دمشق- أحمد رفعت يوسف / لا ميديا -

لم يعد الحديث عن الزيارة التي قام بها مسؤولان أمريكيان إلى دمشق يدور عن الزيارة بحد ذاتها، بعد تأكيدها من مصدر سوري، وإنما أصبح الحديث عن أسباب الزيارة ودلالاتها وما دار فيها وتداعياتها.

وفي مجريات الزيارة كانت صحيفة «وول ستريت جورنال» الأمريكية أول من كشف عن الزيارة. لكن الخبر بقي بين أخذ    ورد حتى تم تأكيده من مصدر سوري مطلع، وتحديداً من وزارة الخارجية.
وفي ترتيبات الكشف عن الزيارة، والتي اطلعت عليها «لا»، وما دار فيها، لوحظ أن الرد السوري كان مدروساً بدقة في كيفية الإخراج والتوقيت والشكل وفي مضمون ما كشفته من معلومات.
فالمصدر السوري الذي كشف عبر صحيفة «الوطن» أن «الوفد المؤلف من مسؤولَيْن (روجر كارستين وكاش باتل) زارا دمشق في آب/ أغسطس الماضي واجتمعا باللواء علي مملوك، رئيس مكتب الأمن الوطني في مكتبه»، وأن «هذه ليست الزيارة الأولى»، «سبقتها 3 زيارات مشابهة إلى دمشق خلال الأشهر والسنوات الماضية».
كما كشف المصدر أن الوفد بحث ملف ما يسمى «المخطوفين» الأمريكيين والعقوبات الأمريكية على سوريا... وسلة واسعة من المسائل حملت جملة من العروض والطلبات.
وأوضح المصدر السوري أن المسؤولين الأمريكيين فوجئا بموقف دمشق بأنه «لا نقاش ولا تعاون مع واشنطن قبل البحث بالانسحاب الأمريكي»، وأن «دمشق أصرت على انسحاب القوات الأمريكية المحتلة من شرق البلاد وظهور بوادر حقيقية لهذا الانسحاب على الأرض».
كما كشف المصدر أن «دمشق رفضت مناقشة العقوبات الأمريكية عليها قبل مناقشة ملف الانسحاب الأمريكي من الأراضي السورية»، وأن المسؤولين حاولا كسب تعاون دمشق في ملف «المخطوفين» الأمريكيين، لكنها تمسكت بموقفها بأولوية الانسحاب.
وختم المصدر بالتأكيد أن «دمشق حذرة حيال نمط هذه الزيارات الأمريكية، لجهة أنها لا تثق بها أو بنتائجها المحتملة»، وأن «القيادة السورية تدرك تأثير اللوبيات الأمريكية على الرؤساء الأمريكيين وقراراتهم وسياساتهم العامة».
أما ما دار في الاجتماع فقد علمت «لا» أن الوفد الأمريكي قدم عروضاً مغرية بتخفيف الحصار والعقوبات الأمريكية المتخذة بحق سورية، تمهيدا لإلغائها، ورفع الفيتو الأمريكي على الدول العربية التي ترغب بإعادة العلاقات مع دمشق، وعلى عودتها للجامعة العربية، وعدم منع واشنطن لأي دولة أو شركة ترغب بإعادة الإعمار في سورية، وإمكانية عودة العلاقات الدبلوماسية بين واشنطن ودمشق مستقبلاً، وكل ذلك مقابل أن تُساعد دمشق في الإفراج عن الموقوفين الأمريكيين في سورية.
لكن المفاجأة التي صدمت الوفد الأمريكي أن اللواء مملوك قدم لهم رداً مُختصرا وحاسما وغير متوقع، بأن دمشق غير مستعدّة لبحث أي موضوع قبل الانسحاب الأمريكي الكامل من شرق الفرات، ومن كل منطقة تحتلها في سورية، وأي تعاون من دمشق لن يكون قبل التأكد من بدء الانسحاب الأمريكي.
كما علمت «لا» أن الوفد الأمريكي حاول التلويح بموضوع التطبيع العربي مع الكيان «الإسرائيلي»، لكن جواب اللواء مملوك كان بدوره حاسماً ومختصراً بأن «موقفنا ثابت منذ البداية ولم ولن يتغير، لا سلام ولا تطبيع مع إسرائيل قبل انسحابها من كامل الأراضي العربية المُحتلّة، وإقامة دولة فلسطينية وعاصمتها القدس، وعودة اللاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم».
وقبل الدخول في التداعيات والنتائج، فقد كان لافتاً أن الزيارة تمت في شهر آب/ أغسطس الماضي، ولم يتم الكشف عنها إلا بعد حوالي شهرين من حدوثها وفي توقيت يسبق الانتخابات الأمريكية بأيام.
والمطلعون على خفايا الدبلوماسية السورية التي تميل إلى الصمت أكثر من الضجيج الإعلامي يدركون أنها تزين بياناتها ومواقفها بدقة ميزان من ذهب. وهنا كان لافتاً تركيز المصدر السوري المطلع على عدم الثقة بالأمريكي وبوعوده، وأن سورية معنية بالانسحاب الأمريكي أولاً قبل البحث حتى في العقوبات الأمريكية على سورية.
كما حاول السوريون توصيل رسالة بأن دمشق لا يمكن أن تتنازل عن ثوابتها مهما كانت الضغوط، خاصة وأن الجميع يدرك أن هدف إسقاط سورية والرئيس الأسد انتهى، وأن الاستمرار في هذه الألاعيب وتناقضات المنطقة وتفاصيلها يشكل خطراً على الجميع، أكثر مما هو على سورية التي تجاوزت مرحلة الخطر.
الموقف السوري الذي صدم الأمريكيين إلى حد الذهول كان له تداعيات وصلت حد الهستريا عند الرئيس ترامب وإدارته، وفي الكيان الصهيوني، وظهر ذلك بوضوح ضد الرئيس الأسد شخصياً، مع كشف الرئيس الأمريكي عن تأييده خطة لاغتياله قبل توقيفها من قبل وزير دفاعه مارك إسبر، ومع حديث «إسرائيلي» مشابه عبّر عنه الجنرال «دورو شارون» رئيس شعبة الأبحاث في الجيش «الإسرائيلي»، حين قال بكل وقاحة: «عدوّنا هو بشار الأسد وليس الشعب السوري، والمجتمع الدولي ارتكب خطيئة كُبرى بإبقائه على الديكتاتور بشار الأسد حيّاً».
كما ظهر من خلال تشديد العقوبات الأمريكية على سورية، ومنها «قانون قيصر» وتنفيذ عدة اعتداءات «إسرائيلية» على الأراضي السورية، والتي جاءت كلها في الفترة التي تلت الزيارة وما تخللها من مواقف سورية حاسمة.
وقد كان الأمريكيون يتوقعون أن سورية وبعد عشر سنوات من استخدام كل أنواع الحرب الشرسة والضغوط ضدها وصلت إلى حد التعب والإنهاك وستتلقف العروض الأمريكية وتراها فرصة لا تعوض، لكن ما سمعوه كان مخالفاً تماماً لتوقعاتهم.
وفي توضيح لكل أجواء الزيارة ونتائجها وتداعياتها يؤكد مطلعون في دمشق أن الرئيس ترامب أراد أن يستخدم موضوع الإفراج عن الموقوفين الأمريكيين في سورية كمفاجأة انتخابية يستطيع من خلالها أن يستميل شريحة كبيرة من المجتمع الأمريكي تكون كفيلة بترجيح كفته وبشكل مريح في انتخابات الرئاسة الأمريكية ضد منافسه الديمقراطي جو بايدن، على أن تكون هذه المفاجأة قبل أيام من بدء الانتخابات، للحفاظ على زخمها حتى يوم الانتخاب. لكن الرئيس الأسد رفض أن يكون لعبة انتخابية بيد الرئيس ترامب، الذي استخدم كل ما يمكنه من وقاحة وعنجهية في التعامل مع الملف السوري، بدءاً من سرقته حقول الغاز والنفط السوريين ومحصول القمح وحرق ما تبقى منه، واعتراف ترامب بالسيطرة «الإسرائيلية» على الجولان، وتهديده الرئيس الأسد شخصياً، ليوجه بذلك الرئيس الأسد صفعة قوية وموجعة لترامب قبل أقل من ثلاثة أسابيع من الانتخابات وفي خطوة قد تطيح بكل آماله في إعادة انتخابه.
ويؤكد المطلعون على كواليس الزيارة أن دمشق ما كانت لتتخذ هذا الموقف لولا أنها تمتلك من عوامل القوة والاطمئنان، والتي جعلتها توجه مثل هذه الصفعة لترامب وتدرك أنها قادرة على تحمل ردود الفعل والنتائج، خاصة وأن التطورات في المنطقة تسير بعكس ما يريده الأمريكيون وتحالفهم وأدواتهم، وأن القرار الذي اتخذه حلف المقاومة بإخراج الأمريكيين من سورية وكامل المنطقة ليس موجوداً على الطاولة فقط، وإنما سيأخذ طريقه إلى التنفيذ.