خـاص - دمشق  أحمد رفعت يوسف / لا ميديا -
بين كابول ودمشق ثمة خيط من الأحداث والدروس والعبر، التي لا يمكن القفز فوقها ولا بد من التوقف عندها والتمعن بها ودراستها، حتى تتوضح الصورة ومسارات الأحداث في المنطقة الملتهبة.
قد يكون الحبل السري الذي يربط بين دمشق وكابول أقوى مما هو متوقع، بدءاً من ملكة أفغانستان الوحيدة ثريا الطرزي، بنت الشّام، التي ولدت وترعرعت في دمشق سنة 1899 لأب من أصول أفغانية وأم دمشقية، وليس انتهاء بما ادعاه الرئيس المخلوع "أشرف غني" بأنه تنازل عن الحكم حتى لا يحدث في أفغانستان ما حدث في سورية، فيما الحقيقة تقول إنه هرب حتى لا يكون مصيره مثل مصير الرئيس نجيب الرحمن معلقاً على المشنقة في شوارع كابول، ومتناسياً أن الجيش السوري لايزال منذ حوالي أحد عشر عاماً يقارع أعتى الجيوش، وأقذر العصابات الإرهابية في التاريخ، فيما جيشه المدرب لمدة 20 عاماً من قبل الأمريكيين لم يصمد أكثر من بضعة أيام، وقبل أن يكمل الأمريكيون انسحابهم، وحتى قبل أن يتمكن أشرف غني من لملمة حوائجه والهروب قبل وصول طالبان إلى رقبته، ومتناسياً أيضاً أنه من الفريق الذي وضع سيناريو لسورية بعد "سقوط نظام الرئيس بشار الأسد" فإذا به يسقط ويسارع إلى الفرار، فيما الرئيس الأسد يصبح رقماً صعباً لا يمكن تجاوزه في مسارات المنطقة.
ومع مشاهد الانهيار الدراماتيكي السريع للجيش الأفغاني وهروب الرئيس أشرف غني على عجل يبدو ثمة خطأ أمريكي رهيب في مسرح الحدث، يدل على ضعف في التخطيط والرؤية، لا يمكن أن يتماشى مع معايير الدولة العظمى الأولى في العالم، حيث أُعد هذا السيناريو الأمريكي الفاشل ليكون في دمشق فإذا به يحدث في عقر الدار التي يسكنونها في أفغانستان وعلى مرأى ومسمع منهم وهم فاغرون أفواههم.
ثمة تفاصيل أخرى على صلة مباشرة بالمشهد الأفغاني وإن كانت تبدو لأول وهلة وكأنها مبعثرة، لكنها مرتبطة ارتباطاً وثيقاً، وليس مصادفة أن معظمها له علاقة مباشرة، أو غير مباشرة، بسورية، وأبرز هذه التفاصيل:
ـ تحذيرات انطلقت كالنار في الهشيم في وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي، من سياسيين وخبراء عسكريين وأمنيين ومحللين لكل متعامل مع الأمريكيين، تقول: انظروا إلى المحتمين بالغطاء الأمريكي كيف يلقيهم على قارعة الطريق عند أول انعطافة، وكيف تدهسهم طائرات الهروب الأمريكي، وتلقي بمن تعلق بها في الهواء، وكان عملاء الأمريكيين من "قسد" في شمال سورية أول المستهدفين، وعلى صعيد الرؤساء كان الرئيس التركي رجب طيب أردوغان التائه بين إخوانيته وعثمانيته وعمالته للأمريكيين المستهدف الأول بهذه التحذيرات.
ـ الرئيس الأسد يتلقى رسالة من رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي، حول قمة جوار العراق، وقراءة ما بين سطورها تقول: "سامحنا يا سيادة الرئيس فحضورك القمة ضروري ولا طعم لها بدونك، لكن لا نستطيع دعوتك لأن دعوتك ستكون اعترافاً وإقراراً من الحضور بانتصارك وبفشلهم"، وتتمة الرسالة تقول إن الجميع سيدرك عند عقد القمة -إن عقدت- ألا قيمة لها بدون سورية، وهو ما تحدثنا به في تقريرنا السابق في صحيفتنا "لا".
ـ قائد المقاومة اللبنانية حسن نصر الله، وهو يعلن عن إبحار سفن الإنقاذ الإيرانية إلى لبنان وهي تحمل الوقود والدواء والغذاء، محطمة العنجهية الأمريكية و"الإسرائيلية"، وكاسرة ضغوطهم وحصارهم، ليس فقط على لبنان، وإنما أيضاً على سورية وكل دولة تخضع للحصار الأمريكي، ويتحدى أمريكا و"إسرائيل" ويقول إن السفينة جزء من أرض لبنان.
ـ السفيرة الأمريكية في لبنان تسارع على عجل لتلقي بقانون قيصر بيديها تحت الأقدام، وتعلن أن الأردن سيزود لبنان بالكهرباء وستزوده مصر بالغاز، ولكن "عبر سورية"، ليأتيها الجواب من دمشق، بأن أي شيء يتعلق بسورية يتم بالتنسيق مع الدولة السورية ولكل شيء ثمن.
ـ التحدي اللبناني والسوري يترجم بعدوان "إسرائيلي" فاشل، يعبر عن الحنق وارتفاع نسبة القلق الوجودي "الإسرائيلي" أكثر مما هو عن أي شيء آخر. وفي توازنات القوى تمكنت وسائط الدفاع الجوي السوري من إسقاط 22 صاروخاً من أصل 24 صاروخاً "إسرائيلياً" متطوراً، فيما عجزت القبة الحديدة "الإسرائيلية" ووسائط الدفاع الأمريكية و"الإسرائيلية" عن صواريخ غزة البدائية، وعن المسيرات والصواريخ اليمنية.
ـ المشهد هنا يترسخ في الوعي الجمعي للمجتمعات، حيث حرب الوعي هي الأشرس من الحرب الميدانية والسياسية والاقتصادية، وتظهر فيه أمريكا الدولة العظمى الأولى في العالم وهي ترتكب الأخطاء وراء الأخطاء. وثمة خطأ في السيناريو الأمريكي للبنان وسورية ليس بعيداً عن تداعيات الخطأ في السيناريو الأفغاني، حيث كانت تتوقع أمريكا أنها بالعقوبات والحرب الاقتصادية والحصار ومحاولات التجويع ستجعل اللبنانيين ينقلبون على المقاومة، فإذا بجمهور المقاومة يزداد ويتمدد إلى كافة شرائح المجتمع اللبناني، وبشكل غير مسبوق، وهو الدرس الذي لم تتعلمه من سورية، حيث حاولوا -باستخدام السلاح نفسه- قلب المجتمع السوري على الرئيس بشار الأسد، فإذا بهم وبأدواتهم مع إعلام الوهم والتضليل يتفاجؤون بالطوابير التي كانت تقف نهاراً على الخبز والمازوت والغاز في سورية، والذين عولوا عليهم للانقلاب على الرئيس الأسد، يحتشدون ليلاً في ساحات دمشق والمدن السورية للاحتفال ليس فقط بفوز الرئيس الأسد بولاية رئاسية جديدة، وإنما لإيصال رسالة إلى الأمريكيين وأدواتهم تقول لهم: "نعرفكم ونعرف أهدافكم ولن تنجحوا". 
ـ أما الصورة الأهم والتي تلخص المشهد العام فتأتي من واحد من أهم المعبرين عن روح الدولة العميقة في الكيان الصهيوني، وهو رئيس الاستخبارات العسكرية السابق، عاموس يادلين، الذي قدم الوصف البليغ للحدث الأفغاني قائلاً: "إن ما حدث جرى بصورة مهينة للأمريكيين، وهو هروب وليس انسحاباً، ويؤشر إلى فشل استخباراتي أمريكي فظيع".
وأكثر من ذلك ارتفعت أصوات "إسرائيلية" مهمة ووازنة تدق ناقوس الخطر وتتساءل عن مصير "إسرائيل" في حال انسحب الأمريكيون من المنطقة.
هذه الصورة تبدو سوريالية في بعض جوانبها، لكن قراءتها بتمعن تظهر تعابيرها وتفاصيلها والتي تقول باختصار إن هناك "عالماً ينهار، وعالماً يصعد".
الأول: تتسيده أمريكا ومنظومتها الرأسمالية وأدواتها في المنطقة، وهذا العالم مأزوم وتكثر فيه الأخطاء الاستراتيجية والسيناريوهات الكارثية. والثاني برأسه الصيني والروسي ومعهما الإيراني وتتموضع فيه أطراف المقاومة ضد أمريكا والكيان الصهيوني، تقف رموزه متحدية وتتمكن من ضم سفينة إلى مساحة وطن، وهي تبعد عنه في أعالي البحار آلاف الكيلومترات، وهو عالم سيبقى يصعد حتى ينتصر.