غازي المفلحي / لا ميديا -
لليوم الثالث على التوالي تواصل روسيا العملية العسكرية الخاصة التي قالت إنها أطلقتها في أوكرانيا بهدف حماية المواطنين الروس في جمهوريتي «لوغانسك» و»دونيتسك» اللتين أعلنتا الاستقلال واعترفت روسيا بهما، إلى جانب منع وإزالة التهديدات الأوكرانية لأمن روسيا، بينما لم تجد الدول الأوروبية ما تفعله سوى تهديد موسكو بمجموعة عقوبات مالية أثبتت جميع التجارب أنَّها لا تقدم أو تؤخّر بشيء.
أوكرانيا: الخنجر القاتل في يد الغرب
في 23 كانون الأول/ديسمبر 2021، وخلال المؤتمر الصحافي السنوي للرئيس الروسي فلاديمير بوتين، أثار سؤال مراسلة «سكاي نيوز» ديانا ماجناي جدلاً كبيراً، إذ أجاب بوتين باقتضاب عليه، قائلاً إنَّ ملاحظات روسيا حول سلوك الولايات المتحدة تعود إلى العام 1990، وإن واشنطن لم تتجاهلها فحسب، بل استمرّت بالمضي قدماً أيضاً.
الآن، أسلحة الناتو على وشك الانتشار في أوكرانيا، الأمر الذي سيكون حقيقة غير مقبولة بالنسبة إلى موسكو، ويجب أن يكون مفهوماً أنّ تثبيت الصواريخ على مسافة 4 دقائق بالطائرة من موسكو يشكل تهديداً شديداً وسبباً كافياً للحرب.
وبناء على ذلك، نفّذت القوات الروسية عملية عسكرية في أوكرانيا لحماية موسكو من التهديدات الأمريكية والأوروبية لروسيا من البوابة الأوكرانية.

عملية عسكرية لم تشهد أوروبا مثيلاً لها منذ الحرب العالمية الثانية
بعد أن جعلت أوكرانيا من نفسها مطية للولايات المتحدة الأمريكية ودول الغرب، وسمحت بتنصيب قواعد عسكرية للولايات المتحدة وحلف «الناتو» على أرضها، وبما تتضمنه هذه القواعد من أسلحة نووية بهدف تهديد الأمن والوجود الروسي، وبعد عدم تجاوب أمريكا ومعها الغرب مع المخاوف الأمنية الروسية بالطرق الدبلوماسية، استيقظ العالم الخميس الماضي على إعلان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عن عملية عسكرية تاريخية في أوكرانيا لم تشهد لها أوروبا مثيلاً منذ الحرب العالمية الثانية عام 1945.
وحسب الرئيس بوتين فإن العملية لا تهدف إلى احتلال أوكرانيا وإنما إلى تطهيرها ممن سماهم «الإرهابيين» و»النازيين» الجدد، ومنع تحويل أوكرانيا إلى قاعدة أسلحة نووية للولايات المتحدة وحلف الناتو وما يشكله ذلك التواجد الغربي من تهديد خطير لعمق روسيا.
وأوضح بوتين أن العملية تلك كانت اضطرارية، بخاصة وأن مخاطر عدم القيام بها ستؤثر بشكل كبير على وجود روسيا وأمنها، وإن روسيا أعدت نفسها لكل ما قد يترتب على هذه العملية، ومنها العقوبات التي فرضها الغرب عليها.
وحذر الغرب من أن موسكو سترد فوراً، على أية محاولة من «الخارج» لعرقلة العملية العسكرية. وقال: سوف يؤدي ذلك الرد إلى نتائج لم تواجه أبداً في تاريخ أولئك الذين قد تسول لهم نفسهم التدخل في الأحداث الجارية.

الدب الروسي يكتسح
ومنذ فجر الخميس تدور معارك عنيفة بمختلف الأسلحة بين القوات الروسية ومعها قوات جمهوريتي دونتيسك ولوغانسك ضد القوات الأوكرانية وسط تقدم هائل للقوات الروسية، التي وصلت حتى مساء أمس الجمعة إلى تخوم العاصمة الأوكرانية كييف خلال اليوم الثاني من العملية.
وأعلنت وزارة الدفاع الروسية أن القوات المسلحة الروسية لا تنفذ أي هجمات صاروخية أو جوية أو مدفعية على مدن أوكرانيا؛ مشيرة إلى أن البنية التحتية العسكرية ومنشآت الدفاع الجوي والمطارات العسكرية وطيران القوات المسلحة الأوكرانية، تم استهدافها بأسلحة متناهية الدقة.
وأشارت «الدفاع» الروسية إلى أن قواتها قامت بتعطيل البنية التحتية العسكرية للقواعد الجوية الأوكرانية، إضافة إلى إسكات الدفاعات الجوية الأوكرانية. مضيفة أن جنود حرس الحدود الأوكراني لا يبدون أي مقاومة للوحدات الروسية، موضحة أنه لا يوجد شيء يهدد السكان المدنيين.
وكانت القوات الروسية هاجمت أوكرانيا من عدة محاور في الشمال والجنوب والشرق، وحتى ساعة كتابة التقرير تحدثت تقارير استخباراتية منها أمريكية عن أن العاصمة الأوكرانية كييف لن تصمد لأكثر من 4 أيام، بينما تتقدم القوات الروسية نحوها من 3 محاور. 
كما تحدثت تقارير استخباراتية عن سيطرة كاملة للقوات الروسية على الأجواء الأوكرانية وقيام الروس بالسيطرة على مطارات عسكرية في ضواحي العاصمة كييف.

أول الأرقام
حسب الناطق باسم وزارة الدفاع الروسية إيغور كوناشينكوف، أمس الجمعة، فإنّ «القوات المسلحة لروسيا الاتحادية عطلت أثناء العملية الخاصة 211 هدفاً من عناصر البنية التحتية العسكرية في أوكرانيا».
وقال كوناشنكوف: «تم إسقاط 6 طائرات، ومروحية واحدة، و5 طائرات مسيرة، كما تم تدمير 18 دبابة، وعدد من المدرعات الأخرى، و7 راجمات صواريخ، و41 وحدة من المركبات العسكرية الخاصة، و5 زوارق».
وأضاف: «القوات المسلحة الروسية قامت خلال العمليات العسكرية بتعطيل 118 مرفقاً من مرافق البنية التحتية العسكرية الأوكرانية، من بينها 11 مهبطاً للطائرات، و13 نقطة قيادة واتصال، و14 منظومة دفاع صاروخي «إس-300» و«أوسا»، و36 محطة رادار».
وأكّد «استسلام أكثر من 150 جندياً أوكرانياً من قوات مختلفة خلال العمليات في أوكرانيا». وأضاف قائلاً: «في الوقت الحاضر، يُطلب منهم تعهد برفض المشاركة في العمليات العسكرية، وستتم إعادتهم إلى أسرهم قريباً بعد استقرار الوضع في منطقة القتال».
وفي هذا السياق، أعلنت الدفاع الروسية السيطرة على مقاطعة تشيرنوبل الأوكرانية (مكان تواجد مفاعل تشيرنوبل النووي)، بعد معارك وإنزال مظلي فيها.

فرار الغرب
أما الولايات المتحدة الأمريكية والدول الأوروبية، وهي التي أشعلت فتيل هذه الأزمة حسب روسيا بمحاولتها نقض اتفاقيات الأمن المتبادلة وخططها لتوسيع حلف شمال الأطلسي (الناتو) شرقاً على حدود روسيا وضم أوكرانيا التي تعد ضمن العمق التاريخي للأراضي الروسية وجعلها منصة لتهديد أمن روسيا، فلم تخف عليها حالة الصدمة التي سببها  التحرك الروسي، واكتفت بفرض عقوبات اقتصادية وصفتها بالمدمرة على روسيا، مع الإعلان مرارا أنها لن تقاتل روسيا أبداً في أوكرانيا.
هذه المواقف أغضبت أوكرانيا، حيث وصفتها بالمواقف المتخاذلة من قبل الولايات المتحدة الأمريكية ودول الغرب، وقال الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي في ما يشبه الصراخ إن «أوكرانيا تقاتل وحدها وإن لا أحد يريد أن يقاتل معها».
وحسب رئيس وزراء إيطاليا فإن زيلينسكي اتصل بالأوروبيين وهو مختبئ في جزء من العاصمة كييف. وقال: «إن أوكرانيا ليس لديها المزيد من الوقت، وأنه وعائلته هدف لقوات الغزو الروسي».

بوتين يدعو الجيش الأوكراني إلى الإمساك بالسلطة
وفي آخر التطورات دعا الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، أمس الجمعة، الجيش الأوكراني إلى «الإمساك بالسلطة»، قائلاً: «يبدو أنه من الأسهل بالنسبة لنا الاتفاق معكم، أكثر من هذه العصابة من مدمني المخدرات والنازيين الجدد».
وأوضح بوتين أنّ «النازيين في أوكرانيا يتصرفون مثل الإرهابيين، وينشرون راجمات الصواريخ في شوارع كييف وخاركوف»، داعياً الجيش الأوكراني إلى «عدم السماح للنازيين الجدد بأخذ المدنيين دروعاً بشرية».
وأكد أنّ «الاشتباكات الرئيسية خلال العملية الخاصة ليست مع القوات الأوكرانية النظامية، ولكن مع التشكيلات القومية» المتطرفة، مضيفاً: «أودّ أن أشير إلى التقدير العالي لتصرفات الجنود والضباط الروس، يتصرفون بشجاعة ومهنية وبطولية، يقومون بواجبهم العسكري بنجاح، في مهمة ضمان أمن شعبنا ووطننا الأم».
كما صرح الكرملين أنّ «بوتين وافق على إجراء مفاوضات بعدما قال الرئيس الأوكراني إنه مستعد لبحث حياد أوكرانيا»، مشيراً إلى أنّ «متطرفين أوكرانيين وضعوا أنظمة صواريخ في مناطق سكنية في مدن كبيرة».
من جهتها، قالت المتحدثة باسم الخارجية الروسية، ماريا زاخاروفا، أمس الجمعة، إنّ «روسيا على استعداد لتشكيل وفد فوري لإجراء مفاوضات مع كييف، لكن هذا يتطلب سلوكاً مسؤولاً منها»، مشيرةً إلى أنه «من المبكر التحدث عن المستوى الذي سيتم فيه تمثيل روسيا في المفاوضات الممكنة مع كييف».
وفي ما يخص الضمانات الأمنية، رأت زاخاروفا أنه «لا يكفينا الحديث عن الأمن، نحتاج إلى ضمانات أمنية طويلة الأمد وملزمة قانونياً من أمريكا والناتو».
وكان الكرملين أعلن أمس أنّ الرئيس بوتين مستعد لإرسال وفد روسي إلى مينسك لإجراء مفاوضات مع الوفد الأوكراني. وفي وقتٍ سابق، دعا الرئيس الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي، نظيره الروسي لإجراء مفاوضات حول الوضع في إقليم دونباس.
بدوره، أعرب بوتين في محادثة مع نظيره الصيني شي جين بينغ عن استعداد بلاده للتفاوض مع أوكرانيا «على مستوى عالٍ»، وفق تعبيره.
وكانت الصين وإيران وسوريا من الدول التي انحازت إلى صف روسيا، وقالت أنها تتفهم مخاوفها الأمنية المشروعة.
وأعرب الرئيس السوري بشار الأسد عن دعمه القوي لهذه العملية واعتبرها تصحيحاً للتاريخ.

خلفية تاريخية
يذكر أن أوكرانيا كانت أرضاً روسية ضمن الاتحاد السوفيتي حتى تم إعلان استقلالها عام 1991، واعترفت روسيا بذلك. كما أن العاصمة الأوكرانية كييف كانت هي عاصمة روسيا في العصور القديمة أيام الإمبراطورية الروسية قبل أن تصبح موسكو هي العاصمة الروسية.
وتعود مشكلة أوكرانيا مع روسيا إلى عشية انهيار الاتحاد السوفياتي، لما تشكّله مساحتها الكبيرة وحدودها الطويلة مع روسيا والتداخل الاجتماعي والثقافي من أهمية استراتيجية للأمن القومي الروسي. عندما نالت أوكرانيا استقلالها في العام 1991، أطلق جيمس بيكر، وزير الخارجية الأمريكي حينها، جملة شهيرة أثناء لقائه الزعيم السوفياتي ميخائيل غورباتشوف حول مستقبل الأمن الأوروبي قائلاً: «لا بوصة واحدة شرقاً»، في تأكيد صريح لعدم نية واشنطن توسيع حلف الناتو نحو الشرق.
لكنّ الولايات المتحدة أخلّت بوعدها، وبالغت في إجراءاتها التوسعية، وضمَّت عدداً من دول أوروبا الشرقية ودول البلطيق الثلاث إلى الناتو، مستغلةً ضعف روسيا ومشاكلها الاقتصادية وعدم استقرارها السياسي، وناقضت التعهدات التي حصل عليها الاتحاد السوفياتي من واشنطن وبقية العواصم الغربية في مباحثات توحيد ألمانيا في العام 1990، وهي اليوم تحاول تطويق روسيا ووضع صواريخ الناتو وترسانته واستخباراته تحت أنف الدولة الروسية.
ولمزيد من التوضيح، ففي زمن الاتحاد السوفياتي، كانت أقرب نقطة تمركز لحلف شمال الأطلسي تبعد عن مدينة بطرسبرغ في روسيا الموجودة على شاطئ بحر البلطيق حوالى 1500 كلم. أما اليوم، فقد أصبح وجود الناتو في دول البلطيق الثلاث، ومنها إستونيا، أقل من 140 كيلومتراً فقط. من هنا، نستحضر قول مستشار الأمن القومي الأكثر شهرة زيبيغنيو بريجنسكي في أوائل العام 1994: «إذا سيطرت روسيا على أوكرانيا، فيمكنها أن تعيد بناء إمبراطورتيها من جديد».