مروان أنعم / لا ميديا -

ما بين الاندثار ونزاع البقاء تتأرجح مهنة الخطاط والخط العربي، في مواجهة طغيان أجهزة الحاسوب والطباعة، وما تقدمه من تنوع في الخطوط والتصميمات والقدرة على إنجاز اللوحات واللافتات الضخمة بسرعة فائقة.
كل ذلك كان له أثر عميق على الخطاطين وإبداعاتهم في كتابة وتصميم وإخراج لوحات ولافتات ومخطوطات تعبر عن نواحي الحياة المختلفة، ومع انتشار اللوحات الإلكترونية بدأت هذه المهنة في التراجع والاضمحلال تدريجيا، عقب ظهور الكمبيوتر والآلاف من الخطوط الجاهزة التي حلت محل إبداعات ولمسات الخطاطين بعد أن كانوا عملة نادرة يتهافت عليهم الناس وأصحاب الورش والمحال المتخصصة في كتابة اللافتات.
ومع دخول التقنيات الحديثة وإدراج الخطوط العربية فيها، فإن الخط فقد اللمسة الفنية التي يتركها الخطاط، ولذا لم يتأثر الخطاط وحده بالتكنولوجيا، بل الفن نفسه أصابته لعنة التكنولوجيا، فقد كان رسم الخطوط يعتمد على الحس والإبداع البشري، الذي حل محله سيل من الخطوط الجاهزة في انتظار نقرات من «زر الفارة».

اليمن منبع الخط العربي
لم يعرف العرب الخط العربي الذي كان مظهراً من مظاهر الحضارة والرقي الاجتماعي، إلا في الجهة التي ارتقت فيها العمارة والحضارة، وهي بلاد اليمن، بحسب رأي الغالبية من علماء الآثار وعلم مقارنة اللغات الذين أثبتوا أن خط المسند الذي كان يستعمله اليمنيون، هو الأصل الأول للخط العربي، الذي سمي أيضا بخط الجزم أو القطع لاقتطاعه من خط المسند الحميري.
لاحقاً ومع ظهور الإسلام وعصر تدوين القرآن، حاول الخطاطون المسلمون الأوائل تحسين الخط من أجل كتابة المصحف، ليتم لاحقاً ابتكار الخط الكوفي المشتق من الحجازي، والذي مهد لظهور حركة فنية متعددة في الخط العربي، تمثلت في إعادة رسم الحروف بحسب تأثيرات وأساليب وتكوينات خطية لا حصر لها، ازدهرت معها مهنة الخطاط وهندسة الحروف ونقشها وزخرفتها على المساجد والأبنية والعمارة الإسلامية في ذلك العصر.

رسم الحروف وصقل الورق
وكانت طرق التعليم للخط العربي سابقاً، تعتمد على شيخ معلم، يتلقى منه طالب العلم المعرفة الأدبية والتقنية والفنية في كيفية رسم الحروف وتحضير الحبر وصقل الورق، واستيعاب كل ما يتعلق بهذه المهنة.
يقول ابن خلدون في مقدّمته عن الخط: «إنّه صناعةٌ شريفة يتميّز بها الإنسان عن غيره، وبها تتأدّى الأغراض؛ لأنّها المرتبة الثّانية من الدلالة اللغويّة».

مستقبل المهنة في خطر
وفي العصر الحديث، وضع الخطاطون بصماتهم في كل المناسبات الاجتماعية وكتابة اللوحات واللافتات والأعمال الدعائية والإعلانية للمحلات التجارية والمكاتب الحكومية، بالإضافة إلى الأعمال الصحفية وكتابة العناوين البارزة لتلك الصحف وغيرها، إلا أن الزحف التكنولوجي عبر أجهزة الحاسوب وتطبيقات الخطوط والطابعات، وما تتميز به من سرعة وسهولة في إتمام المهام، نالت رضا واهتمام الكثير من الناس وقلصت من رواج مهنة الخطاط.
فهل أصبح التقدم التكنولوجي يهدد مستقبل مهنة الخطاط ونسبة إقبال الكثير من الشباب على تعلم الخط العربي؟
يقول الخطاط المبدع علي يحيى الأعرج لصحيفة «لا»: «لكي لا يتم اندثار الخط العربي اليدوي الأصيل، على الخطاط أن يُسَخّر وجود التقنية لخدمة الخط وليس العكس، فالكمبيوتر والطابعات جعلت الأمر سهلاً وسريعاً جداً في إنتاج اللوحات الدعائية للمحلات وغيرها، لكن عندما نتكلم عن عمل بحجم القرآن الكريم، فالكمبيوتر صفر على الشمال، وعندما نتكلم عن نصوص قرآنية تكتب في المساجد فليس للكمبيوتر حضور، وطالما أن القرآن الكريم موجودٌ بين أيدينا فلن تقدر التقنية أن تمحو وجود الخط العربي والخطاطين».

ليس بجمال خط اليد
ويتابع الأعرج: «من يعرف قدرات الخط العربي وقَوْلَبَة الحروف وجمالها يستطيع التفريق بين خطوط اليد وعمل الكمبيوتر، حتى وإن كانت بعض الخطوط اليدوية الموجودة في الكمبيوتر مثل خط الثلث والفارسي، ومع ذلك مهما بلغت الدِّقة في إسقاط الحروف فلا يستطيع الكمبيوتر والمصممون أن يصنعوا لوحة فنية بهذه الخطوط تضاهي كتابات وأعمال خطاط محترف». 
فيما مضى كان الخطاط يحرص على تقدير المساحة التي تقتضيها العبارات التي بين يديه وقبل الشروع في العمل، وذلك حتى لا يجد لوحته قد امتلأت دون أن تنتهي الكتابة.
ولذا فإن الخطاط من خلال خبرته سيعرف كم تحتاج هذه العبارة من مساحة مناسبة عرضا وطولاً، وبعد قص القماش المناسب يختار الفرشاة المناسبة والعرض المناسب لبنط الخط الذي يتلاءم مع تلك المساحة، ويختار نوع الخط الذي يتناسب معها، فإن كانت المساحة كبيرة والعبارات قليلة كتب لوحته أو العبارات البارزة فيها بخط النسخ، وإذا كانت المساحة قليلة والعبارات كثيرة ومتنوعة كتبها بخط آخر يستطيع أن يتحكم فيه، مثل الرقعة أو الديواني أو الفارسي.

أشهر الخطاطين اليمنيين
وعن أشهر وأهم الخطاطين في اليمن يقول الخطاط الأعرج: «هنالك الكثير من الخطاطين المشهورين، ولكن من هو الأقوى في الإتقان والأستاذية بجدارة، أقول لك هو الأخ الأستاذ ناصر عبدالوهاب النُّصَاري، الخطاط الذي قام بكتابة كل الآيات على جدران جامع الشعب، والذي هضموه في حقه المادي من أتعابه التي لم تصل له حتى الآن، ويعد من وجهة نظري الأفضل بلا منازع على مستوى العالم العربي والإسلامي، وأيضاً الخطاط الأستاذ حمود البنا، وعبدالرحمن الجنيد».
ويتابع: «كان الاعتماد عليهم في أعمال الدعاية وغيرها بالعمل اليدوي الخالص (الكتابة بالفرشاة على القماش والكليشات على الأبواب وغيرها)، أما اللوحات المضيئة فتتم أيضا بخطٍ يدوي ينحت ويقص على اللاصق والبلاستيك البارز وهكذا».
وتجدر الإشارة إلى أن العديد من الخطاطين صنعوا من أسمائهم علامة تجارية مميزة كالخطاط شكري وزكي الهاشمي ومطور الخطوط الحاسوبية سلطان المقطري.

صناعة اللوحات الإعلانية العملاقة
ومع دخول الطابعات الحديثة والكبيرة، التي وفرت القدرة على طباعة أحجام كبيرة من اللافتات واللوحات بأسرع وقت ممكن، خف الطلب على الخطاطين، وخفت بريقهم، وأصبح التوجه نحو اللافتات المكتوبة على القماش بخط اليد قليلاً جدا، وبدلا من أن يقوم خطاط موهوب بكتابة لافتة أو إعلان يستغرق أسابيع لإتمام هذا العمل، بات يتم الاعتماد كثيراً على الكمبيوتر والبنرات في تصميم اللوحات المنتشرة في الشوارع العامة.
ويوضح الخطاط علي الأعرج الكيفية التي تتم بها صناعة تلك اللوحات الضخمة المنتشرة حالياً، حيث يقول: «تتم صناعة اللوحات الإعلانية التي تنتشر في الشوارع وعلى المحلات التجارية وغيرها، عن طريق مادتين هما (الفلكس والبنر) من خلال الطباعة على هاتين المادتين الشبيهتين بالطربال بواسطة طابعات عملاقة أو لوحات مضيئة بلازمية متحركة أو حروف بارزة ومضيئة تنفذ على واجهة من الألمنيوم، وهذه هي الأغلى ثمناً حيث يصل ثمن المتر المربع منها إلى 200 دولار».
إن مهنة الخطاط والخط العربي تحتاج إلى الكثير من الصبر والتفاني في تنمية المهارات التي تكتسب مع الوقت، بالإضافة إلى الحس الإبداعي والفني، وإذا ما تحلى المتعلم بالصبر والمثابرة فإنه سيحصل على مبتغاه في استنطاق الفنان الذي بداخله، على العكس من أجهزة الكمبيوتر التي توفر الحصول السريع على قوالب نمطية وثابتة، ومن دون اللمسة الإنسانية للخطاطين الذين باتوا يواجهون إعصاراً تقنياً وتكنولوجياً يهدد بطمس إرث فني عتيق توارثته أجيال من الخطاطين عبر مئات السنين.
إن الكثير من خبراء الخط العربي يجمعون على أنه وبالرغم من التقدم التكنولوجي الكبير في مجال التطبيقات المرتبطة بالكمبيوتر في تنوع وجود الخط العربي، إلا أن التقنية الحديثة في هذا المجال لم تحل محل الخطاط البشري أبدا، بالرغم من أن الحاسب الآلي يمكن أن يكون له دور في الكتابة العادية، لكن الخط العربي بأشكاله الفنية والإبداعية لا يمكن أن يخرج إلى النور إلا من خلال إنسان مبدع ملم بفنون كتابة الخط العربي، وبأشكال الحروف وأطوالها وأحوال مدها.