، لم تتمكن أوروبا من التغلب على هذا العائق.
إن سلوك الدول الأوروبية الأناني، في ظل الظروف الطارئة التي تستوجب على كل دولة ضمان أمن مواطنيها، لن يؤدي إلى التدمير الفوري للسبب الرئيسي لإنشاء الاتحاد الأوروبي ألا وهو السوق الأوروبية المشتركة.
لكن أثبت التاريخ مرارا وتكرارا أن الاعتبارات السياسية هي التي تهيمن على المكاسب الاقتصادية على أرض الواقع.
من الممكن القول إن "النظام الليبرالي العالمي" يعيش أيامه الأخيرة، وهو أمر جيد إذا لم يكن انهياره رهين اندلاع حرب عالمية جديدة. ولكن من غير المحتمل أن يظهر أي نظام عالمي قوي وعادل بشكل مثالي، ذلك أن المشاكل التي قد تواجهها الدول القوية التي تقود هذا النظام ستمنعها من إيجاد حيّز من الوقت لرعاية حقوق ومشاعر الضعفاء.
ليس النظام الليبرالي هو الوحيد الذي يواجه أيامه الأخيرة، وإنما أوروبا -التي كانت يوما ما جنة للإنسان- تمر بأيام عصيبة أيضا، وربما شهورها أو سنواتها باتت معدودة. وفي الحقيقة، لم يعد بإمكان الاتحاد الأوروبي محاولة محاكاة سمات يوتوبيا أو المدينة الفاضلة.
"عربي 21"
20 مارس/ آذار 2020