تحقيق/ مارش الحسام / لا ميديا -
ظاهرة التسول لم تعد مجرد حدث عابر بعد أن صارت حرفة أو مهنة للكسب دون عناء أو جهد لدى الكثيرين ممن امتلأت بهم جنبات الطرق والأماكن العامة.

قوة السلسلة في أضعف حلقاتها
ينتهج المتسولون عادة أساليب استعطاف كثيرة، منها افتعال الإصابة بعاهات أو عرض إعاقات ومصائب ذويهم لكسب عطف الناس وكرمهم، إذ تكمن قوة السلسلة في أضعف حلقاتها.
ومن الأساليب الشائعة استغلال الأطفال بشكل بشع بدءاً من ولادتهم وفي أشهرهم الأولى وهم يواجهون جشع أسرهم وكل الظروف المناخية القاسية.
إذا ما صاروا في عمر الزهور يتم توزيعهم على الشوارع والجولات للتسول بعد تقلينهم ما تيسر من الأدعية التي تستعطف القلوب، أو من خلال تقديم خدمات بسيطة كمسح زجاج السيارات، وغيرها من الطرق والأساليب الكثيرة التي لا يتسع المجال لحصرها.

استثمار المصائب
يبدو أن هناك علاقة وثيقة بين التسول والإعاقات الجسدية ليس فقط باعتبارها مشروعاً استثمارياً ناجحاً للشحاذة، وإنما لأن هناك أكثر من ألف علامة استفهام تدور حول اقتران الإعاقات بهذه المهنة.
هل الإعاقة مرادف للتسول أم أنها سبب كافٍ لدفع هؤلاء العجزة للتسول، أو لدفع أسرهم للتسول عبرهم؟ وهل يشترط أن يكون المعاق متسولا؟ وهل من قبيل المصادفة أن يحظى المتسول بطفل معاق؟ فكثير من الشحاتين يتسولون بأطفال ولدوا بإعاقات جسدية حقيقية.
وهل الإعاقة هي التي تدفع هؤلاء الأشخاص للتسول سواء بعرض معاناتهم أو معاناة أطفالهم؟
وهل كان هؤلاء متسولين من قبل أم كان لديهم استعداد مسبق للتسول وجاءت الإعاقة كفرصة؟ أم أن هناك تفشياً للإعاقات والعاهات في صفوف المتسولين؟ وغيرها الكثير من الأسئلة التى لم نجد لها إجابات مقنعة.

رفض إزالة الورم مجانيا
يروي أحد الأطباء الجراحين في مستشفى الثورة العام بصنعاء قصته مع أحد الشحاذين، إذ يقول: «في العام الماضي وبحسب الجدول السنوي كان مقرراً أن أداوم يوماً بالأسبوع في مركز الزبيري التابع لمستشفى الثورة والواقع في صنعاء القديمة، وفي طريقي للمركز كنت أصادف مسناً متسولاً يفترش الأرض قرب سوق الملح ويعاني من ورم في الرقبة، وذات مرة عرضت عليه أن أقوم بإزالة الورم، لكنه تحجج بأنه لا يملك النقود، فأخبرته أني سأخدمه بالمجان وسأجري له العملية بنفسي ولن يدفع فلساً واحداً، وطلبت منه أن يأتي معي إلى المركز، لكنه رفض الفكرة وبشدة».

عاهات مصطنعة
تعد الإعاقة والبلاء جواز سفر للعبور إلى قلوب المحسنين بدون تأشيرة، ودائما ما يستخدم المتسولون المصائب كلغة غير كلامية للشحاذة، والتي تضمن تحقيق مكسب أكبر من أقرانهم المتسولين ممن لم يرزقوا بطفل معاق ولم يصب أحد أقاربهم بعاهة مستديمة، هم الآخرون صار عليهم افتعال الإصابة بأمراض وعاهات.
منهم من يقوم بعرض أوراق طبية وأغلفة أدوية، ومنهم من يستخدم التمويه مثلا باستخدام قسطرة بولية يقوم بإلصاقها على البطن وإخفائها تحت الثياب، ومنهم من يحاولون افتعال الإصابة بحريق، وذلك بطلاء أجسادهم بأصباغ ومعاجين ومطهرات بطريقة هوليوودية مرعبة توحي أن الجسم قد تعرض للحريق البشع.

طفلة تحرق كل رمضان
الكثيرون منا سبق ورأوا مشاهد لأطفال أجسامهم مشوهة بالحروق، وهي طريقة مفتعلة يلجأ عدد من المتسولين إليها لخداع المارة واستعطافهم، ويكثر استخدام هذه الطريقة في شهر رمضان المبارك.
أمام أحد المولات في شارع هائل صادفنا طفلة تفترش الأرض، منظرها يوحى أن حريقا من الدرجة الثالثة التهم أجزاء من جسدها، وتجلس بجوارها والدتها التي تدّعي أن طفلتها تعرضت للحريق تارة تقول إنه ناتج عن انفجار أسطوانة الغاز، وتارة أخرى عن أحد صواريخ العدوان.
منظر الطفلة يوحي فعلا أن جلدها مشوه بالحريق كما لو أن الوجه واليدين والصدر محترق بالكامل في منظر مقزز تقشعر له الأبدان، غير أن الغريب في الأمر أن رموش العينين وشعر الحواجب كان بحالة سليمة، وكذا شعر الرأس، وحين حاولت أن أطرح عليها بعض الأسئلة حول نوع الحريق الذي شوه جسد الطفلة وتحاشى التهام الشعر، وغيرها من الاستفسارات، لكن أحد أصحاب المحلات المجاورة قاطعني قائلا: «هذه الطفلة معتادة تحرق كل رمضان، لكن هذه المرة استعجلت وخرجت قبل ثلاثة شهور، وهذه التمثيلة معروفة، فمنهم من يقومون بطلاء أجسادهم بمعجون الطماطم (الصلصة) وتركه حتى يجف، فمعجون الطماطم حين يجف يتشقق وبالتالي يظهر معه الجلد متشققاً، ولإكمال الخدعة يتم استخدام الصبغة الزرقاء الخاصة بالحروق، وبعضهم يستخدمون معاجين أخرى».

الميزان المكسور
وبينما كنت بصدد إعداد هذا التقرير صادفت طفلة على مدخل سوق مذبح تبكي وبجوارها ميزان مكسور، وحين سألتها عن سبب بكائها، أجابت بأن سائق دراجة نارية صدمها ووقع الميزان وانكسر، والغريب أن قطع الزجاج لم تكن متناثرة بشكل عشوائي وإنما مرتبة بطريقة توحي أنه تم حملها من مكان آخر أو صبها من كيس، تصدقت عليها بمبلغ يسير. بعد أيام وفي ميدان التحرير صادفت المشهد نفسه، طفل آخر يبكي بجوار ميزان مكسور والزجاج مرتب وليس منثوراً بشكل عشوائي.
مشهد الطفل (ذكر أو أنثى) الباكي وبجواره ميزان مكسور يتكرر في أكثر من مكان وبنفس التفاصيل، والكثير من هذه المشاهد كانت صيدا سهلا لكاميرا هاتفي بعكس المشاهد الأخرى التي صعب تصويرها لغرض هذا التقرير.

شبكة تدير عملية التسول
تشير التقارير إلى أن الغالبية العظمي من المتسولين هم من فئة الأطفال دون الـ14 من العمر، فيما يرى كثيرون أن المتسولين الأصليين لا يظهرون للعلن، بل يختبئون وراء أطفالهم، وينتظرون عودتهم بثمن القات وملحقاته من سجائر ومشروبات غيرها.
يقول عنتر جميل الذي يعمل في إحدى المؤسسات الحكومية كسائق حافلة لنقل الموظفين من وإلى منازلهم، إنه صادف أكثر من مرة في ساعات الصباح الأولى توقف باص صغير في الجهة المقابلة لمكتب بريد مذبح ونزول أربعة من الأطفال الذين سبق أن شاهدهم لمرات وهم يمتهنون التسول بأساليب مختلفة، منهم من يتسولون بشكل مباشر ويمدون أيديهم للغير، ومنهم من يقومون بمسح زجاج السيارات.
ويضيف: «أثناء قيامي بتوصيل الموظفين إلى منازلهم وقت الظهيرة شاهدت صعود الأطفال أنفسهم على الباص ذاته، كما لو أن هناك شبكة تدير أعمال التسول باستخدام الأطفال».

أدوية للنوم تسبب الإدمان
تعد شريحة الأطفال ورقة رابحة لكثير من الآباء المتسولين، ومن البديهي أن تشاهد متسولا يفترش الأرض مع أطفاله الذين يغطون في نوم عميق لساعات طويلة على قارعة الطريق التي يجتمع فيها كل ما هو طارد للنوم باستثناء هؤلاء الأطفال الذين يتحدون أبواق السيارات وأصوات المارة وكل المزعجات بفرش من كرتون وبقايا قماش متهالك ورث يغطي نصف أجسادهم، وهؤلاء الأطفال لا يصطنعون النوم ولا يتقمصون دور النائم، ولو اطلعت عليهم لوجدتهم يغطون في سبات عميق، كما لو أنهم منومون. 
نوم هؤلاء الأطفال غير طبيعي ليس فقط لأنهم نائمون في ظروف تتحدى النوم، وإنما لطول فترة نومهم والتي تستمر لساعات طويلة طيلة فترة بقائهم في الشارع، والتي تفوق المعدل الطبيعي لساعات النوم. 
ووفق معلومات حصلنا عليها من بعض العاملين في الصيدليات، فإن كثيراً من المتسولين يقومون بإعطاء أطفالهم أدوية تسبب النعاس والخمول ومنها مشتقات «الافيل» الخاصة بالحساسية التي تزيد الرغبة بالنوم، فيما يقوم آخرون بإعطاء أطفالهم بعض الأدوية الخاصة بالتشنجات والمهدئة للأعصاب والتي تسبب الخمول الدائم والرغبة المستمرة في النوم، وأكدوا أن هذه الأدوية ممنوعة كونها تسبب الإدمان.

استغلال الأطفال لكسب التعاطف والمال
يقول الدكتور عبده محسن الشليلي، أخصائي اجتماعي ونفسي، إن 60 ٪ من المتسولين في اليمن يتخذون من التسول حرفة أو مهنة، فيما 40 ٪ يتسولون بدافع الاحتياج.
ويلفت الشليلي إلى أن هناك أسباباً كثيرة تدفع الشخص لامتهان التسول، منها أسباب بيئة ومجتمعية تلازم الشخص منذ سن الطفولة و»من شب على شيء شاب عليه».
ويؤكد أن «هناك استغلالاً كبيراً للأطفال وكذا المتاجرة بمعاناتهم لكسب تعاطف الناس، وأن كثيراً من المتسولين يدفعون بأطفالهم لامتهان التسول إما عوضا عنهم أو إلى جانبهم لضمان تحقيق مكاسب مالية أكبر، وذلك لكون المجتمع اليمني عاطفياً ويتفاعل مع الأطفال أكثر من الكبار وينظر لهم بعين الرأفة والرحمة».

منظر الطفل النائم يثير الشفقة
وعن الأطفال المتسولين والنائمين لساعات طويلة جداً على قارعة الطريق، طرحنا سؤالا للدكتور الشليلي عن السبب، فأجاب قائلا: «من وجهة نظر نفسية، فإن منظر الطفل حين يكون نائماً يثير الشفقة والاستعطاف أكثر مما لو كان مستيقظاً».
وحول ساعات النوم الطويلة التي يقضيها هؤلاء الأطفال وسط الضجيج، يقول: «طبياً، نوم الطفل أكثر من 12 ساعة في اليوم يعد مسألة غير طبيعية وأكثر من اللازم، وأن ينام بشكل غير طبيعي رغم الضجيج والإزعاج ولساعات أكثر من اللازم، فلا تفسير لذلك سوى أن هذا الأمر يتم عبر تدخل طبي كأدوية وعلاجات خاصة بالنوم. صحيح أننا لا نستطيع الجزم ما إذا أعطوه منوماً أم لا، لكن النوم لأكثر من 12 ساعة، وفي أجواء لا تساعد على النوم، لا يمكن أن يحدث دون تدخل طبي».

آثار نفسية مدمرة
وعن الآثار السلوكية والنفسية المترتبة على تسول الأطفال، يقول الشليلي: «عندما يتعلم الطفل التسول دون ردع من الأسرة وغياب دور المدرسة، يكبر وهو يتكل على الغير، وبالتالي يصبح في المستقبل شخصية انتهازية اتكالية».
ويضيف: «أما الأثر النفسي، فإن الطفل المتسول يتعود على سماع عبارات الاستحقار والمهانة من المجتمع، وهو يكسر حاجز العيب والحياء الذي يلازمه، ويصبح الأمر طبيعيا بالنسبة له، وبالمقابل يكسب الطفل شحنات عدائية في المستقبل، وحقداً على المجتمع. الشحنات العدائية تتفرغ في مراحل عمرية متقدمة، وهذا هو الخطر الأكبر».

ظاهرة شائكة ومتشعبة
من جهته، يؤكد الدكتور كامل الرشاحي، رئيس قسم علم الاجتماع بجامعة صنعاء، أن ظاهرة التسول في اليمن، وبخاصة الأطفال، شائكة ومتشعبة، سواء من حيث الأسباب والدوافع أو من حيث الحلول والمعالجات لهذه الظاهرة، وخصوصا في الظروف الراهنة التي تعيشها بلادنا من عدوان وحصار.
ويلفت الرشاحي إلى أن هناك أسباباً عديدة تدفع المواطن أو الأطفال للتسول، أبرزها تدهور الوضع الاقتصادي والذي تسبب بانعدام فرص العمل، بجانب تداعيات كثيرة ومتداخلة، منها عدم التكافل الاجتماعي والتفكك الأسري، وأحيانا الانفجار السكاني على مستوى الأسرة، وغيرها من الأسباب.

مشكلة أكثر خطورة مستقبلا
ويقول الدكتور الرشاحي: «صحيح أن الطفل مكانه المدرسة وليس الشارع، وليست مهنته التسول، ولكن لا يجب أن نحمل هؤلاء الأطفال الذين يتسربون من المدارس للتسول وزر سياسات الدول التي يفترض بها أن توفر لهم مقومات الحياة من مأكل ومشرب واحتياجاتهم المدرسية».
ويستطرد: «هنا هل نلوم هؤلاء الأطفال أم نلوم بلدانهم المتخلفة اقتصاديا، لأن الدول المتقدمة لا تكتفي بتوفير التعليم المجاني للطفل، وإنما تتسابق في توفير كل احتياجاته وسبل الرعاية والراحة له في المدرسة، أما في اليمن ومثيلاتها من الدول النامية فيترك كل طفل يواجه مصيره وكأننا في غابة، وفي ظل غياب الحلول الحكومية يحل الشارع بديلا عن المدرسة، وهذه هي المشكلة التي تعيشها اليمن حاليا، وسيترتب عليها مشكلة مستقبلية أكثر خطورة تتمثل في جيل من العاطلين الذين لا يجدون مهنة أو حرفة سوى التسول».
ويتابع: «ما يثير السخرية أن هناك عدداً لا يحصى من المنظمات العاملة في اليمن في مجال الطفولة، ولكنها رغم كثرتها لم تقدم شيئا لهؤلاء الأطفال، فالمستفيدة هي وليس الأطفال اليمنيين».

لا حل سحرياً
وعن الحلول والمعالجات الكفيلة باجتثاث هذه الظاهرة، يقول الرشاحي: «لا توجد روشتة جاهزة أو حل سحري لحل المشكلة، لأن الحلول تكون علمية وبحزمة من الإجراءات، والكل يعلم وضع اليمن الاقتصادي نتيجة العدوان والحصار، ومع ذلك من غير المنطقي أن نحمل الحكومة فوق طاقتها، ولكن نطالبها بتوظيف الحلول البسيطة المتاحة لها، وعلينا كيمنيين إحياء روح التراحم والتكافل المجتمعي والرجوع إلى التراث العربي القديم وما فيه من مآثر لإنقاذ الملهوف».