بشرى الغيلي / لا ميديا -

لم تعد حفلات «الوفا» تقتصر فقط على ذوات الطبقة المخملية، بل صارت الغالبية من النساء تعمل على مجاراتهن على حساب (جيب الرجل) المغلوب على أمره وعادة ما يسبقها ما يصل إلى 40 يوما للولادة التي يصاحب جلساتها الحلويات والمشروبات بأنواعها والغِناء، فيوم يسمى دخلة غرفة الولاد، ويوم البنّان.. وغيرها من المسميات، لذلك يقول سكان صنعاء «عرسين ولا ولاد»، ومثلما قالت إحداهن: «من تصر على هذه الحفلات هن من يشعرن بالنقص فقط وليس من لديهن أعمال ومهن ينشغلن بها في حياتهن اليومية، فتجد فرصتها في الولادة وحفلة الوفا لتظهر أنها مميزة وما أحد يجاريها».
بدورنا في «لا» التقينا بعض النساء اللواتي تحدثن عن هذه العادة وخلفياتها وما يصاحبها من بذخ، والبعض منهن لم تعنهن هذه الحفلات كونها تفاخراً فائضاً عن الحاجة وتكاليف باهظة.. فإلى السياق.

ما هو يوم الوفا؟
يوم الوفا، هو ختام الأربعين يوما للمرأة النفساء في مجتمعنا اليمني، وتعتبر هذه الاحتفائية عادة تركية الأصل، بحسب ما قالته الفنانة التشكيلية سبأ القوسي. مضيفة: «من المتعارف في تركيا أن الأم الجديدة، خلال الأيام الأربعين الأولى من ولادتها، تبقى برفقة من تحبهم ووسط حفاوتهم. أما إن تركت لوحدها ولو للحظة واحدة فستكون فريسة لهجمات الجن، وتغرق ضحية لطوفان الهموم والقلق والمخاوف، وهذا ما يسمى علميا «اكتئاب الولادة»، ولهذا تقوم العائلات التقليدية حتى الآن بتزيين فراش حديثة الولادة بشرائط قرمزية وينثرن بدار الخشخاش المقدسة لطرد الأرواح الشريرة أو العين، ولتلاقح الثقافات والخرافات تنعكس على عناصر طقوس الحدث بحسب الظرف والبيئة».
أما أمة الرزاق جحاف، وكيل الهيئة العامة للمحافظة على المدن التاريخية، فتقول: «الوفا (بدون همزة)، لأنه ليس المقصود به الوفاء إحدى الصفات الحميدة، ولكن الوفا من التوفية، وهو اكتمال العدد، وجاءت التسمية كدلالة على اكتمال مدة الاحتفال بولادة المرأة لطفل جديد، والذي يبدأ من لحظة دخول الوالدة مكان الولاد بعد أسبوع من ولادتها أو أسبوعين حسب حالتها الصحية...».
من جهتها، تقول الإعلامية منى البرطي: «يوم الوفا هو اليوم الأخير من أيام جلسات الولاد الخاصة بالنساء، حيث تختتم هذه الجلسات اليومية التي تمتد على مدى أسبوعين إلى 5 أسابيع أو 40 يوما على أقصى تقدير، تُختتم بهذا اليوم المميز باسم يوم الوفا».

مسميات مختلفة
وعن المناطق التي تنتشر فيها هذه العادة تقول جحاف: «تنتشر هذه العادة تقريبا في كل محافظات الجمهورية مع اختلاف التسمية، فالبعض يسميها (الوفا) كما في صنعاء والبعض يسميها (الأربعين) كما في عدن والحديدة والبعض يسميها يوم (السبع) كما في صعدة وهكذا تختلف التسمية».
وتتفق معها البرطي التي ترى أن هذه العادة تنتشر في غالبية مناطق اليمن، لكنها «تكون ملزمة أكثر في المجتمع الصنعاني على وجه الخصوص».
وتقول تمجيد عزيز (مدرسة إنجليزي): «تنتشر هذه العادة في معظم مناطق اليمن، ولكن أرى أن طقوس عادة الولاد والوفا منتشرة أكثر في المناطق الشمالية بالذات صنعاء وضواحيها.. ومن اهتمامهم الشديد لدرجة المثل القائل «عرسين ولا ولاد»، بمعني إقامة زفافين أخف بكثير من تكاليف الولاد».

طقوس احتفالية
يتضمن يوم الوفا العديد من الطقوس والفعاليات الاحتفائية، تقول القوسي: «عندنا باليمن لا بد للنفساء (الوالدة) أن ترتدي عقداً من المرجان الأحمر الذي يطرد العين والعارضة (كائن خرافي يتغذى من إيذاء الوالدة)، ولا بد من حضور نبات الشذاب كذلك الذي يزين المزاهر النحاس، التي تطوق عرش الوالدة، هكذا يحلو لي تسميته، ولا لرزمة الزينة التي تحيط بالمكان وتسمى (المرتبة) والتي يتوجب على الوالدة الاستلقاء عليها واستقبال ضيوفها من النساء لمشاركتها فرحة المولود الجديد، ومن هنا جاء اشتقاق «الفرحة»، وهي عبارة عن هدية والتي عادة تكون مبلغاً من المال».
وتستطرد: وتتكون المرتبة من فراش مرتفع عن مستوى المجلس العام، ويغطى الجدار خلف المرتبة بسجاد فاخر، وهو ما يسمى السجاف، تعلق عليها مسابح وآيات قرآنية لدرء العين والحسد، ويوم «الوفا» يعتبر اليوم الأخير الذي تستقبل فيه النفساء ضيوفها وهداياهم».
وتضيف من خلال مرورها بتلك التجربة: «عندما يأتي اليوم الموعود (يوم الوفا) يتم الإعداد لهذا الختام بشكل دقيق وبترتيب مسبق وإبلاغ الضيوف قبلها، وقد يتم الختام بعمل مولد تحييه منشدة تردد الأناشيد والتواشيح الدينية، أو بما يوصف (غناء) وتأتي مطربة شعبية بفرقتها من العازفات معها وتحيي اليوم بالطرب، وتتجمع النسوة للمقيل ومضغ القات، وينبغي على الزوج أن يعد ضيافة خفيفة ختامية لمباركة الحضور والمولود، كما يتوجب عليه أن يهدي زوجته ثوباً فاخراً (زنة الوفا) لتكتمل به زينتها من نقش وحلي فضة ما يسمى العصبة... إلخ».
وترى البرطي أن «المراسيم تتنوع وتختلف من وفا إلى آخر تحديدًا من ناحية تنوع الوجبات والمشروبات، كذلك من ناحية نوعية اللبس الذي سترتديه الوالدة، فهناك من ترغب في ارتداء زي شعبي معين، وهناك من ترغب في ارتداء فستان شرقي أو موديل معين، أيضا هناك من النساء الموفيات من تستعين بتمييز وفائها بحضور مُغنية أو مولدة من أجل أن تُقام للوالدة زفة وزغاريد وأغانٍ شعبية جميلة مستوحاة من الموروث الغنائي اليمني».
وتقول عزيز: «تقام حفلة بمراسيم تقليدية تضم كل الذين زاروها خلال الأربعين يوماً، وأهم شيء في مراسيم الولاد هي المرتبة أو السجاف، وهو مكان جلوس الوالدة، وسمي بهذه الأسماء لأنه يكون مرتفعاً عن باقي الأماكن بالديوان أو غرفة الجلوس، ويتم تزيينه بالآيات القرآنية وملابس صغيرة توضح جنس الطفل، وممكن تغطية الجدار بقماش المصون، وهو قماش صنعاني قديم، وتلبس الوالدة لبساً تقليدياً يسمي القناع، وتضع مكياجاً ويتم زفها لمكان جلوسها بمنشده وهي امرأة تقوم بذكر الله والتسبيح وذكر أهل الولاد أبيها وزوجها وأخواتها وأعمامها بالمدح، ويسمي بالصنعاني (التحجيب)».
وتوضح جحاف أنه يتخلل الأربعين يوما للمرأة الوالدة قبل يوم الوفا «احتفالات يقيمها على شرفها أهلها من الأقرباء المقربين مثل إخوانها وخالاتها وعماتها وأعمامها وصديقاتها وغيرهن، أما يوم دخول المكان فيتحمل تكاليفه أهل الزوجة، ويوم الوفا على الزوج».

مبالغة في البذخ والترف
لقد كان الاحتفال بولادة طفل جديد ومعاملة المرأة طوال 40 يوما كملكة له ما يبرره بسبب ما كانت تتعرض له المرأة في السابق من آلام قد تودي بحياتها نتيجة انعدام الخدمات الطبية، فهو احتفال بنجاتها ونجاة طفلها، وكأنهم يحتفلون بحدوث معجزة، وكان الأقدمون في احتفالاتهم بسطاء لا يحملون أنفسهم فوق طاقتها، بحسب جحاف.
وتستطرد بالقول: «ثم بدأت تتعقد شيئا فشيئا حتى أصبحت تكاليف لا تطاق، حتى إن هناك مثلاً في صنعاء يقول «عرسين ولا ولاد»، لمبالغتها في إضفاء مظاهر الترف والبذخ، مما جعل كثيراً من الأسر الواعية تعمد إلى تخفيض المدة فتصبح أسبوعين بدلا من 40 يوماً، وهذا في المتوسط، ولكن يوم دخول المكان ويوم الوفا الذي يعتبر يوم خروج من المكان لا يمكن إلغاؤها، وبالتأكيد هي ليست ضرورية، وليس فيها رضى لله، وإنما لمجرد التفاخر، ولو كان ما يصرف فيها يوزع صدقة للمساكين بنية صلاح المولود لكان له قبول عند الله».

انفتاح ثقافي
وتتفق معها القوسي في أنه في الماضي القريب كانت هذه العادة متواضعة في تفاصيلها بسبب محدودية الخيال لدى النساء في الإضافة والابتكار، وكذلك لمحدودية السلع والكماليات، فكانت القهوة والبرعي هما ضيافة الحضور لهذا اليوم، وإذا كان الحال ميسوراً لأصحاب الشأن، فقد تكون الضيافة مكسرات مع بعض الحلوى المغلفة (الشكليت)، ومع ذلك تعتبر هماً مادياً ثقيل الحمل، حتى إنه جاء في التعبير عنه بالمثل الشعبي «عرسين ولا ولاد».
وتضيف: «أما في الوقت الحالي فرغم ظروف البلاد مع العدوان والحصار، إلا أن الانفتاح الثقافي عبر انتشار النت ووسائل التواصل الاجتماعي أرفد السيدات والفتيات بثراء ذوقي وجمالي وكمالي انعكس على محاولاتهن في إضفاء بصمة فريدة لهن في كل مناسبة، من ضمنها مراسيم الولاد والوفا، فتهافتت الكثير من النساء لابتداع ما لم يسبقه أحد من مظاهر، منها الإعداد لحفل الولاد بشيء من المبالغة كاختيار مطربات ذوات أجر باهظ بغرض المباهاة، واختيار ضيافة فاخرة من محلات الحلويات التي ترفق كروتها بصناديق الوجبات، إلى صناعة الثيمات الورقية للترحيب بالمولود، واستئجار مراتب مصنعة خصيصا لهذه المناسبة بعدما كانت تعدها النساء في ما مضى من أثاث البيت نفسه».

صارت تضاهي تكاليف العرس
تختم القوسي: «كل ذلك أسهم في ماراثون تنافسي للأجمل والأندر، زامن ذلك تنافس في الأسعار حتى صار يوم واحد بالوفا يضاهي تكاليف عرس بكافة مظاهره، لكن تبقى قاعدة ما زاد عن حده انقلب إلى ضده، فأحيانا السعي وراء جمال المظهر والمكان والمناسبة يقود إلى الهوس دون إدراك الجانب السلبي لذلك، خصوصا في ظل الظرف العام الذي نحن فيه».

التسابق على التباهي
هيفاء منصور (خريجة إعلام جامعة صنعاء) تقول: «هذه العادة بحد ذاتها ليست أمراً سيئاً، وإنما ما يصاحبها من أمورٍ وبذخ كاللبس والتزين والتكاليف والتسابق على التباهي والتفاخر على من هي صاحبة الوفا الأضخم، وهو ما جعل مسألة الوفا غير مرغوب فيها لما يصاحب ذلك من تبذير».

جلسات بسيطة
أما جميلة العزام (مذيعة) فلا تعترف بما يسمى ولاد ومكان الولاد والوفا الذي يتبعها وغيرها من تلك الحفلات المبالغ فيها، وتقول: «هناك عادات وتقاليد علينا تغييرها حتى نرتقي». وتضرب مثلا أنها عندما وضعت طفلها «أيمن» كانوا يتوقعون منها أن تعمل ولاد كبيراً وجلسات غناء وحلويات ومشروبات كونه الذكر الوحيد بين شقيقاته الإناث، إلا أنها لم تفعل ذلك، بل اكتفت بجلسات بسيطة وفي منتهى الروعة، حسب تعبيرها «حتى إن الساعات تمضي دون الشعور بمرورها».

خراب بيوت
أما سماح مصلح (مُدرسة) فتقول: «أنا ضد هذه العادة، لأن فيها من الصرفيات والتكلف ما يخرب البيوت، كذلك كل واحد يحسد الثاني ويحصل تنافس، وكل واحدة تريد أن تكون أفضل من صاحبتها أو قريبتها، وتعمل أشياء وإضافات ما أنزل الله بها من سلطان».

يعتمد على الحالة المادية
وتقول البرطي: «لست مع إنفاق التكاليف الباهظة والزائدة من أجل إتمام مراسيم هذا اليوم، فهذا الأمر يعتمد أولا وأخيرا على الحالة المادية، فلا داعي للمبالغة، إنما الأصل في هذه العادة اليمنية الفريدة أن تُختتم بطريقة مناسبة ولائقة بدون إفراط أو تفريط. وإقامة هذا اليوم من وجهة نظري يعتبر شيئاً مهماً وضرورياً، إلا إذا كان هناك ظرف استثنائي طارئ يمنع من إقامة هذا اليوم فلا يُقام ويُكتفى بإعلام النساء من الأقارب والجيران والأصدقاء بإنهاء الولاد دون إقامة الوفا».
وترى عزيز أن «التكاليف أصبحت أكثر بذخا، وهناك أناس تركوا كل هذه العادات، حيث كانت بالماضي طقوس الولاد مهمة ولا بد من ممارستها، لكن إذا كان الناس باستطاعتهم ممارسة هذه الطقوس فلا مشكلة، وهي من وجهة نظري غير مهمة ويمكن إلغاؤها تماما، وبخاصة هذه الأيام مع الأزمات يجب الاهتمام بأشياء أهم وأكبر».

آخر الأوراق..
اتفقت معظم الآراء أن هذه العادة تنتشر بشكل أكبر في صنعاء وضواحيها بعكس بقية المحافظات التي تكتفي بأبسط التكاليف، والوفا تعتبره الوالدة كرنفالها المنتظر وبمثابة جرعة من الدلع الذي تفتقده خلال أيامها الصعبة، إذ إنها تستيقظ السادسة صباحا لتلبية احتياجات أسرتها، لذلك فترة الولاد والوفا تشعرها أنها الأميرة التي تقوم الجميع على خدمتها، وهذه الحفلات يقيمها الميسورون، والمأساة أن الفقراء يقلدونهم على خراب جيوبهم الفارغة أساسا.