شايف العين / لا ميديا -

اندلعت في الرابع من نوفمبر المنصرم معارك عنيفة في إثيوبيا عقب إعلان رئيس الوزراء الإثيوبي، آبي أحمد، شن عملية عسكرية برية وجوية على إقليم تيغراي، أحد أهم الأقاليم الإثيوبية، تسانده فيها جارته الإريترية.
وتحدثت تقارير إعلامية عدة عن ارتكاب القوات الفيدرالية الإثيوبية مجازر جماعية ضد أبناء الإقليم، الذين يمثلهم في المعركة "جبهة تحرير شعب تيغراي". ولعل اندلاع المواجهات في هذا التوقيت الذي يشهد خلافا حادا بشأن سد النهضة الإثيوبي بين أديس ابابا والقاهرة والخرطوم يبعث على تساؤلات عدة عن ماهية المشهد والقوى الخارجية المتدخلة فيه ومآلاته على دول القرن الأفريقي، وما تسمى "أزمة سد النهضة". وحاولنا في هذا التقرير إظهار صورة واضحة رغم تعقيدات المشهد هناك بفعل التعددات الإثنية في بلاد الحبشة (إثيوبيا).

إقليم تيغراي
يقع إقليم تيغراي أو تكرينيا، المعقل الحضاري وعاصمته ميكيلي، شمال إثيوبيا، تحده من الشمال إريتريا ومن الجنوب إقليم أمهرة ومن الشرق عفر ومن الغرب السودان. تبلغ مساحته الجغرافية وفقا للمعلومات المتوفرة 41409.95 كيلومتراً مربعاً، أما سكانه فيبلغ تعدادهم نحو 5 ملايين و247 ألف نسمة، وفقا لإحصاءات 2017.
إقليم تيغراي يأتي في المرتبة السادسة من حيث المساحة الجغرافية، وفي الخامسة من حيث الكثافة السكانية، ويعد المعقل الحضاري في إثيوبيا، تقطنه "عرقيات" متنوعة لكل منها لغتها الخاصة، وتتمثل تلك العرقيات في قومية التيغراي، والجبرتة، وبني شنقول ولغتهم العربية، والكوناما، بالإضافة إلى الرايا. أما اللغات فهي العربية وخاصة ببني شنقول، والتيغرية وخاصة بالتيغراي، أمهرية وخاصة بالجبرتة، الفرنسية والإسبانية.
أما الديانات فتنحصر في الإسلام، الذي وفقا لإحصاء 2007 يمثل معتنقوه 4.0% من السكان، وهم قبيلة "الجبرتة" ذات الأصول اليمنية، والمسيحية بثلاث طوائف وهي الأرثوذكسية الإثيوبية ومعتنقوها يشكلون 95.6% من السكان، والرومانية الكاثوليكية ومعتنقوها 0.4%، والبروتستانت ومعتنقوها يعدون الأقل بنسبة 0.1%.

البعد التاريخي 
هناك عدة عوامل يكتسب بها البلد ثقلا أو أهمية في محيطه، سواء الإقليمي أو الدولي. وهذه القاعدة تنطبق على المناطق داخل البلد الواحد، حيث يكون لمنطقة معينة وزنها المختلف عن بقية المناطق. وهنا نتحدث عن العوامل التي يمتلكها إقليم تيغراي وجعلته ذا أهمية بخلاف بقية الأقاليم داخل إثيوبيا.
فمن حيث العامل الحضاري (التاريخي)، يمتلك التيغراي أهمية تاريخية كبيرة، كونه المرتكز الذي قامت عليه الحضارة "الحبشية" وارتبط تاريخه بتأسيس مملكة أكسوم، العاصمة الأولى للحبشة، التي استقرت فيها الهجرات اليمنية القديمة واستمرت لقرون طويلة منذ 80 قبل الميلاد وحتى 825 ميلادية. 
وتقول المعلومات التاريخية إن المسيحية أصبحت في القرن الرابع الميلادي الديانة الرسمية للمملكة، إذ تحتوي بحسب الكنيسة الإثيوبية على تابوت العهد الذي يقال إن ألواح العهد حفظت فيه، وحمله إليها من القدس الإمبراطور "منليك الأول" ابن الملك سليمان وبلقيس ملكة مملكة سبأ، والذي اعتبر ملوك إثيوبيا أنهم ينحدرون منه.
وبعد فقدانهم الحكم، بداية القرن التاسع، أصبح التيغراي مضطهدين ودخلوا في نزاعٍ مباشرٍ مع قومية الأمهرة التي تنحدر أصولها أيضا من القبائل اليمنية في المهرة نتيجة للتداخل الجغرافي والتاريخي.
كما أن للإقليم تاريخاً حضارياً إسلامياً يتمثل في أنه كان معقل حكم الملك النجاشي وأول بقعة عرفت الإسلام في القارة الأفريقية، ويتواجد فيه "مسجد النجاشي" الذي يعود تاريخ بنائه إلى فترة هجرة المسلمين إلى الحبشة، عندما أمر النبي محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم صحابته في السنة الخامسة من البعثة (615 ميلادية) بالهجرة إلى هناك هرباً من تعنت كفار قريش وتعذيبهم لهم، حيث أحسن ملكها (أصحمة بن أبجر النجاشي) معاملتهم، ورفض تسليمهم إلى قريش وإعادتهم إلى مكة عندما أرسلت من يطلب ذلك من قبلها.
وتقع قرية النجاشي التاريخية على بعد 45 كم شمال مدينة ميكيلي، عاصمة الإقليم، ويوجد فيها المسجد الشهير وأضرحة 15 صحابياً، وبجوارها قبر الملك الصالح أحمد النجاشي (كما يسميه الناس هناك)، والذي حكم الحبشة خلال الفترة (610 ـ 630) ميلادية.

أهمية اقتصادية
يمتلك الإقليم أهمية اقتصادية كبيرة في إثيوبيا، حيث يسهم بما نسبته 46% من الناتج المحلي للبلد، كون 80% من سكانه يعملون في الزراعة، فهو يعد من أكثر المناطق الملائمة للزراعة وينتج مزروعات مهمة مثل السمسم المعد للتصدير، كما يضم صناعات وطنية.
وإلى جانب الأهمية الزراعية يلعب إقليم تيغراي دورا بارزا في قطاع البناء الذي يشهد نموا كبيرا في إثيوبيا، حيث يضم اثنتين من كبرى المجموعات العاملة على الصعيد الوطني، وهما "سور كونستروكسيون" و"ميسيبو سيمينت"، الشركة الأولى للإسمنت.
ومن الشركات الكبرى في الإقليم أيضا "ألميدا تكستيل"، أحد أكبر مصنعي النسيج في إثيوبيا، و"إيزانا ماينينغ" من كبار منتجي الذهب، لما يملكه الإقليم من ثروات معدنية ثمينة، و"ميسفين إنداستريال أنجنيرينغ" التي كانت تصنع قبل سنوات سيارات "بيجوت" في إثيوبيا.

الحضور السياسي
حضر الإقليم، الذي يخوض حربا عسكرية شنتها عليه حكومة آبي أحمد في نوفمبر المنصرم، في محطات هامة من تاريخ الحبشة (إثيوبيا حاليا).
لعل أبرز تلك المحطات والتي جعلت للإقليم الفضل في تميز إثيوبيا عن غيرها من الدول الأفريقية بعدم خضوعها للاستعمار من قبل الدول الكبرى، ما سميت بموقعة "عدوا" والتي هُزمت فيها إيطاليا على أيدي التيغراي عام 1889.
ودارت المعركة على أرض الإقليم. وإلى جانب المقاومة الشرسة للاحتلال من قبل قبائل التيغراي، ساهمت الجغرافيا الجبلية والمناخ البارد في حسم المعركة لصالحهم.
وإلى جانب ذلك كان الإقليم مرتكز قيام الحضارة الحبشية بتأسيس مملكة أكسوم التي حكمت لقرون عدة، هيمن التيغراي عبر "جبهة تحرير شعب تيغراي" التي تأسست عام 1975 بعد عامٍ من انقلاب الزعيم الشيوعي منغستو هيلا مريام على الإمبراطور هيلا سيلاسي، وتمكنت عبر إنشاء جبهة عريضة من مقاومي نظام م نغستو، من تشكيل "الجبهة الديمقراطية الثورية للشعوب الإثيوبية"، التي تكونت من "المنظمة الديمقراطية لشعوب أرومو"، و"حركة الأمهرا الديمقراطية الوطنية"، و"الجبهة الديمقراطية الشعبية لجنوب إثيوبيا"، و"جبهة تحرير شعب التيغراي".
ويتزعم تيغراي إثيوبيا هذا التحالف بقيادة مليس زيناوي، والجبهة الشعبية لتيغراي إريتريا بقيادة أسياس أفورقي. واستطاع هذا التحالف من خلال زحف عسكري نفذه من الأطراف، إسقاط حكم منغستو هيلا ماريام عام 1991، وحينها قررت "جبهة تحرير أرومو" الانسحاب من "ائتلاف الجبهة الديمقراطية الثورية للشعب الإثيوبي" في عام 1992، ليتم طردها بعد محاولتها الفاشلة تأكيد استقلالها عن "جبهة تحرير مورو" داخل التحالف.
ومنذ الاستيلاء على السلطة في أديس أبابا عقب إسقاط حكم منغستو، هيمنت قومية التيغراي على الرغم من قلة عددها، على مفاصل السلطة والثروة في إثيوبيا حتى مجيء آبي أحمد من قومية الأرومو عام 2018.

جذور الخلاف مع  حكومة آبي أحمد
ظهرت بوادر الخلاف بين التيغراي والأرومو بعد تحالف الأخيرة مع قومية الأمهرة وقيامهم في عام 2016 بانتفاضة مهدت لإخراج إثيوبيا من قبضة أقلية التيغراي إلى غالبية الأرومو.
ذلك الخلاف عززه ما قام به آبي أحمد منذ توليه السلطة في 2018 من عمليات إقصاء لقادة الجبهة التيغرية تدريجيا من مناصب المسؤولية في أديس أبابا، فانتقلوا إلى المعارضة، الأمر الذي حد نوعا ما من نفوذهم السياسي، لينكفئوا بعدها إلى إقليمهم حيث أعادوا ترميم شرعية شعبية هناك.
وبما أن النّظام السياسي في إثيوبيا هو نظام فيدرالي يتكوّن من عشرة أقاليم بتوزيع إثني تتمتّع بإدارات ذاتيّة مُستقلّة، بطريقةٍ أو أخرى وتحتفظ الحكومة في أديس أبابا بمركزية السلطة، أعلن آبي أحمد تنظيم انتخابات في أغسطس الماضي، إلا أن تأجيلها إلى أجل غير مسمى بذريعة جائحة "كورونا" أثار حفيظة أبناء إقليم تيغراي وأجروا انتخابات في أيلول/ سبتمبر الماضي نتج عنها برلمان وسلطة محليّة، احتجاجًا على التأجيل، ليقوم البرلمان المركزي بإلغاء نتائجها وإقالة المجلس المحلي وحكومة الإقليم. وبعدها أرسل آبي أحمد في أكتوبر الماضي جِنرالًا لتسلم السّلطة في الإقليم، لكنّه مُنِع من دُخول العاصمة ميكيلي، فبادر آبي أحمد بإعلان حالة الطّوارئ فيه، ومنع التحويلات المالية من وإلى الإقليم.
وزاد الخلاف بين الإقليم والحكومة الفيدرالية في ديسمبر 2019 عندما قرر آبي أحمد دمج الأحزاب المشكلة للائتلاف الحاكم في حزب واحد تحت مسمى "حزب الازدهار"، وهي الخطوة التي رفضها تيغراي، كونها شطبت الائتلاف الحاكم لإثيوبيا على مدى قرابة 3 عقود وأفقدت "جبهة تحرير شعب تيغراي" آخر ما تبقى لها من نفوذ في الحكومة الفدرالية.
وحزب الازدهار الحاكم الجديد في إثيوبيا هو نتيجة اندماج 8 أحزاب إثنية، 3 منها كانت أحزابا ضمن ائتلاف "الجبهة الثورية لشعوب إثيوبيا" الحاكم سابقا، وهي حزب أورومو الديمقراطي، وحزب شعوب جنوب إثيوبيا الديمقراطي، وحزب أمهرة الديمقراطي، واندمجت معها 5 أحزاب أخرى، وهي الأحزاب الحاكمة في الأقاليم الإثيوبية، وكانت تسمى أحزاب الموالاة، وهي حزب تجمع هرر الوطني، وحركة غامبيلا الديمقراطية، والحزب الوطني العفري الديمقراطي، والحزب الصومالي الديمقراطي، وحزب بني شنقول غوماز الديمقراطي.
ويرى مراقبون أفريقيون أن المنعطف الحاد والخطير بدأ عندما أعلن الجيش الفدرالي التابع لآبي أحمد في 20 أكتوبر الماضي تغييرات لقادة عدد من القواعد العسكرية، وكان من ضمنها القاعدة الشمالية الواقعة في إقليم تيغراي، وهي واحدة من 4 قواعد تتوزع في أرجاء إثيوبيا وتعتبر الأكبر والأهم، حيث تتمركز فيها أعداد كبيرة من المدرعات والأسلحة الثقيلة، باعتبار أن تلك القاعدة كانت على مدى عقدين منطلق الحروب التي خاضتها إثيوبيا ضد إريتريا.
وفي 26 أكتوبر أصدرت جبهة تيغراي بيانا أعلنت فيه رفضها للقرار، بسبب عدم اعترافها بالحكومة الفدرالية، وبالتالي عدم امتثالها لقراراتها، متهمة الجيش الفدرالي بأنه انحرف عن مهمته الدستورية وأصبح أداة لتنفيذ المصالح الضيقة للحزب الحاكم.

الخلاف مع إريتريا 
تكمن المشكلة بين تيغراي وإريتريا في أن الأولى كانت منذ تأسيسها "جبهة تحرير شعب تيغراي" عام 1975، تدعو إلى انفصال الإقليم وعاصمته ميكيلي، في حين كانت متحالفة مع "الجبهة الشعبية لتحرير إريتريا" التي كانت تحارب أيضا من أجل استقلالها، وانقلب التحالف بين تيغراي إثيوبيا وتيغراي إريتريا إلى عداء شديد عقب استقلال الأخيرة، وترسيم الحدود بينهما، وهو ما قسم التيغراي بين الدولتين، ونشب نزاع حدودي بينهما على منطقة "بادمي" الحدودية، وتحوّل إلى اندلاع حربٍ بينهما في الفترة بين (1998- 2000) أسفر عنها مقتل عشرات الآلاف من الطرفين.. وعمق الخلاف ذهاب الرئيس الإريتري أسياس أفورقي إلى بناء علاقات قويّة مع آبي أحمد وحُكومته، بعد اتّفاق السلام الذي وقع بينهما عام 2018 وتضمن تنازل أحمد عن المنطقة المتنازع عليها بين تيغراي وإريتريا للأخيرة، وحصل بمُقتضاه رئيس الوزراء الإثيوبي على جائزة نوبل للسّلام.

اندلاع الحرب 
بعدما ألغى البرلمان المركزي نتائج انتخابات تيغراي التي أجراها الإقليم عقب تأجيلها من قبل آبي أحمد بذريعة "كورونا" وإقالته مجلسه المحلي وحكومة الإقليم وإرساله جنرالا لتسلم زمام حكم الإقليم، الذي تم منعه من دخول العاصمة ميكيلي، أعلن رئيس الوزراء حالة الطوارئ في الإقليم وأطلق في 4 نوفمبر المنصرم عملية عسكرية ضده ما زالت جارية حتى الآن.
وتشير تقارير إعلامية ومعلومات نشرها ناشطون إثيوبيون من قومية التيغراي وقوميات أخرى إلى ارتكاب الجيش الفيدرالي مجازر جماعية بحق سكان الإقليم الذي يدور فيه الصراع، خصوصا بعد إعلان آبي أحمد في 29 نوفمبر انتصاره بدخول جيشه المسنود من إريتريا ودول أخرى عاصمة الإقليم ميكيلي، وسيطرته عليها، بينما لا تزال المواجهات مندلعة حتى الآن في مناطق أخرى في الإقليم.
وتفيد التقارير بأن الجيش الفيدرالي عمد إلى قتل العديد من أبناء تيغراي بالسكاكين والسواطير، بالإضافة إلى نزوح عشرات الآلاف منهم إلى دول مجاورة كالسودان.
وتفيد تقارير لمنظمات حقوقية إثيوبية وناشطين بأن الجيش الفيدرالي التابع لآبي أحمد ارتكب جرائم حرب في الإقليم، حيث قتل ما لا يقل عن 200 مدني، وتسبب في أسبوعه الأول بنزوح 10 آلاف من سكان تيغراي إلى السودان، وإلى الآن تسبب بنزوح قرابة 200 ألف شخص.
من جانبها ردت جبهة تحرير شعب تيغراي، التي تقول المعلومات إنها تملك جيشا تعداده نحو 250 ألف مقاتل، على تدخل إريتريا في الحرب عليه بقصف مطار أسمرة. وعن الاصطفافات والمواقف الإقليمية والدولية ظهرت جليا كل من الإمارات وإريتريا وكيان العدو الصهيوني إلى جانب حكومة آبي أحمد، بينما لم يظهر بوضوح الموقف المصري والسوداني من طرفي الحرب رغم وجود دلائل تشير إلى تدخل غير مباشر في الحرب، خصوصا وأن مآلاتها ستنعكس على أزمة الدولتين مع إثيوبيا بشأن سد النهضة.

إريتريا والإمارات وكيان العدو الصهيوني يصطفون مع أديس أبابا
تربط إثيوبيا علاقة صداقة وثيقة بكيان العدو الصهيوني الذي أبدى موقفه الداعم لأديس أبابا في حربها ضد التيغراي بعد تعزيز تلك العلاقة وتوطيدها من قبل آبي أحمد. فقد سعى الكيان إلى التواجد بقوة في مسألة سد النهضة، لاسيما بعد أن وصلت المفاوضات المصرية الإثيوبية حوله إلى طريق مسدود، لتوسيع نفوذه في أفريقيا ولأطماع أبداها منذ مدة طويلة. فمن ناحية الأمن المائي الخاص بها ترغب "إسرائيل" بالسيطرة على نسبة من مياه النيل، وفي البعد الجيوسياسي فإنها تطمح من خلال مشاركتها المباشرة في "سد النهضة" إلى السطو على مصادر الطاقة والتي يعد النيل من أكبرها.
ووفقا للمعلومات تعود أطماع العدو في مياه النيل إلى ما قبل تأسيس كيانه الغاصب، وتحديداً إلى العام 1903 عندما قدّم زعيم الحركة الصهيونية، تيودور هرتزل، مشروعاً يسعى من خلاله إلى بناء مستوطنات في شبه جزيرة سيناء تنضم في وقتٍ لاحق إلى المستوطنات في فلسطين المحتلة، حيث سعت المنظمة الصهيونية إلى توطين اليهود في العريش.
ولمواجهة مشكلة ندرة المياه في تلك المنطقة، اقترح هرتزل على لانسدون، وزير خارجية بريطانيا، مد أنبوب على عمق كبير تحت قناة السويس لضخ مياه النيل إلى شبه جزيرة سيناء، وأعاد كيان العدو طرح هذه الرغبة في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي.
وبعد بناء كيان العدو علاقة مع إثيوبيا إبان حكم "جبهة تحرير شعب تيغراي" تواصلت الزيارات المتبادلة بينهما، إذ زار رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد فلسطين المحتلة مطلع 2019 وأكد تعزيز التعاون بين البلدين.
وشهدت تلك العلاقة تطورا لافتا، إذ أكدت تقارير إعلامية مساعي كيان العدو إلى دعم إنجاز مشروع سد النهضة، الأمر الذي من شأنه أن يعود عليه بمنافع كثيرة، حتى لو كانت تلك المنافع على حساب الجارة مصر.
وكشفت مصادر حكومية سودانية عن وقوف كيان العدو الصهيوني منذ البداية وراء تشييد سد النهضة، حيث إن شركات تابعة له تشرف على عملية البناء، بالإضافة إلى وجود طابق كامل في وزارة الموارد المائية والكهرباء في "أديس أبابا" تابع لخبرائه، فضلاً على تدريب 500 مهندس ري إثيوبي في فلسطين المحتلة، كما تم توقيع اتفاقية بين وزارة الكهرباء الإثيوبية وشركة "تل أبيب" لإدارة كهرباء إثيوبيا، مؤكدة أن القانون الدولي يمنح كيان العدو الحق في الحصول على مياه نهر النيل حال إنشاء كيان اقتصادي مع دول المنبع والمتمثلة في إثيوبيا.
وحصلت أديس أبابا على دعم عسكري من كيان العدو الصهيوني، حيث كشف موقع "تيك ديبكا" الاستخباري الصهيوني في يوليو 2019 النقاب عن مساع يبذلها الكيان الغاصب لتحصين سد النهضة الإثيوبي، ومساعدة أديس أبابا على حمايته، كونه قد يتعرض في أسوأ الأحوال إلى هجمات في حال فشل المفاوضات مع مصر والسودان.
وذكر الموقع أن طواقم من ثلاثة مصانع متخصصة في الصناعات العسكرية والدفاعية والجوية في "إسرائيل" أنهت في أواخر 2019 العمل على نصب منظومات دفاعية جوية متطورة من طراز (Spyder-MR) حول سد النهضة الإثيوبي.
وأشار إلى أن شركة الصناعات الدفاعية الصهيونية "رفائيل" وفّرت لإثيوبيا منظومة "بيتون" الدفاعية وكذلك منظومة "ديربي" وهي صناعة محلية صهيونية، في حين وفّرت الصناعات الجوية (MBT Missiles Division of Israel Aerospace Industries) شاحنات خاصة تحمل تلك المنظومات.
وطالما اصطف كيان العدو الصهيوني مع حكومة آبي أحمد فمن البديهي أن تصطف دويلة الإمارات وإريتريا إيضا مع الطرف ذاته، وهذا ما حدث، حيث أكدت "جبهة تحرير شعب تيغراي" استخدام أديس أبابا للقواعد العسكرية الإماراتية في إريتريا لاستهداف الإقليم بالصواريخ والضربات الجوية.
ومنتصف نوفمبر اتهم المستشار السياسي لحاكم إقليم تيغراي حكومة أديس أبابا باستخدام طائرات مسيرة إماراتية انطلقت من قاعدة إماراتية في مدينة عصب الإريترية لضرب المواقع الدفاعية لجبهة تحرير شعب تيغراي، وهي ذاتها القواعد التي تشارك في تقديم الدعم اللوجستي والعسكري البحري والجوي للعدو الإماراتي في عدوانه على اليمن.
ووقعت أبوظبي مع إثيوبيا عام 2019 مذكرة تفاهم عسكرية لتعزيز التعاون في المجالات العسكرية والدفاعية بين البلدين، ما يعطي إشارات إلى أن ما أعلنته "جبهة تحرير تيغراي" عن انخراط إماراتي في الحرب يبدو صحيحا.
ووفقا لوسائل إعلام، فإن الإمارات مهدت لتوقيع مذكرة التفاهم العسكرية بتقديم دعم وصل إلى 3 مليارات دولار عام 2018 كمساعدات واستثمارات، في أكثر من 90 مشروعا منها 33 مشروعا عاملا و23 مشروعا قيد الإنجاز في قطاعات الزراعة والصناعة والعقارات وتأجير الآلات والإنشاءات وحفر الآبار والتعدين والصحة والفندقة، بحسب بيانات هيئة الاستثمار الإثيوبي، فيما حصلت 36 شركة إماراتية على التراخيص اللازمة للعمل في إثيوبيا.
وكان وزير الخارجية الإماراتي، عبد الله بن زايد، أدلى بتصريحات، خلال اتصال هاتفي أجراه في 11 نوفمبر، مع نظيره الألماني "هايكو ماس" بحثا فيه تطورات الأوضاع في إثيوبيا، وأهمية العمل على تعزيز الأمن والاستقرار في البلاد، أكد فيها موقف بلاده الداعم لآبي أحمد.

الموقف المصري السوداني 
لم تبد مصر والسودان موقفهما من حرب حكومة آبي أحمد التي دخلتا معها في أزمة بشأن سد النهضة، على إقليم تيغراي، فالخرطوم اكتفت بإرسال تعزيزات عسكرية كبيرة إلى شرقي البلاد، حيث تتجاور ولاية كسلا السودانية مع إقليم تيغراي الإثيوبي موضع الأزمة، بالإضافة إلى إغلاق الولاية مع ولاية القضارف المجاورة لإثيوبيا، تحسُّباً لاحتمالية تدفُّق مقاتلين إثيوبيين إلى السودان عبر الحدود.
غير أن تحرك آخر للخرطوم يوحي بغير ذلك، فقد أوضحت تقارير استخباراتية قيامها بتدريب عناصر من إقليم بني شنقول الإثيوبي الذي يبنى سد النهضة على أرضه، وتربطه مع السودان علاقة وطيدة كون قبائله تنحدر من أصول سودانية.
ومنذ الوهلة الأولى رفض الإقليم بناء سد النهضة على أرضه، كونه سيقضي على مساحات كبيرة من أراضي السكان الزراعية بغمرها بالمياه، وحكومة الإقليم مهما بدت توافقاتها مع حكومة أديس أبابا إلا أن الخلافات يمكن أن تتطور فيما بينهما تزامنا مع اندلاع المواجهات في إقليم تيغراي.
أما مصر فما زالت متحفظة، وإن أشار خبراء ومراقبون إلى أنه لا بد من وجود تدخل مصري في المواجهات بشكل أو آخر، مرجحين أن يكون التدخل استخباراتيا.
وعزى مراقبون عدم إبداء مصر موقفا واضحا من الصراع في تيغراي إلى تصريحات رئيس نظام العدو الأمريكي المنتهية ولايته دونالد ترامب يوم 27 أكتوبر الماضي، خلال مكالمة هاتفية مع رئيس وزراء السودان عبدالله حمدوك، قال فيها إن "الوضع خطير للغاية، لأن مصر لن تكون قادرة على العيش بهذه الطريقة، وسينتهي بهم الأمر بتفجير السد"، وأضاف: "وقد قلتها، وأقولها مجدداً وبصوت عالٍ وواضح: سوف يفجّرون ذلك السد. عليهم أن يفعلوا شيئاً ما".

الصين حليف تيغراي الغائب 
تبدو المواقف الدولية إلى جانب حكومة آبي أحمد، ويوحي بذلك الجلسة التي عقدها مجلس الأمن قبل أيام وتعد الأولى بخصوص الحرب في تيغراي، ولم تخرج حتى ببيان معلن واكتفت بإحالة الأمر إلى المجلس الأفريقي.
ورأى محللون سياسيون أن تصرف مجلس الأمن، الذي يدار من قبل العدو الأمريكي، وسكوته على ما يجري في تيغراي يعطي آبي أحمد فرصة لحسم الصراع لصالحه ضد الإقليم.
واستغرب المحللون غياب الموقف الصيني الذي تربطه علاقات وثيقة بـ"جبهة تحرير شعب تيغراي" ذات الجذور الماركسية الشيوعية، فعلى مدى سنوات تربعها على سلطة حكم إثيوبيا وقعت مع الصين اتفاقيات استثمار كبيرة وصلت وفقا لمعلومات إلى تريليون دولار، وبدأت بصياغة شراكة تعاونية شاملة فيما بينهما عام 2003.
وفي نوفمبر 2014 صرح ليو يون شان، عضو اللجنة المركزية بالحزب الشيوعي الصيني، بأن الحزب يرغب فى تعزيز التبادلات مع الجبهة الديمقراطية الثورية للشعب الإثيوبي التي تتزعمها "جبهة تحرير شعب تيغراي".
وقال ليو إن الصين تأمل فى العمل عن قرب مع إثيوبيا لتنفيذ الاتفاق الذي توصل إليه قادة البلدين وأن تحترم كل منهما الأخرى وتتعلم منها من أجل تعزيز العلاقات الثنائية.
ولعبت جبهة تحرير تيغراي دورا أساسيا مع الصين، حيث كانت البوابة التي دخل منها نفوذ بكين إلى دول القرن الأفريقي وأفريقيا عموما، إلا أن الصين غائبة تماما عما يجري اليوم من حرب على تيغراي وجبهة تحريره الشعبية الحليف الأفريقي الأول لبكين.

توقعات بامتداد المواجهات إلى سد النهضة 
وعن مآلات المشهد توحي الدلالات بأن الصراع في تيغراي سيكون له انعكاساته على مشروع سد النهضة، وذلك باحتمالية امتداده، خصوصا في حال طال أمد الحرب بفعل عوامل يمتلكها الإقليم أبرزها قوته العسكرية وتضاريسه الوعرة وغيرها من العوامل.
ومن المتوقع أن تمتد تحالفات التيغراي إلى إقليمي بني شنقول والعفر، اللذين يعانيان من المشكلات ذاتها مع حكومة آبي أحمد في بلدٍ قابلٍ للانفجار وتطور الصراع. وعلى الرغم من أنه لا تربط بين تيغراي وبني شنقول -موضع بناء سد النهضة- حدود، إلا أنه يمكن أن يتم ذلك بالتنسيق عن بعد أو بتنفيذ ضرباتٍ متزامنة.
سبق أن أعلنت أديس أبابا، في نوفمبر المنصرم، إطلاق جبهة تحرير تيغراي صواريخ على إقليم أمهرة الذي يشارك في الحرب مع الجيش الفيدرالي الموالي لحكومة آبي أحمد.

استقرار دول القرن الأفريقي مهدد بمآلات الحرب على تيغراي
تشهد دول القرن الأفريقي، التي عاشت ردحاً من الزمن تحت نار الصراعات العسكرية وتداعياتها الإنسانية القائمة حتى اليوم، حالة من القلق والترقب لمآلات الحرب التي شنتها حكومة آبي أحمد على إقليم تيغراي، خشية تمددها إليها، خصوصا بعد استهداف جبهة تحرير تيغراي للعاصمة الإريترية أسمرة، ردا على مشاركتها في الحرب على الإقليم، والذي اعتبره كثيرون بادرة تؤكد احتمالات توسع نطاق المواجهات في منطقة القرن الأفريقي.
وأكدت تصريحات رئيس إقليم تيغراي، دبرصيون جبراميكائيل، التي أقر فيها أن قواته أطلقت صواريخ على مطار العاصمة الإريترية أسمرة، احتمالية توسع المواجهات في دول القرن الأفريقي.
وقال دبرصيون في تصريحات صحفية له: "نخوض معارك ضد 16 فرقة تابعة للجيش الإريتري. وما دامت القوات تقاتل هنا، فإننا سنأخذ أي هدف عسكري مشروع وسنطلق النار".
ورد رئيس الإقليم على سؤال صحفي عن عدد الصواريخ التي يملكونها أجاب: "لدينا العديد منها بما فيها بعيدة المدى ويمكننا استخدامها بشكل انتقائي في أي مكان، فبلادنا تهاجمنا بالاستعانة بدول أجنبية، إنها خيانة!".
ويحاول الاتحاد الأفريقي جاهدا احتواء الحرب والذهاب بطرفيها إلى طاولة المفاوضات السياسية، إلا أنه ووفقا لمسؤولين في جبهة تيغراي فإن آبي أحمد يرفض تلك الجهود ويذهب بعيدا في الحرب، معتقدا أنه سيحسمها طالما وهناك أطراف إقليمية ودولية تقف إلى جانبه وتسانده فيها.
ويرى مراقبون أفارقة ودوليون أن إعلان آبي انتصاره بمجرد دخول قوات جيشه عاصمة الإقليم لم يكن موفقا، مؤكدين أن دخول العاصمة ميكيلي لم يحسم الحرب، لكن مؤشرات توحي بأنها بدأت في تلك اللحظة وقد تتسع في الأقاليم الأخرى، وفي تلك الحالة فإنها ستتجاوز الداخل الإثيوبي إلى دول الجوار، خصوصا في القرن الأفريقي.