تحقيق خاص - دمشق/ أحمد رفعت يوسف / لا ميديا -

عبارة «هذا المكان وجد ليكون مقدساً» لا تنطبق إلا على 4 مناطق في العالم الإسلامي، وهي الحرمان الشريفان في مكة والمدينة والمسجد الأقصى في القدس المحتلة ورابعها المسجد الأموي في دمشق. وهذا يتوافق مع ميل معظم المؤرخين والرواة إلى اعتبار المسجد هو رابع أهم معلم في العالم الإسلامي.
فمكان الجامع الأموي لم يعرف منذ بداية التاريخ إلا وهو معبد للديانات التي مرت على المنطقة، خاصة وأن دمشق هي العاصمة الأقدم في التاريخ البشري.
وتشير الوثائق إلى أن مكان المسجد كان معبداً للإله الآرامي «حدد»، تم تشييده بين القرنين الـ10 والـ11 قبل الميلاد. لكن الدراسات تؤكد أنه كان معبداً قبل ذلك، ثم أصبح هذا الصرح الأثري معبداً يونانياً للإله «جوبيتر»، قبل أن يترك الرومان بصماتهم عليه في القرن الأول ليتحول في القرن الـ4 الميلادي إلى كنيسة «يوحنا المعمدان»، وكانت من أهم وأقدس كنائس العالم، حيث دمشق منطلق المسيحية إلى العالم، خاصة وأن الكنيسة تحتوي على ضريح يوحنا المعمدان، المعروف في القرآن الكريم باسم «النبي يحيى» الذي عمد السيد المسيح عليه السلام، ويُقال إن رأس النبي يحيى موجودة في الضريح، مما يعطيه رمزية وقداسة أكبر.
بقي مكان المسجد كنيسة حتى عهد الخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك (705 ـ 715) الذي قام بداية بتحويل نصفه إلى مسجد ليبقى النصف الثاني كنيسة وبقي مكاناً يصلي فيه المسلمون والمسيحيون الذين كانوا يشكلون أغلبية سكان دمشق، لكن فيما بعد قام الوليد بتحويل كامل المكان إلى مسجد، ليتماشى مع مكانة دمشق كعاصمة للدولة الأموية.
قام الوليد بتجديد بناء المسجد وإضافة متطلباته كمسجد، ليتلاءم مع احتياجات الدين الإسلامي، مثل حائط القبلة والمحراب.

تحفة هندسية معمارية ولوحات فسيفسائية نادرة
يعتبر المسجد الأموي تحفة هندسية وفنية مدهشة، نظراً لمخطط بنائه وزينة سقفه وجدرانه الفسيفسائية الموشّاة بالذهب.
وخضع المسجد لعدة عمليات تأهيل وترميم على مرّ التاريخ ومختلف الفترات، توالت حتى يومنا هذا. وله اليوم 3 مآذن و4 أبواب وقبة كبيرة هي قبة النسر، و3 قباب في صحنه، و4 محاريب لكل المسلمين، ومشهد عثمان ومشهد أبوبكر ومشهد عروة، وأهم المشاهد مشهد الإمام الحسين (عليه السلام)، وهو المكان الذي وضع فيه رأس الحسين يوم جيء به إلى دمشق. كما توجد لوحات جدارية ضخمة من الفسيفساء وقاعات ومتحف.
فسيفساء الجامع من أجمل لوحات الفسيفساء المذهبة في العالم، وهي استمرار للفن المسيحي البيزنطي (السوري) المستخدم في كبريات كنائس الإمبراطورية البيزنطية، كما في القسطنطينية أو رافينا أو سالونيك.
تقوم الفسيفساء المعتادة على استخدام قطع حجرية صغيرة بألوانها الطبيعية لإنتاج الصور المرغوبة، ويجري دقّ ورقة ذهب رقيقة بين صفيحتي زجاج، ثم يتم تسخين القطعة بالنار لتشكل تلك القطع المذهبّة الخلفية، وتُطعّم بأحجار مختلفة، منها أنواع الرخام الملون والثمين لصناعة الصورة المطلوبة. وتمتاز الجدارية النهائية بمقاومتها للزمن وبتلك القدرة الخلابة على عكس الضوء بطبقات مختلفة.
تمثل صور فسيفساء الجامع الأموي «بلاد الدنيا» والجنة كما جاء وصفها في القرآن: «غرف من فوقها غرف مبنية تجري من تحتها الأنهار» (الزمر، 20)، وهي إحدى التفسيرات الشائعة أيضا، يضاف إليها التفسير القائل بأن الصور تمثل دمشق وغوطتها ونهرها بردى.

«العروس» أول وأهم مئذنة في العالم الإسلامي
مئذنة «العروس» أحد أهم معالم الجامع الأموي في دمشق، ولها رمزية خاصة، لأنها تعتبر أقدم مئذنة إسلامية على الإطلاق، وواحدة من أجمل المآذن المميزة بتكويناتها المعمارية. غدت المئذنة فيما بعد نموذجاً للمآذن في جميع بلاد الشام وشمال أفريقيا، ونقل طرازها إلى الأندلس، ويقول المؤرخون إن مآذن العالم الإسلامي كلها شيدت على نسق مئذنة «العروس» أبراجا مربعة طوال قرون عديدة، ولم يتغير شكل المآذن إلا بعد القرن الثاني عشر الميلادي، حيث بدأت تظهر مآذن مضلعة وأخرى مستديرة.
تسمى مئذنة «العروس» أيضاً «المئذنة البيضاء»، لأنها مطلية باللون الأبيض، وكانت تتلألأ بأنوار الفوانيس الكثيفة عند الغروب لتشبه العروس في ليل زفافها، كما تسمى مئذنة الكلاسة» لأنها تشرف على حي الكلاسة المتاخم للجامع.
أقامها الخليفة الأموي الوليد بن عبدالملك عام 96 هـ/ الموافق 715م، عند بناء الجامع الأموي الكبير بدمشق، وتم تجديدها في عهد السلطان الملك العادل نور الدين زنكي، في عام 555 هـ/ الموافق 1160م، ثم تم تجديدها أيام الملك الناصر السلطان صلاح الدين الأيوبي عام 570 هـ/ الموافق 1174م، عندما احترقت مدرسة الكلاسة المتاخمة للمئذنة. ومازالت هذه المئذنة محافظة على شكلها الخارجي وهندستها المعمارية الرائعة حتى اليوم.

أذان فريد وشجي
للأذان في المسجد الأموي طقوس خاصة مرتبطة بمئذنة «العروس»، حيث كان مجموعة من المؤذنين المشهورين بعذوبة الصوت، وإتقان فن الأذان، يصعدون (قبل وجود مكبرات الصوت) إلى منارة «العروس» قبل وقت الصلاة ليرفعوا الأذان، حيث كان يجتمع المؤذن الرئيسي مع خمسة مؤذنين في تقليد يُعرف بـ»أذان الجوق». ويقوم على أن يبدأ مؤذن بجملة «الله أكبر.. الله أكبر»، ويردّد المؤذنون الـ5 خلفه الجملة ذاتها معاً، وهكذا حتى بقية الآذان وفق مقامات عدة موزعة على الأيام، كمقام الصبا (يوم السبت)، ومقام البيات (يوم الأحد) ومقام النوى (الاثنين)، ثم تردد بقية مساجد دمشق الأذان وراء مؤذني المسجد الأموي.
وتميز الأذان الدمشقي بهذه الميزة الفريدة عن غيره في مدن العالم. وقد دأب التلفزيون العربي السوري على نقل شعائر أذان المغرب بهذا الشكل الجماعي خلال شهر رمضان المبارك من المسجد الأموي، مع نقل مشاهد لدمشق عند المساء تم تصويرها من مئذنة «العروس».

أول مسجد يزوره بابا
يعتبر المسجد الأموي في دمشق أول مسجد يدخله «بابا روما» ويصلي فيه، عندما زار البابا يوحنا بولس الثاني المسجد خلال زيارته لسورية عام 2001، وصلى عند ضريح يوحنا المعمدان (النبي يحيى)، ليصبح أول رأس للكنيسة الكاثوليكية يقوم بزيارة رسمية لمسجد.
وفي لقاء فريد وغير مسبوق أيضاً التقى البابا علماء الدين الإسلامي في بهو المسجد، وألقى كلمة أكد فيها ضرورة الحوار بين الأديان ورفع مستوى التفاهم بين المسلمين والمسيحيين، واعتبر زيارته علامة على الاستمرار في منهج الحوار بين الأديان المختلفة.
وفي خطوة رمزية أخرى تؤكد مكانة دمشق عند كل الأديان السماوية، زار البابا كذلك كاتدرائية السريان الأرثوذكس في دمشق، في إطار المساعي التي كان يبذلها لرأب الصدع القائم منذ 1000 سنة بين الكنيستين الكاثوليكية والأرثوذكسية.
كما زار الرئيس الروسي فلاديمير بوتين المسجد الأموي رافقه فيها الرئيس السوري بشار الأسد خلال زيارة الرئيس بوتين لدمشق في الـ7 من يناير/ كانون الثاني العام الجاري.
وزار المسجد أيضاً الكثير من الرؤساء والزعماء وقادة دول العالم ورجال الدين من مختلف الديانات والطوائف.