نشوان دماج / مرافئ - 
حالة حالمة خلقها الشعر العربي -في العموم- جعلت المرأة أقرب إلى الوهم منها إلى الواقع. فهذا المخلوق البشري إن تُحُدِّث عنه شعراً هو على الدوام في غاية الجمال والرقة والعذوبة؛ إن مشت فضَوْعٌ، وإن وقفت فرمح، وإن ضحكت فبرق، وإن بدت فشمس، وإن... وإن... حتى لا يعود الذهن متخيلاً المرأة إلا من خلال تلك الالتماعات التي يقدمها له الشعر على طبق من ذهب كما يقولون، متناسياً أنها مجرد التماعات خاطفة لا تلبث أن تختفي، وأن المرأة مخلوق من لحم ودم وعرق ودموع، تتعرض لما يتعرض له سواها من أحوال وتقلبات، ناهيك عن كونها إنساناً يغضب ويفرح ويحزن ويتألم ويشيخ ويهرم... الخ. 
سنحاول في مقاربتنا هذه تناول موضوع المرأة عند واحد من شعراء العصر الحديث، وهو محمود درويش، الذي أعطى المرأة حيزاً كبيراً في شعره وحياته على حد سواء، وكانت بحسب ناقدين محور ارتكاز بالنسبة له. لكن ما هي المرأة عند هذا الشاعر؟ أو بعبارة أخرى: ما الصورة التي يمكن لنا أن نخرج بها عن المرأة من شعر محمود درويش؟ 
إذا كان الذهن العربي قد اختزل قصص الحب في الشعر القديم بثنائي غزلي تجسد في عنترة وعبلة، وقيس وليلى، وجميل وبثينة، وكُثيّر وعزة... الخ، فقد ظل قادراً على استيعاب شخصية وتفاصيل المرأة المحبوبة عند هذا الشاعر أو ذاك. فهي على الدوام حالة جسدية عندهم جميعاً: الجمال بتخيلاته هو مرتزكها الأول، ثم تأتي البقية. وإلى أن جاء محمود درويش بـ«ريتاه»، كنوع من حداثة يقتضيها العصر، لم يخرج عن ذلك المرتكز وإن اختلفت معاييره بحسب الزمن. فالصورة النمطية هي ذاتها عن المرأة في الشعر القديم، مضافاً إليها الرتوش العصرية اللازمة. لكن الفرق هو أنه إذا كانت عبلة عنترة أو ليلى قيس هي امرأة واحدة لا غير، وامرأة حقيقية لها ديارها وقبيلتها وبيئتها التي هي دائماً بيئة الشاعر نفسها، فإن ريتا درويش عبارة عن امرأة أو مجموع نساء لا يستطاع الجزم بوجودهن حقيقة في حياته، ولا تحديدهن بهوية ما، ولا تحديد بيئة لهن، تكون مثلاً هي بيئة الشاعر نفسها أو تختلف عنها؛ بحيث أصبحت أو أصبحن عنده، حسب كثيرين، رمزاً وحالة موغلة في الخيال. 
هذا فضلاً عن نفور الشاعر من بيئة الشعراء القدامى، من خيام ونوق وخيول وماعز، بحيث يمكن للرعي أن يدخل ضمن احتمالات ما كانت تقوم به أولئك الحبيبات من وظائف. وبالتالي طقوس قصة عنترة وعبلة أو قيس وليلى ليست مناسبة للمزاجية الحداثية عند درويش، بقدر ما يناسبه أكثر قصة روميو وجولييت، وإن لم تكن بين شاعر وفتاة. فهذه حداثية حتى وإن كانت في العصور الوسطى؛ طالما يُستطاع من خلالها تخيل بيئة يسقط فيها الثلج، بدلاً من شمس قائظة، وبيوت من قرميد أسقفها تشبه الهرم، بدلاً من خيام لاهبة ومراع قاحلة يلتقي فيها الحبيبان، بل ستسمح بتهيئة مكان مناسب يلتقيان فيه، وليكن مرجاً أو غابة سنديان.
ولعلنا يمكن أن نلمس من خلال قصائد درويش كيف أنه ينفر من الخيام وحياة القيظ، ومن كل ما يمكن أن يجلبه تخيل بيئة صحراوية. فهو إن أراد خيمة مستنبطة من بيئته العربية أرادها بحجم مدينة بأكملها، كما يقول في «مديح الظل العالي»: «بيروت خيمتنا الأخيرة»؛ ليجيئه رد ناجي العلي حاسماً في أحد كاريكاتيرات ما بعد «كامب ديفيد»، وعندما أجرى درويش مقابلة مع الصحفي الصهيوني «اليساري» حاييم هنجفي، قال فيها إن الشعب الفلسطيني جاهز للاعتراف بـ«إسرائيل»؛ فكان أن رسم العلي كاريكاتيره معلقاً: «درويش خيبتنا الأخيرة»، على منوال العبارة؛ ليستشيط درويش غضباً، ويتصل على الفور بناجي العلي الذي كان حينها في لندن، ويقول له بالحرف الواحد: «بدي ياك تفهم يا ناجي منيح اليوم أني أنا محمود درويش اللي قادر يخرجك من لندن في أي لحظة.. أنت مش قدي». وتلك قضية أخرى لا مجال لذكرها هنا.
أضف إلى ذلك أن درويش لا يريد أن يمثل دور الفارس الذي كان يمثله الشاعر القديم في المنافحة عن أفراد قبيلته، ومن ضمنهم محبوبته، فيتذكر على سبيل المثال بارق ثغرها عند التماع الأسنة في المعارك، كما فعل عنترة مثلاً، لأن الحبيبة نفسها لم تعد تلك المكحولة الغناء التي تتوارى خجلاً ويعز اللقاء بها كثيراً، وإن التقيا فعلى حذر واستحياء شديدين، بل أصبحت متاحة، واللقاء بها سهل المنال، إذ يمكن أن يقابلها في أية حانة أو مرقص أو معترك سياسي، واضعة مكياجاً وأحمر شفاه، إلى جانب أنها تشرب النبيذ الفرنسي وتستطيع الرقص معه على سيمفونية مخملية. وبذلك تكون كل أركان الصورة الحداثية في قصيدته قد اكتملت.
وإذا كان محمود درويش قد أكثر إلى حد الإسهاب في موضوع المرأة الحبيبة أو المرأة المعشوقة وأوصافها الباذخة شكلاً وحديثاً ووقعاً، فإن المرأة عنده أقرب إلى لوحة، يختار لها من ذائقته كل ما يوائمها كلوحة، لا ككائن وجودي. فعندما يقول مثلاً:
بين ريتا وعيوني بندقية
والذي يعرف ريتا
ينحني ويصلي لإله في العيون العسلية
فإن كلاً من الحبيبة والعيون والبندقية والإله... كلها بلا استثناء عبارة عن أشياء جُمعت في لوحة غاية في الجمال، لكنها غير حقيقية تماماً، أو لا تدب الحياة فيها بالشكل الذي يجعل القارئ يعرف أن تلك الحبيبة كانت فعلاً من شحم ودم كما يقال، وليست مجرد صورة في ذهن الشاعر قد لا يكون لها أي وجود.
فحتى حين يأتي على ذكر فداحة اسمها الحرب حالت بينه وبين محبوبته، نجده يقول:
بيننا مليون عصفور وصورة
ومواعيد كثيرة
أطلقت ناراً عليها بندقية
لكنك هنا لا تكاد تشم من كل ذلك رائحة بارود لبندقية أطلقت رصاصها على مليون عصفورٍ، ولا أثراً عند القارئ لفظاعة ما اقترفته. كأنما حتى البندقية ونارها لا يريد لهما محمود درويش أن تخدشا جمال لوحة رسمها له ولحبيبته، فجعل من فعلهما بلا أثر. إذ المهم في لوحته هو أن:
اسم ريتا كان عيداً في فمي
جسم ريتا كان عرساً في دمي
وأنا ضعت بريتا سنتين
وهي نامت فوق زندي سنتين
وتعاهدنا على أجمل كأسٍ 
واحترقنا في نبيذ الشفتين
وولدنا مرتين!
ليأتي حالمٌ نسي -في غمرة انغماسه بـ«الأغنية الثورية» كما يبدو- أن يكنس شعر شاربه عن فمه، فيغني: ريتاااا.. ريتاااا... آآآآه ريتاااا، فتزداد الصورة إيغالاً في الزيف وتكون قد ابتعدت عن واقعيتها تماماً؛ إن كان لها من واقعية أصلاً. 
ثم:
آهِ ريتا
أي شيءٍ رَدّ عن عينيك عينيّ
سوى إغفاءتين
وغيوم عسلية
قبل هذي البندقية
كل شيء هنا «باذخ»، كعادة محمود درويش، لكن لامرأة لا وجود لها؛ امرأة من خيال الشاعر لا امرأة واقعية. فهذه لكي ترسمها ريشة الشاعر، لا بد من تجريدها أولاً من كل ملامحها وشخصيتها، ولا بد من عدم الاحتفاظ بشيء منها، كما لو أن اللوحة تفرض أشياءها وألوانها الخاصة بالطريقة التي لا تجعل من المرسوم يتعرف على نفسه فيها. فحتى الاسم إن لم يره ملائماً، فإنه يجرد «محبوبته» منه ويختار لها اسماً لا علاقة لها به، بقدر ما أنه رآها ستكون أجمل من خلاله. وبالتالي حتى يتحدث عنها، يكون أولاً، وقبل أي شيء آخر، قد جردها من اسمها واختار لها اسماً مخملياً يوائم لوحته/قصيدته. إذ ربما أن الاسم الأصلي سيخدش أو يقلل من جمال اللوحة التي يريد لها أن تكون مرسومة بعناية وبشكل غاية في الجمال. وبما أن الحبيبة هنا تجردت من اسمها، بالتأكيد ستتجرد من بيئتها ومن محيطها ومن العلاقة الواقعية والقائمة فعلاً بين الاثنين، بحيث لو أراد الرجوع إلى تلك البيئة وذلك المحيط ليصورهما كما هما، لم يعد باستطاعته ذلك، لأنه أرادهما بيئة ومحيطاً متخيّلين لا واقعيين.
لا أريد هنا أن أسبح في ما يقوله النقاد ودارسو قصائد درويش عن شيء اسمه الرمزية في شعره، وبأنه «أيا من تكن ريتا؛ اسماً مستعاراً أو امرأة حقيقية، فقد استحضرها درويش رمزاً، وأدخلها الخيال الفلسطيني، وعكس عبرها الصراع الفلسطيني مع العدو الصهيوني. فقصة ريتا في أشعار درويش تحمل أكثر من حدود العلاقة الحميمية بين الرجل والمرأة»؛ بل كل ما أريده هو أن أنظر كقارئ إلى نص مجرد من أية تأويلات أو ترميزات وأتعاطى معه كما هو. 
بالتأكيد هناك أسماء حبيبات أخرى في قصائد درويش، لكن مهما اختلفت الأسماء فالصورة واحدة، بمعنى أن: صورة المرأة بشكل عام عند درويش لا يشعر القارئ معها بأنها قريبة أو محسوسة، أو يمكن أن يجدها في واقعه هو كقارئ، بقدر ما يشعر بأنها امرأة من عاج لا وجود لها. فإذا وجدناه يذكر اسماً هنا وآخر هناك لما يوحي بأنه يقصد حبيبة ما، فإن صورة الحبيبة تظل نفسها. أما ارتباط «ريتا» عند درويش أكثر من غيرها، فربما لتكرارها في قصائده، ولتوقفه كثيراً عندها -حيث الأسماء الأخرى يكاد يمر عليها مرور الكرام- بحيث نستطيع أن نستشف «قصة حب» حدثت بين الشاعر وتلك الـ«ريتا»، ولدرجة أنه سيمكننا الحديث بعد وقت طويل عن ثنائي عاشق اسمه محمود وريتا، مثلما قيس وليلى، أو كثير وعزة، أو جميل وبثينة... الخ. 
لكن إن أردنا إعادة كل تلك التفاصيل في لوحات/قصائد محمود درويش عن حبيبته ريتا إلى حقيقتها: الاسم، الحبيبة، البيئة، المكان، الزمان...، سينبغي علينا أولاً معرفة: ما الاسم الحقيقي لهذا الاسم المستعار؟ وهل صاحبته حقيقية أم مستعارة هي أيضاً؟ هل هو اسم للعديد من قصص الغرام التي عاشها درويش، بحسب قوله عن «ريتا»: «إنها إنسانة. ليست محددة»؟ وهل تلك الـ»إنسانة» كانت من بيئة الشاعر نفسه، بحيث ربما وُجدت طفولة ما مشتركة بينهما؟ أم أنها بالفعل، وبحسب الكثير من التكهنات، كانت شابة/شابات «إسرائيلية» تعرّف عليها/عليهن في مكان ما وزمان ما؟ 
كان أول ظهور لـ«ريتا» في مرسم درويش الشعري عام 1967، في قصيدة «ريتا والبندقية»، ثم تابعها في «ريتا أحبيني» و«تقاسيم على الماء» و«الحديقة النائمة». وبحسب أحد دارسيه: «تَكرر اسمُ ريتا في دواوين درويش... وظلت تتردد في أعماله النثرية حتى رحيله».
هناك من أشار إلى أن «ريتا» هذه هي الكاتبة اليسارية تانيا رينهارت، تلميذة عالم اللغويات الأمريكي المشهور نعوم تشومسكي؛ وهو ما نفاه صديق تلك المرحلة من عمر درويش، سميح القاسم، بالقول: «ريتا عابرة جداً في حياته، ومعرفته بها لم تتجاوز أشهراً».
رواية أخرى تقول بأن درويش أحب شاعرة صهيونية، استناداً لقوله: «والشاعرة الحسناء تبكي على قدميّ في الليل، وتدلّ الشرطةَ على آثار قدميّ في الصباح». هذا القول أثار بدوره علاقة درويش بالشاعرة الصهيونية داليا ريبكوفتش في الستينيات، وجعل البعض يتكهن بأن داليا هذه هي ذاتها ريتا المقصودة في أشعاره، فهي يسارية ومعروفة بـ«مناصرتها» للقضية الفلسطينية ومناهضة الاحتلال، وداعية إلى «السلام»! ربما أنه السلام نفسه الذي كان ينشده درويش عند المحتل في أروقة ما يسمى «الحزب الشيوعي الإسرائيلي»، والذي كان عضواً فيه، كما أفصحت عن ذلك «ريتا» ثالثة في حياة شاعرنا كانت هذه المرة الراقصة الصهيونية من أصل بولندي تامار بن عامي، والتي قالت: «علاقتي بدرويش بدأت بعد رقصة أديتها في مقر الحزب الشيوعي الإسرائيلي، الذي كان عضواً فيه قبل استقالته، وكان عمري آنذاك 16 عاماً، لنفترق بعدما استدعيت إلى الخدمة العسكرية بسلاح البحرية الإسرائيلية».
صحيح أن تصريحات درويش بشأن ريتا متضاربة؛ فمرة يعلن أنها مجرد اسم فني، وأخرى يعترف بأنها اسم مستعار لشخصية حقيقية، لكن السؤال الذي يبقى هو: لماذا تصب كل التكهنات في مسألة أنه أحب في النهاية «إسرائيلية»؛ وهو الفلسطيني الثائر الذي وجد في فترة من حياته، وبمباركة سلطة عرفات، أنه المستحق الوحيد للقب «شاعر المقاومة»؟! هل كانت البيئة التي نشأ فيها مجدبة من الحبيبات لدرجة أنه بحث عنهن في غيرها؟! بالتأكيد ليس لأي بيئة أن تجدب من فتيات يصبحن محبوبات أقرانهن، ولو بحث درويش في بيئته لوجد؛ فهل كان استعلاءً منه أن يبحث عنها هنا، بدلاً من البحث عنها هناك، واستلالها من بيئة ليست أخرى فحسب، بل معادية أيضاً؟! وإذا كان بحثه أولاً وأخيراً عن حبيبة «يسارية»، سواء كانت شاعرة أو كاتبة أو ناشطة أو «راقصة»، فلماذا لم يجد في كل الشاعرات والكاتبات والناشطات، بل «الراقصات»، في فلسطين والوطن العربي، يسارية تملأ قلبه فيتخذها «ريتاه»؟! ألم يجد ما يملأ قلبه ذاك إلا عند المحتل لأرضه ووطنه؟! أم أنه أراد أن يخلق بذلك وئاماً ما بين الجلاد والضحية؟! وما الذي دفعه في فترة متأخرة من حياته لأن يعلن صراحة عن نفوره من لقب «شاعر المقاومة»؟! أهو السعي وراء «نوبل» ما، أم هو حب «ريتا» التي لا تصلح عنده أن تكون إلا صهيونية؟ لكنه في النهاية حب المستلَب وعقدته أمام سالبه. أليس كذلك؟ ربما وربما وربما:  
ماذا تقول؟
لا شيء يا ريتا
أقلّدُ فارساً في أُغنية
عن لعنة الحب المحاصر بالمرايا
عَنّي وعن حلمين 
فوق وسادةٍ يتقاطعان ويهربان
فواحدٌ يستلّ سكيناً 
وآخرُ يُودِعُ النايَ الوصايا 
لا أدرك المعنى.. تقول 
ولا أنا 
لغتي شظايا