علي نعمان المقطري / لا ميديا -

لا يولد الاستبداد أو الاستعباد بداية إلا في ظل مجتمع تقليدي تعرض للانقسام بين طرفيه المتصارعين على الثروة والسلطة والقوة، بين أغلبية المجتمع العامل وبين الفئة المهيمنة الأقلية الثرية المسيطرة، أي بين طرف الهيمنة وبين قوى الكادحين، بين قوى الاستغلال والمتسلطين وبين 
المحرومين،  بين الفئة الطبقية المستبدة وبين جمهور الشعب.
قد يستبد فرد بفرد آخر أضعف ويستغله، لكنه لا يستطيع الاستمرار والتعميم وجعل ذلك نظاما ثابتا مستمرا، إلا إذا تكونت قوة كبرى تكافئ وتتغلب على كتلة المجتمع العام المقهور بامتلاكها القوة والثروة والنفوذ التي لا يمتلكها المجتمع. والنتيجة الهامة هنا هي أن المجتمع لا يمكن فرض الاستبداد عليه إلا إذا سلبت منه ثروته العامة ومصادر قوته وصارت إلى أيدي حفنة من النافذين وإلى طبقة المهيمنين المتخمين المتجبرين، وأضحت تحت سطوة الطامحين لاسترقاقه واستغلاله واستبداده ونهبه وإفقاره، وذلك ضرورة موضوعية لاستمرار النهب والاستغلال والاستبداد، ذلك أن علاقة الطرفين واستقرارها تتحدد دوما بمقدار المتغير في ميزان القوة لدى الطرفين، وميزان القوة يتحدد بميزان الثروة الواقعة تحت سيطرة كل طرف منهما واتجاهاتها.
وتغدو المهمة الثابتة أمام القاهرين هي امتصاص أكبر قدر من الثروة العامة والخاصة من أيدي المجتمع إلى أيدي الأثرياء والمتجبرين بكل الوسائل المتاحة. وتتدرج الوسائل من العنف المباشر إلى العنف غير المباشر وإلى الخداع والتضليل وإلى الجبايات والمكوس والضرائب وإلى السخرة وإلى المكاراة والإجارة والقنانة عبر أشكال العمل الإنتاجي وعبر أعمال الخدمة وعبر المحاصصة في المنتوج والمراباة والمصادرات والسيطرة على الحيازات العامة والخاصة والاستيلاء الخاص والجماعي والقمع والسجون والنهب والحرمان من الاستحقاقات والحقوق...

 السيطرة المستمرة
العنف والقسوة والإرهاب والرعب هي من وسائل الملك والاستبداد اليومي. ولكي يتضخم المستبد وطبقته وتكبر وتتسع قوته وسيطرته، فلا بد أن يتحول وحاشيته وحلفاءه وأنصاره إلى طبقة كبيرة من المالكين المسيطرين، كل جماعة على بلد أو إقليم، فيوسع عليهم باستمرار ويضيق على الناس ويقتطع لهم أفضل الأراضي العامة والخاصة، ويضعهم على رقاب الناس لكي يظلوا في حال احتراب وكراهية مع عامة الناس.
ولكي يأمن المستبد من نقمة الناس فهو هنا يضع بينه وبين الناس الذين يقهرهم حاجزا من الموظفين والجباة والعشارين والشرطة والجند والكتاب والمسجلين والحسابين والنواب والعمال والحكام والمدراء والمروجين والمضللين والمفسرين والمراقبين والجواسيس والعيون... ويستمر على هذا المنوال دون توقف أو تراخٍ، أي أن الاستلاب البطيء واستغلال واختلاس المجتمع وثروته العامة من قبل الأرستقراطية القديمة المترفة الفاسدة هو المقدمة الضرورية لتحقيق الاستبداد والاستعباد عبر مراحل انتقالية طويلة تتراكم فيها القوة والثروة والنفوذ معا عبر عملية تحويلية معقدة طويلة تتم في بواطن وتلافيف المجتمع القديم وعلاقاته، تراكمات تسمح باحتلال المزيد من السلطة والقوة والثروة من قبل المصطفين والزعماء الأشرار.
إن الاستبداد مؤسسة جماعية ومنظومات حكم وممارسات سياسية واجتماعية واقتصادية وثقافية وسلوكية وأيديولوجية، وهو أسلوب عيش وحياة وعلاقات اجتماعية إكراهية لا إنسانية تفرضها على المجتمع قوة فوق المجتمع، قوة اجتماعية واقتصادية مسيطرة مهيمنة على مصادر القوة والثروة والسطوة ووسائل الإكراه والقسر يحقق لها مصالحها وحدها على حساب مصالح أغلبية المجتمع المقهور والمغلوب، المستلبة حقوقه، وهو ذا نتيجة من نتائج انقلاب التوازنات بين فئات المجتمع على مستويات الثروة والقوة والسلطة وتركزها في قطب واحد هو قطب الأثرياء ضد الفقراء، والأقوياء ضد الضعفاء.
وهذا يعني أن الاستبداد هو وسيلة سلطة وأداة تحكُّم بأيدي القوة المهيمنة على السلطة والقوة والثروة، وهو شكل إدارتها لاستغلالها المجتمع، وأسلوب إكراهه وإخضاعه لإرادة الفئة المسيطرة لمواصلة إنتاجه للثروة وضخها في طواحين المهيمنين، وقمع مقاوماته بشكل منظم ودائم من خلال توفير القوى الدائمة للقمع، أي استئجار العصابات وشراء المرتزقة والأفاقين المستعدين لأن يضعوا قواهم وسيوفهم في خدمة الأثرياء المتجبرين والطامحين والطامعين، أي إنشاء جيوش خاصة بدلا من الجيوش العامة الشعبية التابعة للمجتمع القبلي القديم، التي كانت تتكون من الشعب كله وفي مواجهتها.

الاستبداد والدولة الطبقية المتسلطة 
لا يولد الاستبداد مصادفة أو خارج السياقات التاريخية التي أنتجته. ولدينا أمثلة نموذجية واضحة تكشف عن نماذج متعددة للاستبداد، وكلها تشير إلى أن منشأها اجتماعي مشترك وواحد في الجوهر رغم تعدد الأشكال ووتائر درجتها وشدتها ومداها الزمني. ولكن السؤال هو: هل الدولة تتضمن الاستبداد حتما أم أن الظاهرتين منفصلتان بعضهما عن بعض؟ أم أن الاستبداد هو شكل وإطار الدولة المستبدة وأهم تجلياتها؟
الحقيقة التاريخية تقول لنا إن الاستبداد لا يوجد خارج الدولة المتسلطة الأقلوية الطبقية والبيروقراطية والأرستقراطية. ويمكن القول إن الدولة وسيلة الاستبداد وقواها الاجتماعية منذ ولادتها قبل آلاف السنين في جزيرة الساميين العرب، فللساميين القدامى الفضل في بناء الحضارة وإنتاج الدولة مع إنتاجهم الاستبداد، أي مع انقسامهم إلى طبقتين متواجهتين، أخضعت الأقوى منهما الأضعف، فالدولة لا ضرورة لها بدون أن يسبقها الاستبداد، فالاستبداد نتاج سلبي للحضارة، والدولة نتاج سلبي للاستبداد وتطرفاته الأخرى بما فيها الاستعباد والاسترقاق.
حين تنقسم القبيلة الكبرى المسيطرة بين أصحاب «فوق» وأصحاب «تحت» تتحول أرستقراطيتها إلى قوة مسلحة تجبر الأغلبية الضعيفة على طاعتها والاعتراف بإمارتها وملكها، ثم تعمل لتوسع نفوذها في الجغرافيا فتزيد من مماليكها ومحاربيها المحترفين والمرتزقة والمستأجرين، فتفرض طاعتها وسيادتها على القطر كله، وتتحول إلى دولة ذهبية باسم العائلة المهيمنة أو بيت الملك أو عشيرته، وهذا ما رأيناه في الدول اليمنية القديمة، العادية والقحطانية والسبئية والحميرية والمعينية والحضرمية والقتبانية والأوسانية والمعافرية والعماليقية والقبطية والبربرية... وغيرها من الدول التي سادت ثم بادت.
إن كثيراً من الملوك صاروا ملوكا بعد أن كانوا كهانا، أي رجال دين، أو قضاة قبائل شيوخا وحكاما لها، وهذا ما تشير إليه مؤرخات الكتب القديمة، كالتوراة وأسفارها وخاصة سفر القضاة، ويعني هذا أن الملوك كانوا قبل أن يصيروا ملوكا يشغلون في السابق وظائف عامة اجتماعية هي الكهانة وقيادة الجماعة روحيا استنادا إلى معارفها وأسرارها التي يحتكرها. والكاهن هو في الأساس شيخ قبيلته أو قاضيها أو رئيسها، أي ذو نفوذ في مجتمعه. فالكهانة هي المنصة التي ينطلق منها الكاهن الطموح القوي العصبية والثري إلى الإمارة على القبيلة القوية أو مجمع القبائل المتحالفة في إقليم ما، ومنها إلى الملك، أي إلى إخضاع بقية القبائل ووضعها تحت السيطرة.
وتكون العديد من التحديات التاريخية بمثابة المحفزات للجماعة الطموحة للتحرك، وتوفر شروطاً ملائمة لإقامة تلك الوحدة العليا العامة، أي المملكة التي يغدو السيف الدامي بمثابة الآلة المقدسة وطريقا للمجد، وتضمن التبرير العام لما أهرقت من دماء على طريق تلك الوحدة: الملك..وهكذا نلاحظ أن القوة وحدها تغدو جوهر الدولة، أي الاستبداد، وكل دولة بما هي قوة قمع وقسر تقود إلى الاستبداد وتنطوي عليه ولو كقوة كامنة، فالتاريخ الماضي لا يعرف دولا مستبدة ودولا ديمقراطية رحيمة مستقرة لوقت طويل، فالثابت تاريخيا هو أن الدولة قد تآخت مع الاستبداد والملك والطبقية والعصبية عبر تاريخها كله، وإن وجدت بعض الحقب المضيئة لبعض الأولياء والأنبياء والحكام الرسل والثوار والأحرار فهي لحظات نادرة لم تطل ولم تستمر ولم تعم العالم في الماضي والحاضر، فقد كانت ومضات نور اختنقت في بحر الظلمات قبل أن يشتد عودها.
الدولة هي جهاز الاستبداد والقمع والإدارة والنهب للداخل والخارج، وتدعي أنها وجدت لتحقيق الأمن الاجتماعي وحماية الممتلكات والحقوق العامة والخاصة. وفي الحقيقة فإن المجتمع يشهد تفاقم الجرائم والاستهتار بالحقوق ونهبها والسطو عليها وقهر الضعفاء وسلب أموالهم، فالدولة تعتقد أنه لكي يطيع الناس ويخضعون يجب أن يشغلوا بأنفسهم وأموالهم وحياتهم، وهذا ما تصرح به الأمثال والحكم الاستبدادية القائلة «جوّعْ كلبك يتبعك»، و»اشغل القبيلي في روحه قبل ما يشغلك»، و»غبر الوجوه لا تأس لحالهم فإن لم يظلموا ظلموا»... والمقصود واضح في هذه الحكم التي لا تخلو من الاعتبار والتجربة، وتقول ما معناه أن المجتمع المقهور والمنهوب والمظلوم والمستغَل كائن متوثب إذا لم تقهره عن مطالباته بحقوقه، وإن لم تظلمه بالعنف والقسوة والحزم والصرامة، وإن لم تخضعه بالرعب والعسف فإنه سوف ينهض لدحر من استباح حقوقه وأمواله ودمه. 

الخوف من المحكومين
الخوف من المحكومين هو هاجس جميع الأمراء والحكام والملوك، فلا يوجد من تأمّر على الناس بالرضى والاختيار حقيقة وبحرية إرادة، فالأقوياء الذين فرضوا سيطرتهم بقوة السيف يعلمون أن الدماء التي أريقت لن تموت ولن تهدأ حتى تنتقم لذاتها ولضحاياها، ولا بد أنها تنتظر طويلا أو لوقت قصير، وأيما الأجلين سيكون حتميا، ولذلك يحولهم الخوف من النقمة إلى أسارى للخوف، وهو حال الأمراء والحكام، ولذلك يلجؤون إلى المزيد من بناء القوة دون تراجع أو توقف.

يتحدد مصير الدول بمدى قوتها المباشرة والناعمة، فمتى ما شعر خصومها بأنها تضعف وأنها تتراجع فإنهم سرعان ما يشمرون عن سواعدهم للانقضاض عليها وإسقاطها وإقامة دولة تالية تتطابق مع مصالحهم. فالقوة هي قانون الدولة، وهي لا تعرف العواطف والأخلاقيات والرحمة والديانات وإن تظاهرت بها، فدينها الوحيد هو المصلحة والفائدة والجدوى.
ومن أجل الحفاظ على الإمارة والملك، أقامت السجون وأقامت الجلادين الذباحين قاطعي الرؤوس على أبواب الأمراء طوال الوقت، ترعب وترهب وترغب وتستميل. والأمير القوي حسب وجهة النظر الماكيافيللية هو الحاكم الذي لا تعيقه اعتبارات الأخلاقيات والدين والعواطف عن تحقيق طموحاته السياسية وتوسيع مملكته وإخضاع بقية الأقاليم وتوحيدها بقيادته.
والأمير بسمارك، المستشار الألماني الشهير، له قولة مشهورة مفادها أن توحيد الألمان بالحديد والنار واجبه الأسمى. وللملك أبو جعفر المنصور، والد هارون الرشيد، مقولة شهيرة أيضا، وهي: «الملك عقيم»، أي ليس له أبناء ولا أهل ولا أصدقاء سوى نفسه.

عهد النبي وولايته
لقد عرفنا حكم النبي وخلفائه بعد النبي، وولاية النبي مجسدة فيها وفي شخصها الإمام الولي. لم يكن للنبي حكومة منفصلة ولا دولة كالدول التي نعرفها ولا نواب أو ولاة على الأقاليم، ولا قادة محترفون دائمون، فكل معركة لها رجالها واختياراتها المحكمة.
كان النبي قد أدار مدينة كبرى تضاهي قريشاً بمجرد هجرته، فقد ظل هو مرجع كل القضايا والأحكام والتوجيهات والأوامر والسلوكيات والأخلاقيات الجديدة، وهو القاضي الأعلى لحل المشكلات، ومصدر التشريع ومؤسس السنن والقواعد في السلم وفي الحرب، كأنه القائد الأعلى العام للحرب والقوات والجيوش، وقد أدار معاركه بنجاح ودقة ومهارة حد العبقرية. كما أدار المساومات والمناورات والموادعات والتحالفات الدائمة والمؤقتة مع مختلف القوى غير المسلمة، وتمكن من تشتيت قوى العدو وكسب معارك ضخمة تتفوق فيها قريش ماديا وعدديا بأضعاف مضاعفة، ولم يخسر في حياته معركة واحدة بقيادته إلا ما شذ عن التوجيه النبوي. فلماذا لم يقم ملكا أو إمارة أو حكومة إسلامية؟
لأنه لا يريد ملكا ولا إمارة ولا تكبرا ولا تجبرا ولا تميزا ولا طبقية ولا علوا في الأرض ولا تسلطا ولا إرهابا ولا قمعا ولا إثراء ولا كنزا للمال ولا قهرا للناس، أي أتباعه وشعبه المسلمين المؤمنين.
كما أن ذلك يتعارض مع الرسالة المقدسة التي بعث بها لإيصالها إلى العالمين جميعا، فجوهرها الدعوة وليس الملك والحكم. ولم يفعل ذلك مصادفة، بل هو منهج وحكمة وتأسيس على معرفة نقدية عميقة لكل ما كان موجودا أو ماضيا من حكومات ودول وإمارات وإمبراطوريات وكسرويات وممالك.
وقد كان تاجراً حصيفا محترفا وثريا كبيرا فيما مضى، لكنه أنفق كل ما كان له في سبيل الدعوة دون أن يطالب بتعويضات أو يحاول العيش كما كان في كنف الثراء القديم، حتى عندما امتلك الأموال بعد الفتح والانتصارات لم يحاول الانتفاع بها لذاته أو يجتزئ منها لنفسه ولشخصه، رغم حاجاته البشرية ورغم احتياجات أهله وأهل بيته وزوجاته وأقاربه، فقد قبل الهدية ورفض الصدقة له ولأهل بيته وبني هاشم جميعا بحديث صريح، وجميع المحيطين به كانوا يسيرون مثله ويبذلون جهدهم في ذلك دون شكوى أو تذمر.
هو نمط عيش ونظام حياة يرسيه للناس معه ومن بعده، وهي حقوق يحددها وأُسس يقيمها في المجتمع لا تهتز ولا تتزعزع، أساسها هو أن المال مال الله والإنسان مستخلف فيه ومؤتمن عليه، ينفقه في شؤون الدين والدعوة، وسواء كثر أو قل في يد الإنسان فإن له وظيفة مقدسة هي أنه وسيلة لا غاية، وسيلة لتسهيل الدعوة وتوسيعها في الأرض وإقامة مجتمع العدل والتكافل والرحمة والأخوة، والقضاء على العوز والفاقة، وليس له أن يكنزه ويحتكره دون الآخرين في أيدي قلة من المترفين والأثرياء.
ولكن المال قد يأتي إلى الناس، فما يفعلون به؟ 
نعم، ولكن التقيد في المصارف والنفقات والوجوه التي حددها الله ورسوله، أي عدم التوقف عن الدعوة والجهاد وإصلاح المجتمع وبنيته وتقويته ووحدته ليظل قوة متماسكة، فالتاجر يجب أن يتحول إلى مسلم وليس المسلم يتحول إلى تاجر، والقرآن يقول هذا صراحة أو تلميحا، والسنة السلوكية تقول هذا وتعلمه. وهذا لا يمنع أن هناك من يمارس التجارة للعيش الحلال، ولكن هذا ليس في إطار النخبة المؤمنة الإسلامية الطليعية الذين تقيدهم السنة النبوية العملية فتبعدهم عن الاهتمام بحطام الدنيا على حساب التفرغ للدعوة والعقيدة ونشرها والجهاد في سبيلها، وليس مصادفة روح التقشف التي فرضها النبي على نفسه وصحابته وتلاميذه.

الخلافة والإمامة والملك والإسلام
أما خلفاؤه الأئمة المهديون من بعده فقد أعدهم على عينيه وصنعهم على يديه، رباهم وأدبهم وعلمهم وأودع فيهم أسرار الدعوة والدين وعلومها وعلوم الكون والعالمين، وضمن لهم ما استقاموا على الطريقة السليمة، أي النهج السليم، الذي بشرهم به وأقام رجاله وهيأهم للمهام الشاقة القادمة من بعده، وهو المنهج المستخلص من القرآن وسيرته وسننه وتعاليمه وسلوكه وأخلاقه وأقواله وتعاليمه وشخصيته المتكاملة.
وأول الشخصيات التي أرسلها أو كلفها بعيدا عن مركزه في مكة كان داعية الإسلام إلى يثرب (مصعب بن عمير)، فقيه الدين الجديد لينشره بين القبيلتين العربيتين في يثرب، ويطبق ما يتضمنه من أحكام وأنظمة وأخلاقيات وسلوكيات ويسير بالناس بموجبها. لقد صار بين أتباع الإسلام هو المرجع الأعلى للجميع، وهذا هو النموذج المحمدي للعاملين وموظفي الإسلام كدين وسياسة وحكم وقيادة مندمجة معا لا ينقض أحدهما الآخر.
وبعد وفاة النبي الكريم وقعت أحداث بعيدة عن أوامره ونواهيه ومنهجه. وقد بدأ بهذا النكوص بعض أصحابه الذين تسابقوا يريدون الإمارة وليس الدعوة، ويريدون تحكيم قواعد العصبية والقبلية بعيدا عن جوهر دعوته وتوجيهاته رغم وضوحها، وأدى ذلك إلى اضطراب الأوضاع مؤقتا حتى تمت إعادة إصلاحها بالعودة إلى الوصية المحمدية، بعد أن وقعت الفتنة وسال الدم الطهور حول منصب الخليفة، وتسابق على المنصب الأعلى غير أهله ومستحقيه والقادرين عليه.
وتمت إهانة تعاليم النبي والخروج عليها بعد موته، بتجاهلها وتجاهل قراراته ووصاياه ووليه المحدد، وجعل المنصب الأعلى إمارة في قبيلة ومشيخة قريش وعصبيتها خاصة، والتظاهر على بيت النبي لمنعهم من حقهم مناط التكليف والمسؤولية العامة وحرمانهم من أبسط حقوقهم المادية والمعنوية. وقد جاء في أحاديث ابن عباس ما يوضح ذلك أشد الوضوح ويجليه، فيقول ابن عباس إن «عمر» سأل الإمام علي: أتدري لم منعك قومك الخلافة؟ قال: الله ورسوله أعلم. قال عمر: لقد كرهت قريش أن تجمعوا يا بني هاشم بين النبوة والخلافة فلا تخرج منكم أبدا.
وقال ابن عباس إن «عمر» قال له وهما يمشيان في أزقة المدينة يوما: يا ابن عباس، والله إن صاحبكم (أي الإمام علي) قد ظُلم لأنه أسن (أي صغير السن بالقياس للشيوخ من قريش)، وهو إقرار بالذنب وتبريره في وقت واحد، وفي حديث عن عمار بن ياسر العنسي، وهو من كبار الصحابة، قال: إننا قد عاهدنا رسول الله على ولاية الإمام علي من بعده. ويقول المعنى نفسه الصحابي الكبير أبو ذر الغفاري، وكذلك الصحابي العظيم سلمان الفارسي، والصحابي الكبير عبدالله بن مسعود، والصحابي الكبير المقداد بن عمر الكندي، وهناك الصحابي اللصيق بالرسول الكريم حذيفة بن اليمان، أمين أسراره، صاحب أمنه الخاص، يشهد لله أن اثني عشر صحابيا كانوا حربا على رسول الله وأرادوا اغتياله بعد العودة من معركة تبوك الأخيرة، وفيهم عدد من كبار الشخصيات التي سيطرت على الأمر فيما بعد وحولته إلى ملك عضوض قبليا وأسريا، وهذا وارد في المرويات والأحاديث لدى السنة والشيعة.
أما حديث الغدير فهو محل إجماع الطرفين، ولا ينكره أي طرف، وإنما يعمل الطرف القرشي على محاولة التلاعب بكلمات ومعاني الحديث ونصوصه بإعطائه معاني أخرى واضح تلجلجها وتناقضاتها التي لا تخفى على كل ذي بصيرة.

النموذج
وإذا سألنا أنفسنا: أي نموذج للإسلام قدمه التاريخ؟ سنجد أن مسار ما بعد النبي قد تضمن الخروج على سنته وأوامره ونواهيه، وأطل هذ الخروج بداية بشكل خجول وتدريجي حتى أصبح علنيا وفاجرا على أيدي معاوية ومن تبعه. ولذلك لا يمكن احتساب ذلك المسار المضطرب امتدادا للنموذج المحمدي الإسلامي، لكنه جزء من تاريخ الإسلام. وفي كتاب «نهج البلاغة» للإمام علي وشروحات أبي الحديد ما يغني كل لبيب ومستزيد، وفيها القول الفصل.