إيهاب شوقي

إيهاب شوقي / لا ميديا -
في لحظات معارك التاريخ الفاصلة، دوماً تبرز محطات تشكّل مفاجآت ومفارقات تستدعي التأمل والإفادة من العبر وتجديد الإيمان بأن الحقوق لن تسقط بالتقادم، والمقاومة هي السبيل لتفجير تناقضات العدوّ، والهزيمة هي المصير المحتوم للاستعمار وأعوانه. هذه المفارقات هي أقرب ما تكون فخاخاً يقع فيها العدو.
من هذه الفخاخ تبرز الاحتجاجات الطلابية الأمريكية، والتي تتصاعد وتتفاعل تداعيات قمعها، ما يشكّل حرجاً خطيراً للإدارة الأمريكية. هذا ما أجاد في وصفه السيناتور الأمريكي بيرني ساندرز، عندما قال لشبكة (CNN)، إن الاحتجاجات المعارضة للحرب «الإسرائيلية» على غزّة، التي تشهدها الجامعات الأمريكية منذ أيام، قد تكون «فيتنام بايدن»، محذراً من أن موقف الرئيس الأمريكي بشأن الحرب ربما يؤدي إلى نفور الناخبين الشباب. وقارن ساندرز بين الاحتجاجات الحالية وتلك التي حدثت خلال رئاسة ليندون جونسون، في أواخر ستينيات القرن الماضي، عندما احتج الطلاب الأمريكيون ضدّ حرب فيتنام.
قبل الخوض في المخاطر الاستراتيجية لهذا الحراك الطلابي على العدوّ الصهيوني، ينبغي ذكر عدة ملاحظات:
 هناك مفارقة محزنة بين حراك الشباب العربي في الانتفاضات التي عرفت باسم «الربيع العربي»، والتي طالبت معظمها بالديمقراطية على النمط الأمريكي والغربي، ولم ترفع شعارات مناهضة للعدو الصهيوني ولا مطالبات بالتحرير، وبين حراك الشباب في أمريكا وأوروبا الذي خرج ثائراً على زيف الديمقراطية ومنتصراً للحق الفلسطيني!
 الحراك الطلابي لا يقتصر على بقعة بعينها؛ ولكنّه من النوع الذي ينتقل كالعدوى ويصبح صيحة عالمية. وبلحاظ طبيعة العصر، والذي هو عصر التواصل الاجتماعي وثقافة «الترند»، فإنّ هذا الحراك قابل للاتساع والانتشار، وهو ما حدث بالفعل حين انتقل إلى جامعات فرنسا، ويبقى القوس مفتوحاً لانتقاله إلى دول أخرى.
السؤال هنا: لماذا تخشى أمريكا ومعها العدوّ الصهيوني هذا الحراك؟ ولماذا يشكّل خطراً استراتيجياً على العدو؟
هنا ينبغي رصد عدة أمور سياسية واستراتيجية وتاريخية لتوضيح هذه المخاطر:
أولاً: هناك تشابه كبير بين هذا الحراك وبين حراكات سابقة نجحت في تحقيق أغراضها وإجبار السلطات على تحولات جذرية، وذلك بسبب عمق المخاطر الناتجة عن التناقضات بين ما تصدره السلطات من شعارات وبين ممارساتها العملية، ما يعني تالياً وجود أزمة شرعية تجبر السلطات على التحول. وهذا حدث في حرب فيتنام مع الحراك الشعبي والجامعي، والذي أجبر أمريكا على الانسحاب والنزول من الشجرة بعد تعثرها وخسائرها وصمود المقاومة في فيتنام.
الأهم، هنا، هو تشابه هذا الحراك مع الحراك المناهض لنظام الفصل العنصري (الأبارتايد) في جنوب أفريقيا، والذي أجبر بريطانيا على التراجع، وأجبر أمريكا على التخلي عن النفاق الذي مارسته، حين كانت تدعي أنها ضدّ ممارسات الفصل العنصري، في الوقت الذي كانت تقيم فيه علاقات اقتصادية واستراتيجية مع نظام «الأبارتايد»، حتى أجبرها الحراك الشعبي على فرض العقوبات والتملّص من هذا النظام.
ثانياً: هناك خطر وجودي على شرعية النظام الأمريكي، حيث ألقي القبض على مئات المتظاهرين في أقل من 24 ساعة، ومورست سياسات شبيهة بممارسات الدول التي تقمع التظاهرات، والتي تصفها أمريكا بالدول الدكتاتورية والمتخلّفة، فبدت أمريكا دولةً مطابقة تماماً لدول «العالم الثالث» التي تزعم أمريكا نفسها أنها تقود العالم لتطويره وغرس القيم الديمقراطية فيه، واستقطابه بعيداً عن «محور الشر» المتمثل في «الدكتاتوريات».
ثالثاً: الحراك الشبابي يقول إن الجيل القادم في أمريكا والغرب عرف حقيقة الكيان الصهيوني، وعرف حقيقة الديمقراطية الأمريكية المزعومة، وأن المستقبل ليس في صالح الكيان المؤقت الذي سقطت جميع دعاواه بالمظلومية وجميع فزاعاته بمعاداة السامية.
رابعاً: الحراك ممثلة فيه جميع الطوائف والأجناس والأديان، ولا يقتصر على فصيل بعينه يمكن استهدافه والتشكيك به عبر الدعايات. ومن أهم المجموعات التي تنظم الاحتجاجات منظمة «طلاب من أجل العدالة في فلسطين»، وأغلب طلابها من الأصول العربية والإسلامية، ومنظمة «الصوت اليهودي من أجل السلام».
خامساً: منذ ثلاث سنوات رصد كريس ماكجريل، الذي عمل مراسلاً لصحيفة «الغارديان» في القدس، عدة تحولات مهمة، أهمها رصده للرضا حيال تهجير أهالي حيّ الشيخ جراح في القدس قبل عملية «طوفان الأقصى» وقبل حرب الإبادة التي يمارسها الكيان، حينها قال إن أهم التحولات المهمّة هو تحطّم التابو في المقارنة بين الكيان الصهيوني مع نظام جنوب أفريقيا العنصري.
فما بالنا، حاليّاً، وقد تطابقت ممارسات الكيان في رده على الاحتجاجات مع ممارسات نظام «الأبارتايد» الساقط؟!
لا بدّ، هنا، من ذكر مقارنة لافتة، حين تطالب الاحتجاجات الطلابية بسحب الاستثمارات من الشركات التي تدعم «إسرائيل» في حربها ضدّ حماس في القطاع، وفي أثناء الاحتجاجات على نظام «الأبارتايد»، ضغطت الشعوب الأوروبية على متاجرها للتوقف عن بيع المنتجات المصنعة في جنوب أفريقيا، وأجبر الطلاب البريطانيون بنك باركليز على إغلاق فروعه في جنوب أفريقيا. وقاد رفض عامل محل في دبلن الاتّصال بشركة للجريب فروت إلى الإضراب، ومنع الحكومة الايرلندية الاستيراد وبشكل شامل من جنوب أفريقيا. وبحلول منتصف ثمانينيات القرن الماضي، قال واحد من كلّ أربعة بريطانيين إنهم يدعمون الحملة المضادة للفصل العنصري؛ ولكنها كانت قوية في الجامعات، إلى جانب الحملة ضدّ انتشار السلاح النووي ودعم ثوار السانديستا في نيكاراغوا.
كذلك يتشابه التعاطي الصهيوني مع تعاطي نظام الفصل العنصري مع الاحتجاجات، فقد حاول نظام جنوب أفريقيا وأنصاره تصوير المجلس الوطني الأفريقي المناهض للعنصرية بالحركة العنيفة المعادية للديمقراطية، وأنه واجهة للاتحاد السوفييتي، وهو ما يفعله الكيان الصهيوني بوصف المقاومة بالإرهاب وبأنها أدوات للمشروع الإيراني.
قد يتطلب هذا الحراك وقتاً للتأثير العملي على مجريات الأحداث؛ ولكنّه، على المستوى الاستراتيجي، سيكشف أن الكيان قد سقط وسقطت معه ادعاءاته، وسقطت معه إمبراطورية الكذب والنفاق الأمريكية.

أترك تعليقاً

التعليقات