قسم التحقيقات - خاص / لا ميديا -

«الغربة لم تعد ذات جدوى، ولم يعد تحسين الوضع الاقتصادي متاحا، بل أصبحت فقط من أجل سداد تكاليف الإقامة وتغطية النفقة المعيشية لي ولأسرتي باليمن».
يتابع خالد علي (31 عاما): «لقد قررت الخروج النهائي، وفي ذهني تأسيس مشروع صغير يعفيني من العودة للاغتراب، ووجدت ذلك مجديا»، مستطرداً: «يكفي أنك تعيش في بلدك ووسط أهلك، بدلا من عناء الغربة وشقاء الفراق».

صراع مرير مع الديون ورسوم الإقامة
قضى خالد عشرة أعوام من شبابه غربة في بلد لا يقدر مجهود العامل في التنمية الاقتصادية، ويستخدمه كورقة ضغط سياسية في علاقاته مع محيطه، واتخذ قرار الخروج النهائي عقب انفراج أزمة كورونا.
سبعة أعوام متواصلة في الغربة لم يخرج منها خالد بحصيلة مادية غير ما أنفقه في تكاليف زواجه، ليعود بعدها للعمل بلا طائل؛ حيث ريع شغل عام كامل لا يكاد يغطي نفقاته الضرورية، ومبلغ بسيط ينفقه في إجازته ويستدين مثيله إلى حين عودته، ليظل بذلك في صراع مرير يكابد ديونه ورسوم الإقامة الباهظة.
يعبر خالد عن حال فئة كبيرة من العمال اليمنيين في السعودية، لكنه اتخذ قرارا شجاعا لم يؤثر فيه ما تبثه وسائل الإعلام عن الوضع اليمني وتصويره بغير المستقر، فيما يقبع البقية أسرى المخاوف الناجمة عن التناول الإعلامي غير الموضوعي للعدوان على اليمن، الذي يرسم صورة عن اليمن كبلد طارد لا يستوعب أبناءه، ولا يحتضن العائدين منهم، وتنعدم فيه فرص العمل المستقرة.

الحل في بلدي
أسس خالد محلا تجاريا لبيع المواد الغذائية والبهارات في العاصمة صنعاء، يرى فيه بديلا ناجعا حرره من ربقة الارتهان للغربة في بلد تمادى في طغيانه على اليمنيين، حتى وصل به الأمر حد التضييق على المغتربين لديه ومحاربتهم في مصدر رزقهم. وقد شنت المملكة قبل ذلك حربا عدوانية على اليمن، ولم تدخر جهدا في سبيل منع أي استقرار سياسي 
فيــــه يؤسس من خلاله لنهضة تنموية تحقق تقدما اقتصاديا ورفاها للشعب، محتكمة في ذلك إلى قاعدة أن أي تقدم في اليمن سيُنقص بالضرورة من مكانتها ويُعدل شوكة الميزان المختلة، التي تضع السعودية في مركز ثقل عربي.

من بارقة أمل إلى مأساة
وبوحي من المعاناة التي يعيشها المغترب اليمني في السعودية والآثار المترتبة عليها يردد أهالي المغتربين أثناء استقبالهم عائدين: «ابن سلمان خلس المغتربين»؛ فلم يعودوا ينتظرون الهدايا وقناني العطر التي اعتادوا عليها من المغتربين العائدين إلى وطنهم.
لقد صار اليمني المغترب في السعودية محط تضامن وتعاطف المواطنين، بعد أن ساد الاعتقاد سابقاً بأن السفر والاغتراب يمثل بارقة أمل لكثير من اليمنيين في تحسين أوضاعهم الاقتصادية، والعثور على فرص عمل تدر عليهم دخلا جيدا ينعكس إيجابا على الوضع المعيشي لأهلهم وأسرهم! ومن المقولات الساخرة المتداولة بهذا الشأن، أن الأهالي هم من صاروا يرسلون لأبنائهم في الغربة تكاليف تجديد الإقامة، تأكيدا لحجم المأساة التي صار يعانيها المغترب اليمني في السعودية.

إجراءات تطفيشية
أفنى اليمنيون سنين طوالاً من أعمارهم وشبابهم في الاغتراب في السعودية، ويواجهون اليوم مصاعب شتى، تبدأ بتكاليف الإقامة الباهظة المتضاعفة عاما بعد آخر وفقا لمشروع ابن سلمان «رؤية 2030»، ولا تنتهي عند شحة فرص العمل وانكماش سوق العمل في السعودية، نتيجة التأثيرات الاقتصادية الناجمة عن حرب اليمن، والسياسة الاقتصادية التي تنتهجها السعودية مؤخرا.
لقد مثلت السعودية سابقا الوجهة الرابعة عالميا في استقبال العمالة الأجنبية، والذين بلغ عددهم هناك 9.2 مليون وافد، يستحوذون على 42٪ من سوق العمل. غير أن هذه النسبة انخفضت بنسبة 22٪ وفقا لتقديرات رسمية، فزيادة الرسوم وفرض ضرائب جديدة وارتفاع الأسعار إلى جانب إجراءات إدارية وأمنية يتخللها القسر والعنف والإهانة، منها نظام الكفيل، أدت إلى مغادرة وترحيل ملايين العمال العرب والأجانب خلال الأعوام الأربعة الماضية.

25% من العمال غادروا
وبحسب بيانات رسمية فإن ما يقرب من 1.9 مليون عامل أجنبي في القطاع الخاص غادروا السعودية منذ بداية عام 2017، وخلال الربع الثالث من العام 2018 تراجع عدد العاملين أكثر من 315 ألفاً مقارنة بالربع الذي قبله، أي أن عدد العاملين المغادرين والمطرودين زاد عن 100 ألف عامل شهريا خلال تلك الفترة، ليتراجع عدد العمال في السعودية إلى أقل من 9.6 مليون بحلول سبتمبر 2018 مقابل 12 مليونا قبل 4 سنوات، وفقا لتقديرات رسمية.

وداعاً أيام الشقاء
نبيل أحمد (38 عاما) اصطحب معه عائلته قبل 6 أعوام للإقامة في السعودية، وكان قد قضى 9 سنوات قبل ذلك. غادر المملكة مطلع العام 2018 خروجا نهائيا بعد ارتفاع رسوم تجديد الإقامة ورسوم المرافقين، فقد صار عاجزاً عن سداد تلك التكاليف الباهظة. وهنا في صنعاء أسس مشروعاً صغيراً هو عبارة عن محل بيع ملابس، وفر له مصدر دخل يضمن له حياة كريمة في بلده، ويتحسر على أيام الشقاء التي قضاها هناك.

جبايات ورسوم سنوية تقصم ظهر المغترب
أكثر من 3500 دولار تتقاضاها السلطات السعودية من المغترب لديها خلال العام 2020، قابلة للزيادة وفق ما تقتضيه بنود رؤية ابن سلمان الاقتصادية «رؤية 2030»، تشمل رسوم وزارة العمل والجوازات والتأمين الصحي، ما يعادل 13250 ريالاً سعودياً، بواقع 800 ريال شهرياً تحت نص قانوني «رسوم القيمة المضافة»، و2500 ريال سعودي لمكتب العمل سنويا، و650 رسوم إقامة، و500 رسوم تأمين، يضاف إلى ذلك رسوم أفراد العائلة، على من اصطحبوا معهم عائلاتهم، فيما الراتب لا يتجاوز 1000 دولار في أحسن الأحوال، ويترك بعد ذلك في سوق مفتوحة لا تحتكم منشآتها لأية ضوابط تخص ساعات وبيئة العمل والسكن، فكل ذلك متروك لأرباب العمل وطرقهم في استغلال العمالة في سبيل تحقيق أكبر عائدات ربحية ممكنة، خلال حملات التفتيش الموجهة التي تقوم بها وزارتا العمل والتجارة، تستهدف العمالة وتؤدي بهم إلى الترحيل القسري، دونما مراعاة لحقوقهم أو تثمين عرقهم وجهودهم المبذولة في تلك الأسواق التي لم تكن لتزدهر لولا اليد العاملة الأجنبية، والأجنبي عموما كسائح ديني يقصد الحج والعمرة، أو كعمالة مغتربة دؤوبة السفر والدخول والخروج.

بلا حقوق وعرضة للتعسف
تلك الرسوم الباهظة التي يتكبدها المغترب في المملكة تفرضها غالبا مؤسسات العمل المستضيفة -المناط بها سداد تلك الرسوم وفقا للوائح وقوانين العمل- على العامل كشرط للحصول على العمل ضمن الاتفاقات الشفهية، ولا ترتد عليه كخدمات يفترض بالسلطة التكفل بها، فهو إنسان درجة ثانية منقوص الحقوق لا يمكنه مقاضاة كفيله السعودي أو حتى مواطن اعتدى عليه، فالسلطة تقف دائما في صف المواطن، وصار روتينيا سماع أي حامل للجنسية السعودية يعتسف الأجنبي ويهدده بالترحيل، وترحل كثيرون لتلك الأسباب، فقط تعود تلك الأموال بفائدة على دافعها بأنه يجتاز نقاط التفتيش دون أن يقبض عليه كمجهول هوية أو متعثر في سداد رسوم الإقامة ينتهي به الأمر في سجن الترحيل في الشميسي بمكة أو الحائر بالرياض.
أضف إلى ذلك جائحة كورونا، وما ترتب عليها من توقف الأعمال، وعجز المغتربين عن الوفاء بالتزاماتهم، بما فيها رسوم الإقامة التي ظلت مفروضة رغم توقف مصادر الدخل وتراجع الحركة التجارية وفقدان الوظائف، ما سيدفع بالضرورة إلى مغادرة المغتربين. ويقدر عدد اليمنيين المتواجدين في السعودية بنحو 3 ملايين مغترب، وقد تراجع الرقم كثيرا بمغادرة قرابة مليون شخص خلال الأعوام الثلاثة الماضية، ومايزال عدد المغادرين مرشحاً للزيادة.

السفارة والقنصليات في موقف المتفرج
من جانبها تتقاعس السفارة والقنصليات اليمنية هناك عن القيام بدورها، وتتجاهل بشكل كامل التعسف والمعاناة التي يتعرض لها المغترب اليمني، ولم تكلف نفسها القيام بأي دور من شأنه تخفيف تلك المعاناة. وفي العموم لا يشعر المغترب بوجود سلطة تحميه أو تقف إلى جواره، ولا يلمس أي اهتمام من السفارة والقائمين عليها، فقط تجبره الضرورات على التعامل معها لتخليص إجراءات رسمية كتجديد جواز أو تعميد وثائق، ويكلفه ذلك أضعاف المبالغ الرسمية كرشاوى، ولا سبيل أمامه غير ذلك.

ورقة ضغط سياسية فقط
وبالمجمل، فالمملكة تعتبر المغتربين لديها ورقة ضغط سياسية تستخدمها كلما اقتضت حاجتها لتلوي عنق هذا النظام أو ذاك من أنظمة الدول التي تحاول الخروج عن مسار الاصطفاف التام وراء المملكة وأجندتها. حدث ذلك في 2012 عندما رحلت آلاف اليمنيين، على خلفية نية السلطة اليمنية وقتها التعاقد مع شركات تنقيب صينية للعمل في محافظة الجوف. وكانت قبل ذلك قد طردت ملايين المغتربين اليمنيين وفرضت عليهم نظام الكفيل في أعقاب حرب صيف العام 1994. وعقب التقارب التركي الباكستاني، نفذت السلطات السعودية حملة ضد العمالة المخالفة لأنظمة العمل، استهدفت على وجه الخصوص العمالة الباكستانية.

حالة سخط شعبية كامنة
لم تقتصر الآثار الاقتصادية المترتبة على الحرب العدوانية على اليمن، وكذا رؤية ابن سلمان والضرائب، على الوافد الأجنبي فحسب، بل امتدت إلى المواطن السعودي، الذي لم يتعود على الضرائب الحكومية من قبل، وصارت 15٪ نسبة القيمة المضافة تثقل كاهله، ما جعله يتجه نحو تقليص حالة الرفاه، والاتجاه إلى خيارات التوفير الاقتصادي، على سبيل المثال شراء سيارات اقتصادية تلائم الوضع الاقتصادي الجديد، وترتب على ذلك تدني الإقبال على المركبات الكبيرة ذات الرفاهية العالية وتراجع أسعارها، بمقابل ارتفاع أسعار السيارات الاقتصادية الصغيرة وزيادة الإقبال عليها.
لكن فرص التعبير عن حالة السخط ليست متاحة إلا عبر كلمات مسترقة أو عبارات مسجلة على جدران الحمامات العامة، فالحراك الشعبي هناك مقموع ولا يمكنه إحداث تغيير في السلطة الفوقية. وأما التغييرات الحاصلة، كالانفتاح بما يخص المرأة والسماح لها بقيادة السيارات والعمل في مجالات كانت محظورة، تتم بقرار سياسي من الأعلى، وذلك لأسباب تتعلق بنشأة المملكة والدور البريطاني في تأسيسها، أضف إلى ذلك القمع السلطوي وغياب نموذج التغيير الناجح في المحيط الجغرافي المجاور.

دائرة السوء تدور على المملكة
كمن يمضي إلى حتفه معصوب العينين، تغرق السعودية في تدخلها العدواني على اليمن، وتستمر في توسيع وتعميق حالة السخط والكراهية الشعبية لدى اليمنيين. والجميع يعرف أن هدفها منذ البداية إعادة الشعب اليمني إلى حظيرة طاعتها، لكنها اليوم ومن داخل أراضيها يكتوي المغترب اليمني بنيران سياساتها التي لا تقف عند حد ولا تراعي أي قيم ومبادئ إنسانية ولا يثبت لها هدف أو غاية.
الوضع في الجنوب اليمني المحتل هو الآخر يُكمل إغلاق دائرة السوء التي تحيط بالمملكة، فوجه المحتل هناك أسفرت حقيقته وغاياته المتمثلة بالاستيلاء على منابع الثروة والنفط، وإغراق الجغرافيا المحتلة في صراعات بينية تديم حالة الفوضى وانعدام الاستقرار الأمني والخدمي والاقتصادي الضامن لحياة خالية من منغصات انعدام الخدمات الأساسية والانفلات الأمني والفوضى الشاملة.
في المقابل تواصل صنعاء المضي في تحقيق أهداف ثورة 21 أيلول/ سبتمبر، المتمثلة في تكريم اليمنيين ورد اعتبارهم كمواطنين في دولة يجب أن تسخر جهودها في سبيل رفعة وعزة أبناء الشعب. ويوما بعد آخر تثبت صنعاء والمناطق التي لم تطأها أقدام الاحتلال ومرتزقته، أنها الحضن الآمن لكل اليمنيين ولا تلفظ من أحشائها غير بيادق العدوان وعملائه، إذ تتمتع باستقرار سياسي انعكس بدوره على الاقتصاد وأسعار صرف العملة. كما لا ينكر أحد حضور أجهزة الأمن في ملاحقة وضبط التشكيلات والعصابات الإجرامية والخيانية، لتوفير بيئة آمنة لممارسة حياة طبيعية بلا مهددات. وهنا تتجلى المقارنة بوضوح بين مشروع وطني يستند إلى الشعب ويسعى لتحقيق مطامحه، مقابل مشروع محتل عدواني لا تتجاوز أهدافه استغلال الثروات ودعم الفوضى وإدامتها.