صلاح الـدكاك / لا ميديا -
حارة المنظر العلوي، إب القديمة، تفضلوا هذا هو منزله. وقبل أن ندلفه خفقت أجنحة سرب حمام فوقنا، وأطل كلب من فجوة في حزام السطح المزخرف ونبح. تستعرض صورة رسمتها في البال، حكايات كثيرة عن الرجل، لاسيما تلك الحكايات التي ترصد مواقفه و"قفشاته" في حضرة غير رئيس يمني تعاقب على الحكم. يروق لريشة القص الشعبي أن تعقد على نحو ما شبهاً بينه وبين شخصيات تاريخية عُرفت بظرف علاقاتها مع الخلفاء والحكام، كالأصمعي وأبي نواس ونظرائهما ممن رفدت منادماتهم للملوك والأمراء التراث الشعبي بنوادر لا حصر لها؛ فأين يقف الشيخ عبدالعزيز الحبيشي من هؤلاء؟ وهل يجمعه بهم قاسم مشترك؟
لم يعد "الزاجر" سجناً اليوم، أصبح "دار الحبيشي لرعاية الأيتام". تلك مفارقة تكشف أحد الأبعاد المهملة في شخصية الرجل. تأخرنا ربع ساعة عن الموعد، وحين بلغنا المكان كان الشيخ بانتظارنا، أنيقاً، وافر النشاط، وأغزر شباباً منه في لقائنا الأول به، وكان ينفق سخرياته بسخاء وعفوية على أسماع المحيطين به، فتتحول على الفور إلى قهقهات. قلت له ونحن نتناول الفطور في ميز فسيح بالطابق الأول من الدار: هانحن نأكل في بطوننا ناراً (أي بأكلنا طعام الأيتام). شعت عيناه بابتسامة من أدرك محاولتي الاتساق مع قفشاته ومجاراتها، وأشار بسبابته لافتاً نظري صوب قائمة مواعيد تقديم الوجبات الأربع لنزلاء الدار. إنها تتضمن وجبة "العواف"، التي سقطت باكراً من ذاكرة اليمنيين، وكانت تقدم في الفترة بين العصر والعشاء، كاعتياد شعبي تعارف عليه اليمنيون، وينسجم مع برنامج عملهم اليومي الذي تغير إلى النقيض منه اليوم، إذ تلتهم قيلولة القات مساحة زمنية تسقط معها حتى وجبة العشاء لدى الغالبية.
يطالع الشيخ أقسام الدار بزهو يليق به كمؤسس وراعٍ أسفر عن جهوده هذا المبنى الذي يشتمل على معمل حديث وقسم للملابس وسكن داخلي وميز للطعام. تعداد نزلاء الدار يصل إلى 1500 يتيم؛ انتقالاً فارقاً من مدرسة الحبيشي القديمة للأيتام والواقعة وسط المدينة حيث خدمة التعليم امتياز وحيد كان يقدم لهذه الشريحة الاجتماعية الوفيرة.
وبموازاة دار الأيتام يرأس الشيخ الحبيشي جمعية الهلال الأحمر اليمني، التي أسهم بدور رئيس في تأسيسها سنة 87م وانتخب رئيساً لها عدة دورات لاحقة امتداداً إلى اللحظة الراهنة. وفضلاً عن ذلك فإن الرجل يبقى "أبو الشباب" في يقين أهالي محافظة إب بلا منازع. إنه شعباوي الهوية، رياضي الهوى.
 مغرم بمجالس تستشرف المكان من عليين. نصعد ثلاثة طوابق أخرى بطلب منه. في المنتهى هناك "طيرمانتان" أو "منظرتان" أخريان، علاوة على مجلس المقيل المعتاد. ويحكى أنه وبدافع من ولعه هذا استقدم مهندساً أجنبياً ضليعاً في التصميم، وطلب إليه تصميم مجلس دوّار يتيح للجالس فيه مشاهدة واستجلاء المحيط، من موقعه، وهو يمر مر السحاب دون حاجة لهصر فقرات العنق يمنة ويسرة، وأجاب المهندس الخبير بأن ذلك في الإمكان؛ لكنه طلب أجراً مبالغاً فيه، فقال الشيخ: "اعتبر الموضوع لاغياً؛ تخزينة قات إبي تكفي لأن تجعل إب كلها تدور حول متكئي!!". 
 طرح بعضهم على أحد الرؤساء مقترحاً لإنشاء سور ببوابة لمقبرة مدينة إب، وحين بدت التكلفة كبيرة، ضرب الشيخ على صدره ورقبته في حضرة هذا الرئيس، وقال متعهداً: "سيدي، ما الحاجة لسور بهذه الكلفة؟! خذ ضمانتي بألا أسمح لأي من موتى المقبرة بالفرار، وإذا حدث أن فر أحدهم فاقطع عنقي".
 وفي لقائه بأحد الرؤساء على انفراد لم يكن بوسع الشيخ الحبيشي أن يحرك يديه بحرية في أغراضه الشخصية المحشورة في جيوبه؛ كل حركة كانت تموت قبل أن تتحول من طور الفكرة أو الرغبة إلى طور الفعل، في مرمى عيون وفوهات بنادق الحرس الشخصي. وامتدت دقائق اللقاء لتصبح زمناً، ولم يعد في مقدور الشيخ أن يحتمل ضغط رغبة مستبدة في التدخين، فرفع يديه عالياً، في وضع الاستسلام، وهمس للرئيس بأدب جم: "علبة السجائر في الجيب الداخلي للجاكتة، ممكن تطلعوها سيادتكم؟! الخَرَم يقتلني"!
 وفي مقيل أحد الرؤساء، تعثر الشيخ، عامداً، بنارجيلة موضوعة وسط المكان، فاندفع الحاضرون يقرّعونه على ركة بصره، واندفع الشيخ في المقابل يبادلهم التقريع، قائلاً: "أيهم أحق بالعتب، عجوز يمر قرب مداعة ولا يراها، أم حكومة تمر صعوداً وهبوطاً بجوار محافظة كاملة ولا تراها؟!". 
 وحين صدر توجيه بإعادة أملاك أسرة آل حميد الدين، تقدم الشيخ بعريضة يطالب فيها باستعادة مساحات عقارية منه صادرتها الدولة دون تعويض، وفي ذيل العريضة كتب العبارة التالية: "أخوكم الشيخ عبدالعزيز حبيش الدين".
وإلى أن يستعيدها يظل الحبيشي يطلق على هذه المساحات المصادرة، تسمية "شرم الشيخ"، وهي تسمية سرت على ألسنة الكثيرين في محافظة إب، في تهكم واضح للدلالة، ويثير براميل الضحك!
إن عمره هو فصل نتمنى أن يطول من الدعابات ذات المغزى، وأسمى ما في هذه الدعابات، هو أنها كانت احتفاء بالناس، وصوتاً بليغاً لهواجسهم واحتياجاتهم في البلاط الرسمي. وفي محيط من الأعصاب والملامح والنفسيات المتوترة المنكمشة بكآبة، يبقى وجه هذا العجوز النبيل شمس مرح تشيع دفئها حيث تلفتت.
له من شيخ! إنه ليس حارس جغرافيا المرح فحسب، بل وجغرافيا الثورة!!



مقتطفات من مقال
نشر في صحيفة «الجمهورية»
 بتاريخ 22/ 5/ 2007