تحقيق وتصوير:عادل عبده بشر / لا ميديا -
خفت صوت السلاح في اليمن، حيث تسود فترة من الاستقرار، مما يستدعي أن نحوّل التركيز إلى قاتل لا ينتبه إليه أحد من المرجح أن يطارد اليمنيين لعقودٍ من الزمن.
يقول أطباء يمنيون لصحيفة “لا” إن حالات التشوهات بين المواليد وإجهاض الأمهات ومشاكل صحية أخرى، زادت بحدة في الفترة الأخيرة، ويشتبه الكثيرون في أن يكون السبب في ذلك هو التلوث البيئي الواسع الناجم عن استخدام تحالف الحرب على اليمن أسلحة جرثومية ومحرمة، على مدى 8 سنوات من الحرب.
ويؤكد الأطباء ظهور أنواع جديدة من التشوهات لم تُعرف من قبل، حيث يولد الأطفال موتى أو مشوهين أو مصابين بالشلل، مشددين على ضرورة إنشاء مراكز بحثية طبية متخصصة في عمل أبحاث علمية ودراسة هذه الحالات لمعرفة أسبابها.

كُتلة وجع
منذ اليوم الأول لاقترانه بمن اختارها قلبه شريكة لنبضه وأميرةً لمنزله، والشاب أحمد يحلم باللحظة التي سيستقبل فيها أول مولود له، يُضيء بنورهِ درب الأسرة التواقة لحياة هنيئة تحفها السعادة وضحكات الأطفال من كل جانب.
مرت أيام وأسابيع. حلَّت البُشرى بظهور علامات الحمل لدى الأم، لتزداد لهفة الأبوين لرؤية مولودهما البكر. تضاعفت الفرحة أكثر حين أظهرت الفحوصات أن الطفل المُنتظر «ذكر» سيكون ولياً للعهد وحاملاً لاسم الأب والجد، فأطلقا عليه اسم «ضياء» ومازال في بطن أمه؛ غير أن وهج الفرحة سُرعان ما تلاشى ببلوغ الجنين الشهر السابع، حيث أبلغهما الأطباء بوجود تشوه خَلْقي في نجلهما الذي لم يولد بعد.
انكسرت فرحة والدي «ضياء»، وهما يشاهدان عبر الكشافات والفحوصات الطبية رأس الجنين ينتفخ يوماً بعد آخر. وعندما حلت ساعة المخاض استقبل أحمد وزوجته طفلاً مصاباً بتشوهات خَلْقية لم ترَ أعينهما مثلها منذ وعيا على الدنيا.
حالياً، يرقد «ضياء» في قسم الأطفال بمستشفى السبعين للأمومة والطفولة في العاصمة صنعاء، وقد بلغ الشهر السابع من عمره. تجلس والدته بجواره، ينهش الألم نياط قلبها وهي تنظر إلى كتلة من الوجع يتفنن المرض في تعذيبها.
على مقربة من سرير «ضياء»، يوجد طفل آخر عمره أربعون يوماً، مصاب بتشوهات مختلفة. ويجاورهما طفل ثالث بالتشوهات ذاتها، وفي الغرفة الثانية أطفال آخرون يعانون من تشوهات ظاهرة وباطنة، تمضي بهم في طريق الموت.

زيادة مخيفة
تؤكد هناء الأديمي، نائب مدير عام الشؤون الفنية بمستشفى السبعين للأمومة والطفولة، وجود ارتفاع كبير في حالات التشوهات الخلقية للمواليد في اليمن، وزادت أكثر في السنوات الثلاث الأخيرة؛ لكن لا توجد إحصائية شاملة لتلك الحالات.
وقالت الدكتورة هناء، وهي أيضاً استشاري أطفال وحديثي الولادة: «عدد الحالات المصابة بتشوهات خلقية، وحِدّة التشوهات أيضا، زادت بشكل كبير؛ لكن كإحصائية شاملة ومفصلة لا يوجد»، مشيرة إلى أن التشوهات الخلقية بين المواليد تنقسم إلى مرئية: تكون في الأعضاء الظاهرة في الجسد الخارجي للطفل، أو في الأعضاء الداخلية مثل القلب والكلى والصدر وغيرها، وتشوهات غير مرئية تظهر بعد ذلك.
وأرجعت الأديمي أسباب زيادة حالات التشوهات الخلقية بين المواليد، إلى الحرب التي تُشن على اليمن منذ آذار/ مارس 2015، وما رافقها من قصف مكثف بأسلحة محرمة، على المدن والقرى دون تفريق بين هدف عسكري وآخر مدني.
وقالت: «مشاكل الحرب وما حدث من قصف بأسلحة بعضها جرثومية ومحرمة دولياً، ساهمت بشكل كبير في ارتفاع التشوهات الخلقية، فالأم عندما تتعرض لأدخنة هذه المتفجرات وهي حامل بالتأكيد سيؤثر في جنينها، وكذلك الأطفال المواليد عندما يتعرضون لهذه الأشياء السامة ستؤثر عليهم بشكل كبير، وتؤثر في حياتهم مستقبلاً».
وإضافة إلى الحرب وأسلحتها الجرثومية، أشارت الأديمي إلى أسباب أخرى تأتي في المرتبة الثانية بين أسباب زيادة التشوهات الخلقية، ومنها استخدام المبيدات والسموم الزراعية بشكل كبير، وخصوصاً في زراعة القات، واتجاه الكثير من الآباء والأمهات إلى مضغ القات وتدخين الشيشة وغيرها، ثم تأتي الأدوية والمواد الغذائية المنتهية والمهربة، يليها العوامل الوراثية.

ارتفاع حالات الإجهاض والسرطان
إلى جانب التشوهات الخلقية كشفت نائب مدير عام الشؤون الفنية بمستشفى السبعين للأمومة والطفولة، عن زيادة في نسبة إجهاض الحوامل، وزيادة في حالات الإصابة بالسرطان بين الأطفال.
وقالت: «الزيادة في نسبة التشوهات الخلقية للمواليد يقابلها أيضاً زيادة في نسبة حالات السرطانات للأطفال، وكذلك زيادة في نسبة إجهاض الحوامل؛ لأن أول سبب من أسباب الإجهاض هو التشوهات الخلقية، أن يكون هناك تشوه في الخلية نفسها، أثناء الانقسام، وقد يؤدي ذلك إلى الموت المبكر للجنين في بطن أمه، أو بعد الولادة مباشرة، أو أن يبقى الطفل يعاني ويُعاني معه الأهل».
وأشارت الدكتورة هناء الأديمي إلى حالتي تشوه نادرتين استقبلهما مستشفى السبعين الأسبوع المنصرم، حيث تقول: «الحالتان إحداهما لطفل عمره سبعة أشهر، والأخرى لطفل عمره خمسة أشهر، وكنت أقول لنفسي إنه يمكن حدث خطأ في التشخيص، لأن الحالتين نادرتان جداً، وظهرتا في الوقت نفسه، ثم اتضح فعلاً وثبت بالتشخيص أن عندهما مشاكل في العظم تؤدي إلى عدم إنتاجية الدم بشكل كاف للطفل، فتقل المناعة لدى الطفل وتظهر لديه مشاكل عصبية. وهذه الحالات النادرة مؤسفة؛ لأنها في الأخير مميتة، وأنت تقف عاجزاً عن فعل أي شيء، سوى بعض الإجراءات الطبية التي تُخفف الألم عنهم قدر الإمكان».
وتضيف الأديمي: «هناك أيضاً حالة عندها تشوه خلقي آخر، وحالة عندها طفرة في خلايا الجسم، وحالات لديها أمراض جينية، وأغلب الحالات التي أشرف عليها في قسم الأطفال لديها تشوهات مرئية وغير مرئية، تؤدي إلى أن الطفل يعاني من أمراض قلبية، فشل في النمو، التهابات متكررة ثم الوفاة، وهذه الحالات موجودة بكثرة».

مركز أبحاث
الزيادات المخيفة في التشوهات الخلقية للمواليد، وكذلك حالات الإجهاض وارتفاع أمراض السرطان، في بلدٍ تعرض لأعنف قصف بمختلف الصواريخ والقنابل التي أثبتت تقارير دولية عدة أنها أسلحة جرثومية ومحرمة، وآثارها الصحية تمتد لسنوات طويلة، كل ذلك لم يدفع الجهات المختصة في هذا الوطن الجريح إلى تبنى مركز أبحاث طبي متخصص لدراسة هذه الأمراض والخروج بنتائج علمية وبيانات رسمية واضحة وموثقة.
وفي هذا الصدد تقول الدكتورة هناء الأديمي: «نحن بدأنا في المستشفى خلال السنتين الأخيرتين توثيق بيانات هذه الحالات، والرفع بها إلى وزارة الصحة، التي عممت علينا ضرورة عمل استمارات لتسجيل حالات الأطفال وبيانات الأمراض المصابين بها؛ ولكننا نفتقر إلى مركز أبحاث يتم فيه عمل أبحاث عامة وخاصة حول التشوهات الخلقية، وما يحدث من أبحاث أو دراسات تكون بجهود فردية وبإمكانيات بسيطة».
وأضافت الأديمي: «ينبغي على الجهات الحكومية المختصة بالصحة أن توجِد مركز أبحاث متخصصاً في التشوهات الخلقية، لمعرفة مدى حِدة التشوهات، والعدد الفعلي للحالات ونوعها وأسبابها، بحيث نستطيع معالجتها والعمل على الحد منها».
وأكدت أن القطاع الطبي في بلادنا تأثر بشكل كبير بسبب الحرب والحصار، ومن أكثر القطاعات التي تعرضت للدمار والخراب، ورغم ذلك ظل صامداً؛ «إلا أننا لا نستطيع أن نقدم الخدمة الطبية الملائمة لهؤلاء الأطفال، وهذا الأمر يزيد عدد الوفيات ويزيد العبء على القطاع الصحي بشكل عام».

استسقاء دماغي
في قسم جراحة الأطفال بمستشفى السبعين التقينا الدكتور عبدالكريم البِشْري، رئيس القسم، الذي كان واقفاً بجوار طفل يُدعى أيوب أحمد، لم يمضِ على ولادته سوى أربعين يوماً، ولكنه يُعاني من عدة تشوهات خلقية.
يصف الدكتور البِشْري حالة الطفل أيوب قائلاً: «هذه الحالة عندها استسقاء دماغي، سوائل في الدماغ مع فُتاق في العمود الفقري، وهو ما نطلق عليه «تشوه خلقي»، حيث يولد الطفل بهذه الإعاقة، وتظهر أول علامة للتشوه من خلال الفتاق في الظهر، فيتم إجراء عملية فتاق للعمود الفقري، ثم ينتظر الطفل من أسبوع إلى أسبوعين، لتظهر بعد ذلك السوائل في الدماغ، فنقوم بزراعة جهاز شفط السوائل الموجودة في الدماغ مع توصيلة إلى البطن».
ويؤكد الدكتور البِشري أن الطفل المصاب بهذه الحالة يُصاب بإعاقة دائمة تمنعه من أي حركة.
أما عن الطفل ضياء أحمد، ذي السبعة أشهر، الذي استهللنا به هذا التحقيق، فإنه -طبقاً للدكتور البِشري- يعاني من «استسقاء دماغي، عدة أكياس متحوجبة في الدماغ، بالإضافة إلى تشوه خلقي في الشفة الأرنبية وفتحة الحنك.
فتم (والكلام مازال للدكتور البِشري) زراعة الجهاز الأول، ولاحظنا أن السوائل بكثرة، فقمنا بزراعة الجهاز الثاني، ومازال الطفل يعاني من ضغط السوائل بشكل كبير».
حالة أخرى لفتت انتباهنا، وهي لطفل يبلغ من العمر سنة وشهرين، ويُدعى عبدالرحمن، يُعاني أيضاً من استسقاء دماغي؛ ولكنه مستعصٍ، طبقاً لرئيس قسم جراحة الأطفال، الذي قال: «عبدالرحمن لديه استسقاء دماغي مستعصٍ، يعني كبير الحجم، لذلك قد يحتاج جهازين لتفريغ السوائل، وقد يكون جهازاً واحداً بشرط أن يكون ضغطاً عاليا (نوع الجهاز)».
ويؤكد الدكتور عبدالكريم البِشري أن «الأجهزة التي يتم زراعتها للأطفال لسحب السوائل الهدف منها تخفيف السوائل والألم على الأطفال قدر الإمكان، حتى يحين أجلهم، كون هذه التشوهات قاتلة».

انعدام التوعية
وبخلاف الأطفال المصابين بالتشوهات ويكونون الوحيدين في أسرهم وُلدوا مشوهين، لدى عبدالرحمن شقيق عمره سنتان، يتواجد في المستشفى، مصاباً باستسقاء دماغي، بشكل أخف من شقيقه.
عندما سألنا الأم إن كان هناك آخرون من أبنائها لديهم تشوهات، أجابت بالإيجاب، وقالت: «لديّ أيضاً طفلة أكبر منهما مصابة بتشوه خلقي ومازالت على قيد الحياة»، موضحة أن هذه التشوهات ظهرت في مواليدها الجُدد دون معرفة السبب؛ كونه لا يوجد أحد في أسرتها أو أسرة وزجها وُلد بتشوه خلقي.
وفي هذا يشير رئيس قسم جراحة الأطفال، الدكتور عبدالكريم البشري، إلى انعدام التوعية بهذا الشأن، حيث سبق أن وَلدت هذه الأم طفلة مصابة بتشوه خلقي، ورغم ذلك استمرت في الإنجاب دون أن تتوقف.

أرقام وبيانات
إحصائية لوزارة الصحة العامة والسكان أصدرتها في آذار/ مارس الماضي، حول ضحايا العدوان من المدنيين الذين وصلوا للمستشفيات والمرافق الصحية خلال ثمانية أعوام، أوضحت أن المراكز الطبية سجلت وفاة 830 ألف طفل دون سن الخامسة خلال سنوات العدوان، ووفاة 80 مولودا دون الـ28 يوما، وكذا وفاة 46 ألف امرأة نتيجة مضاعفات ناجمة عن الحصار والعدوان.
وأوضحت الإحصائية أن استخدام العدوان للأسلحة المحرمة تسبب في ارتفاع نسبة التشوهات الخلقية وإجهاض الأجنة بمعدل 350 ألف حالة إجهاض و12 ألف حالة تشوه.
وأظهرت ارتفاع حالات المواليد الخدج وناقصي الوزن سنويا في ظل العدوان والحصار بنسبة تزيد عن 8% وكذا أعداد الأطفال المصابين بالتشوهات القلبية إلى ثلاثة آلاف طفل.
وأشارت إلى ارتفاع عدد الأطفال الذين يعانون من سوء التغذية الحاد إلى 2.6 مليون طفل دون الخامسة من العمر سنويا، منهم 630 ألف طفل يعانون سوء تغذية حاد وخيم، و1.8 مليون امرأة تعاني سوء تغذية سنويا، ومليون أخرى تعاني من مضاعفات في ظل الحصار.
وكشفت ارتفاع أمراض السرطان خلال سنوات العدوان بنسبة 50 في المائة، حيث هناك أكثر من 87 ألفا من الحالات مسجلة لدى المركز الوطني للأورام، منها 40 ألفا خلال سنوات العدوان، فضلا عن إصابة 30 ألف طفل بالسرطان، منع تحالف العدوان وصول الأجهزة والأدوية الإشعاعية للتشخيص والعلاج.
وأكد ارتفاع حالات الإصابة بمرض سرطان الدم في أوساط الأطفال من 300 إلى 1700 حالة في صنعاء والمحافظات، وكذا ارتفاع أعداد الأشخاص ذوي الإعاقة من ثلاثة ملايين قبل العدوان إلى أربعة ملايين ونصف المليون شخص، فضلا عن ارتفاع أعداد المصابين بالأمراض المزمنة إلى نحو 1.5 مليون مريض يعجز الآلاف منهم عن السفر بسبب بقاء القيود على مطار صنعاء.