ديفيد فيكلينج
وكالة "بلومبيرغ" الأمريكية

إن ما يحدث حالياً من انهيار يشهده العالم في أسعار النفط، يعد مؤشراً على بدء سقوط إمبراطورية النفط الخليجية. هذا الانهيار بات وشيكاً، وقد لا يكون لحرب الأسعار إلا القليل من الأثر في السقوط الحتمي للثروة الخليجية.
بالنسبة لجزء كبير من العالم، تعتبر الثروة النفطية لعنة. خذ على سبيل المثال بلداناً مثل نيجيريا وأنغولا وكازاخستان والمكسيك وفنزويلا، التي حبيت باحتياطيات كبيرة من الطاقة الكربونية ثم بددتها.
فقط في منطقة الخليج الفارسي تحول النفط إلى نعمة استغلت في بناء الدولة، فقد حولت اكتشافات النفط في منتصف القرن العشرين منطقة كانت غارقة في الفوضى والفقر إلى واحدة من أكثر الأماكن ثراء على سطح الكوكب. قطر والكويت والإمارات العربية المتحدة جميعها أكثر ثراء من سويسرا، وحتى المملكة السعودية والبحرين وعمان تجدها مكافئة من حيث الثروة لليابان أو لبريطانيا.
كانت عملية التحول تامة لدرجة أنه قد يسهل على المرء الاعتقاد بأن الثروة ناجمة عن قانون خالد من قوانين الطبيعة. ولكن ذلك غير صحيح. بل من شأن حرب الأسعار الحالية في أسواق النفط أن تعجل بقدوم اللحظة التي تواجه فيها الطبيعة غير المستدامة لاقتصاديات الخليج أهوال يوم الحساب.
في هذا الوقت، تنضم جميع الأنظمة الملكية الست إلى روسيا في فتح المحابس لإغلاق أسواق النفط الخام وإخراج المنتجين الذين يتكبدون تكلفة إنتاج أعلى منه. على الرغم من أن الزيادة التي تخطط لها المملكة السعودية وقدرها 2.5 مليون برميل في اليوم هي بلا منازع الموجة الأكبر في هذا التسونامي إلا أن جيرانها لا يحجمون. فالإمارات العربية المتحدة تنوي زيادة إنتاجها اليومي بمعدل 200 ألف برميل أو أكثر، وذلك بحسب ما يقوله مكتب الاستشارات رايستاد إنيرجي، بينما سترفع الكويت إنتاجها بمعدل 110 آلاف برميل يومياً، وسترفع روسيا إنتاجها اليومي بمعدل 200 ألف برميل.
لم يأت هذا الإسراف في الإنتاج بسبب عوامل جيوسياسية، وإنما هو حصيلة حسبة رياضية لها علاقة بتدني أسعار النفط. فمع تراجع عدد الدولارات التي ترد إليهم مقابل كل برميل نفط خام ينتجونه، تحتاج الأنظمة الملكية في الخليج إلى ضخ كمية أكبر بكثير للحفاظ على ما يشبه الإيرادات الحالية.
من حيث المبدأ تتوفر لهذه الدول ترسانة تكفي لخوض هذه الحرب، إذ إن تكلفة ضخ برميل واحد من النفط من حقول النفط الخليجية لا يتعدى ثمن زجاجة مياه شرب من النوع الفاخر. وحتى في أسوأ الاحتمالات عندما تهبط أسعار النفط الخام إلى أقل من 10 دولارات للبرميل وينجم عن ذلك تكبد قطاع النفط بأسره تقريباً خسارة مالية، فسيستمر منتجو الخليج في جني الأرباح. إنما تكمن المشكلة كما كتبنا في الأسبوع الماضي في اقتصادياتهم، إذ إنها تتطلب سعراً أعلى حتى يتمكنوا من ضبط ميزانياتهم ودعم عملاتهم المرتبطة بالدولار.
استباقاً لمثل هذه الأزمة، ولكي يتسنى التعامل مع تداعياتها ومع احتمال أن يتراجع الطلب على النفط على المدى البعيد، فقد عملت البنوك المركزية لدول المنطقة وصناديقها السيادية على إيداع كميات ضخمة من المال. ولكن أمام تراجع الأسعار، قد تتآكل هذه الأموال بسرعة كبيرة.
خذ على سبيل المثال صافي الموجودات المالية بحوزة حكومة المملكة السعودية – احتياطيات البنك المركزي زائد موجودات صناديق المال السيادية ناقص دين الحكومة. انخفضت هذه إلى 0.1 بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي بعد أن كانت 50% خلال السنوات الأربع المنتهية بعام 2018 عندما انهار سعر النفط الخام من مستوى 100 دولار للبرميل، وهو ما كان وصل إليه بنهاية عام 2014. والآن، حتى لو عادت الأسعار وارتفعت إلى ما يزيد على الـ80 دولاراً للبرميل، فإنه يتوقع أن تظل المملكة مدينة إلى أجل غير مسمى على المدى المنظور.
وخلال السنوات الأربع نفسها، هبطت الموجودات المالية بحوزة الممالك الخليجية الست ما يقرب من نصف تريليون دولار إلى تريليوني دولار، وذلك طبقاً لدراسة صدرت الشهر الماضي عن صندوق النقط الدولي. وحتى لو لم تتأثر ذروة الطلب على النفط حتى عام 2040 فإن المبالغ المتبقية يمكن أن تستنفد بحلول عام 2034، حسبما يقول الصندوق. بل إن النفط بسعر 20 دولارا للبرميل يمكن أن يسرع من معدل استنفادها، بحيث تصبح خزائن هذه الدول خاوية بحلول عام 2027.
حينما تتراوح أسعار النفط بين 50 و55 دولاراً للبرميل فإن الاحتياطيات الدولية للمملكة العربية السعودية ستهبط بحلول عام 2024 إلى خمسة شهور من تغطية الاستيراد، طبقاً لتقرير صدر عن صندوق النقد الدولي في العام الماضي. ينبغي أن يكون ذلك احتمالاً مقلقاً للغاية، لأنه سيضع المملكة على بعد خمسة شهور من أزمة ميزان مدفوعات لا تخطر بالبال والتخلي عن الارتباط بالدولار، وهو ما كان يشكل الأساس الذي قامت عليه تجارة النفط العالمية على مدى أجيال. ومع ذلك، فإن الأسعار التي نراها حالياً تجعل ذلك يبدو أشبه بسيناريو متفائل.
ما زال ثمة وقت لتجنب هذا المستقبل، ولكن ذلك يتطلب تغييرات كبيرة في نظرتنا إلى الخليج ودوره في الاقتصاد العالمي.
عمدت الحكومات في المنطقة إلى إحداث تخفيضات شديدة في ميزانياتها بعد هبوط أسعار النفط في عام 2014، فألغت الدعم على السلع وأضافت ضرائب المبيعات بطريقة أحرقت أصابع دولها الرعوية التي كانت تنفق بسخاء. ولو تراجعت أوضاعها الاقتصادية أكثر فقد تضطر إلى إضافة ضرائب أخرى وتقليص جهازها الحكومي المنتفخ. لن يكون أي من هذين الإجراءين مرغوباً فيه أو مرحباً به من قبل المواطنين الذين لم يسمح لهم في يوم من الأيام بممارسة حقهم الانتخابي. وقد يتطلب الأمر تقليص الإنفاق السخي على الدفاع والأمن، وهو الإنفاق الذي يشكل ما يقرب من ثلث ميزانية الدولة في المملكة السعودية.
قد يكون دنا أجل الحقبة التي كانت فيها الدول الخليجية وصناديق المال السيادية التابعة لها عبارة عن آلات صرف سحرية مستعدة لدفع أعلى الأسعار مقابل عقارات تشتريها في كل تارة من قارات المعمورة. وقد يجدون أنفسهم مضطرين لبيع كثير مما كانوا قد اشتروه في أيام الرخاء. وما من شك في أن ذلك سيؤثر على المؤسسات بدءاً بوزارة المالية الأمريكية، حيث تملك المملكة السعودية ما قيمته حوالي 183 مليار دولار من السندات، إلى "سوفت بانك غروب كورب"، التي قد تجد في الرياض شريكاً أقل سخاءً لتمويل الرؤى الواسعة لماسايوشي وأبنائه.
لقد امتطت ممالك الخليج موجات مذهلة من الثروة خلال نصف القرن الماضي أو يزيد، ولكن ما من موجة إلا ومآلها إلى التكسر. لن ترى الأجيال القادمة أبداً تلك الثروة التي يستمتع بها رعايا هذه الدول الآن. ولربما أثبتت الأيام أنه حتى دول الخليج لن تنجو من لعنة النفط. كل ما هنالك أنها كانت لحظة مؤجلة.
"عربي 21"
22 مارس/ آذار 2020