صالح عوض

صالح عوض / إعلامي فلسطيني كاتب ومحلل سياسي -

هل هناك قراءة أخرى لآثار هجوم كورونا على العالم؟ وبمنطق جدلية الخير والشر: هل هناك ما يمكن إبرازه من فوائد في هذه العملية القاسية؟ نبدأ بالتساؤل: لماذا كل هذا الذعر فيما لم يضرب كورونا 
أكثر مما تفعله حوادث الطرق في العالم يوميا،  أو ما يلحق بالبشرية من موت بفعل الجوع 
والمرض بلا قدرة على شراء العلاج يوميا؟! 
وهنا تظهر أسرار التهويل الرهيب المرافق للوباء. ثم أليس من حقنا أن نبحث عن وجه آخر للواقع وأن نتحرر من البروبوغاندا العالمية، ونقترب من فهم المشهد بحقيقته، حتى لا نكون ضحايا الخديعة مرات عديدة؟! هنا نطرح أسئلتنا: هل يكون كورونا بما فرضه علينا من حجر وتوقف لعجلة الاقتصاد قد جنبنا ويلات أخطر، وأنجى البشرية من هلاك فتاك أعم؟! فلنحاول الاقتراب بالمعطيات والوقائع لرسم صورة أكثر شمولا للمشهد لنرى الحقيقة كما هي؛ بمعنى لنفتح الآفاق لرؤيتنا خارج النسق المعد والمنظومة المهيمنة التي يريدون أن يمرروها على البشرية كما مرروا علينا رواياتهم السابقة كلها. في هذا الحيز نسلط الضوء على دوائر يحاولون القفز عليها لا تجد اهتماما من الرأي العام رغم خطورتها.

 وقائع كورونا:
نطرح هذا العنصر من الصورة ونحن ندرك خطورته. ولكن عدم الاتفاق مع الإعلام الأمريكي والتابع له يكمن في أننا نرى عناصر أخرى من المشهد هي التي حركت الآلة الإعلامية بشكل ضخم، وليس بسبب حجم الموت، فلقد قضت الإنفلونزا على 34 ألف شخص في أمريكا خلال 2018-2019، ولم نسمع ضجيجا.
يتحرك الفيروس بسرعة ليشمل أكثر من 177 دولة، مخلفا قتلى ومصابين واضطرابا في المنظومة الصحية العالمية، ويودي بحياة أكثر من 28000 شخص وأكثر من 600.000 حالة إصابة مؤكدة في جميع أنحاء العالم، حتى كتابة هذا المقال، ويعيش ربع سكان العالم تحت شكل من أشكال الإغلاق. ارتفع هذا الرقم عندما فرضت الهند إغلاقاً صارماً على 1.3 مليار مواطن، مع تسجيل الولايات المتحدة الآن أكثر من أي دولة أخرى حيث بلغت الإصابات 104 آلاف، ما يجعل هذا البلد يحتل المرتبة الأولى عالمياً في عدد الإصابات، بما في ذلك الصين. وقد قضى حوالي 1709 أشخاص حسب آخر حصيلة صدرت السبت، كما شهدت الدول الأوروبية ارتفاعات حادة في الإصابات والوفيات، وأصبحت المنطقة بؤرة الأزمة الجديدة. الوفيات في إيطاليا يرتفع عددها إلى 9134 شخصاً، وفي إسبانيا 4934 وفاة. من الواضح أن مراكز الوباء حاليا يدور بين أمريكا والصين وأوروبا وإيران.
على وقع حركة كورونا تتحرك السياسات الأمريكية، حيث تعتبر بعض الدول الأوروبية الموقف الأمريكي وبقية الدول الأخرى متخلية. إلا أن الأمر لا يمر دون تعليقات من ترامب، الذي اعتبر أن أوروبا تخذله، حيث قال في مؤتمر صحفي: «إنهم جميعاً يلعبون ضدنا جيداً! لقد كانوا يلعبون ضدنا لسنوات... بعض الأشخاص الذين استغلوا أكبر ميزة منا. حلفاؤنا استفادوا منا مالياً، حتى عسكرياً أيضاً».
وعلى وقع كورونا فرض الحجر المنزلي اعتبارا من بعد ظهر الجمعة على أكثر من 60٪ من الأمريكيين. هذا وقد اتفق البيت الأبيض ومجلس الشيوخ على حزمة تحفيز ضخمة تبلغ قيمتها تريليوني دولار للمساعدة في تخفيف التأثير الاقتصادي للفيروس. أعلن الرئيس ترامب «كارثة كبرى» في فلوريدا وتكساس وواشنطن وكاليفورنيا وأيوا ولويزيانا.
وعلى وقع حركة كورونا أوقفت الحكومات في جميع أنحاء العالم الرحلات الجوية. هذا وقد قامت فرنسا بسحب قواتها من العراق، وقال الجيش الفرنسي في بيان إن التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة «قرر تعديل انتشاره». وقد أصبح الحديث متداولا عن احتمال نزول الجيش الأمريكي للسيطرة على البلد وفرض حالة طوارئ في ظل تصريحات للقادة العسكريين الأمريكان أن ما تواجهه أمريكا هو أسوأ سيناريو على الإطلاق، وفي ظل الواقع الذي يقول إن «الولايات المتحدة ليست مجموعة موحدة، فهناك 50 ولاية مع تحركات مختلفة قررها الحكام وإدارات الصحة العامة المحلية». كما أكد أستاذ الصحة العامة في جامعة هارفرد «توماس تساي»: «أعتقد أن ما نحن بحاجة إليه هو مجهود وطني حقيقي منسق».
وأرغمت حركة كورونا العديد من مدن العالم على توقيف المصانع والشركات عن العمل وتوقيف حركة المرور بفعل الحظر. ومع حركة كورونا يزداد الطلب على المعدات الطبية من كمامات وأجهزة تنفس، كما تعج وسائل الإعلام بتصريحات حول عقاقير ولقاحات للتصدي للوباء، الأمر الذي يعني عدم تحمل مسؤولية مسبقة لمواجهة الوباء.

التسلح والحروب:
إن ضحية التسلح الأمريكي والحروب الأمريكية طرفان، الأول هو: الشعب الذي تقع على رؤوسه صواريخ توماهوك وكروز، والثاني: الشعب الأمريكي الذي يدفع من جيبه ثمن هذه الصواريخ والذي سيخضع دوما للابتزاز. والرابح هو الشركات العملاقة منتجة السلاح. فلقد خسرت 8 تريليونات في العراق وأفغانستان كان دافع الضريبة الأمريكي ممولها الحقيقي. لقد وافق مجلس النواب الأمريكي ولجنة الخدمات المسلحة في مجلس الشيوخ، على مشروع قانون الميزانية الدفاعية لعام 2020 بقيمة 738 مليار دولار، بزيادة 3٪ في ظل عجز لحق بالموازنة الأمريكية للسنة المالية 2019 التي انتهت في أيلول/ سبتمبر يبلغ 984 مليار دولار، أي 4.6٪ من إجمالي الناتج الداخلي. وكانت هذه أكبر موازنة عسكرية في العالم. وكتب الرئيس الأمريكي: «وقعنا على أضخم ميزانية دفاع على الإطلاق، وأنشأنا قوات فضائية أصبحت تمثل عاملا حيويا لنا». وأضاف: «لدينا طائرات جديدة وصواريخ وسفن، وأسلحة أخرى من كل الأنواع، نصنعها محليا». وهذا يشير إلى انصراف الدولة وتحويل مواردها إلى مادة استثمارية لأباطرة المال الذين لا يهمهم إلا الربح وضخ منتجاتهم في حياض الدولة الزبون الكبير.
وبفعل كورونا أعلن الكونجرس وبمصادقة مجلس الشيوخ تقديم تريليوني دولار لمواجهة كورونا. وهذه الأموال الضخمة لن يحصل المواطن منها إلا اليسير؛ ولكنها جميعا ستضخ في خزائن الشركات والمؤسسات الرأسمالية لتواصل صناعة القهر والموت للإنسانية. فإلى متى ستصمد الخزانة الأمريكية؟! إنها تتجه نحو الكساد العظيم.

فلسفة التكنولوجيا:
من المهم فهم رسالة التكنولوجيا الأمريكية للسيطرة على العالم وطبيعتها اللاإنسانية. كما أنه لمن المهم جدا أن ندرك دورها في تنشئة أجيال في أمريكا مكونين بمنطق خاص. هو الآن في قمة الهرم الأمريكي الاقتصادي، لا يحركهم إلا الربح. لقد اكتسبت شركات التقنية في السنوات القليلة الماضية، إضافة إلى الثروات الطائلة وغير المسبوقة، قوة معنوية وثقافية وأخلاقية على الصعيد العالمي. وكما قال مارشال ماكلوهان في كتابه «العروس الميكانيكية» (1951م): «نحن نشكِّل أدواتنا، وبعد ذلك أدواتنا تشكلنا». ولقد تطرق كثير من الفلاسفة والمفكرين الأمريكان والغربيين لخطورة ما انتهى إليه الأمر من جنوح العلم بلا قيم وضوابط. لقد تحدثوا عن أن هذه التقنيات تقوض الديمقراطية والحرية وكافة قيم فترة الحداثة، وتهدِّد حتى إنسانية الإنسان نفسها. ولقد استكشف المفكِّر الشهير آلان دي بوتون كيف «ابتلينا بحالة القلق والخواء المرافقة لتطور الإنتاج التكنولوجي»، ولم يغن أن تجلب الشركات الإنتاجية موظفين من تخصص الفلسفة لمحاولة ملء الفراغ الإنساني في وجدان المنشغلين بالتكنولوجيا فأصبح السؤال حقيقيا: هل أولئك الذين يقودون عمالقة التقنية ويغيِّرون أفكار الناس وثقافاتهم وطرق حياتهم حول العالم، أصبحوا هم أنفسهم بحاجة إلى من يغيِّرهم؟! 
في وادي السيليكون، وهو المنطقة الجنوبية من منطقة خليج سان فرانسيسكو بولاية كاليفورنيا المشهورة بإنتاج الشرائح أو الرقاقات السيليكونية وتطويرها، وحالياً تضم جميع أعمال التقنية العالية في المنطقة، في هذه المنطقة تنمو بيئة تنافسية للغاية، خاصة مع صعود الصين حديثاً ومحاولاتها اللحاق بمثيلاتها الغربية أو حتى تخطيها، مما ولَّد بيئة تنافسية عالمية غير مسبوقة في التاريخ. يحاولون عبر وسائل تتباين في تطرفها، من الصيام المتقطع إلى حقن أنفسهم بالخلايا الجذعية، أن يجعلوا أجسادهم وأدمغتهم أفضل، أقوى، أكثر صحة. قد لا يبدو هذا للوهلة الأولى شيئا سيئا، هذا التعاطي المتزايد للنوتروبكس (مخدر منشط) يستخدم على شكل واسع، والاستعداد للتلاعب بتكوين الجسد نفسه من أجل زيادة الإنتاج هو في حد ذاته عرض لمرض حضاري يغلف عالمنا اليوم. إنه الهوس بالنجاح لقاء أي ثمن، الأمر الذي يعني أننا نقف اليوم إزاء أجيال مصنوعة لقيم لا علاقة لها بقانون أو قيم أو إنسانية، وأن التنافس نفسه يدفع المشتغلين بالفلسفة المتواجدين في الترسانة الصناعية إلى الانخراط في فلسفة التنافس بدل ضبط الإنتاج بقيم الديمقراطية والليبرالية والأخلاق الفردية. وهناك قلق كبير يبديه الفلاسفة الكبار والعلماء الكبار، من بينهم الراحل ستيفن هوكينغ، وتحذيره مما يسمى «التفرد التكنولوجي»: «وهو نقطة افتراضية في المستقبل عندما يصبح النمو التقني غير خاضع للسيطرة ولا رجعة فيه، مما يؤدي إلى تغييرات خارجة على الحضارة الإنسانية».. لقد أصبح التسلح، وهو أحد مظاهر التكنولوجيا الصناعية، ينمو بشكل جنوني مهددا السلم والمصير الإنساني. وهذا خطر ماحق يتهدد البشرية.

تلوث البيئة:
واحد من أكبر التحديات التي يواجهها العالم، ومع كل عام جديد يزداد التسبب بوقوع ضرر يتعذر إصلاحه على الأرض، ينبعث من التوسع الجنوني في استخدام الطاقة البترولية لتشغيل المصانع والشركات وحركة المرور، ويسبب إطلاق أكاسيد النيتروجين والكبريت إلى الغلاف الجوي تكوّن الأمطار الحمضية، الاحتباس الحراري. يؤدي ارتفاع تركيز بعض الغازات، كثاني أكسيد الكربون والميثان، في الهواء إلى حبس حرارة الشمس داخل الغلاف الجوي، الأمر الذي يؤدي إلى ارتفاع متوسط درجة حرارة الأرض بظاهرة تُعرف باسم الاحتباس الحراري، تذيب الجليد وتهلك الثروة السمكية وتهدد مسطحات من الأرض بالغرق وتؤدي إلى تبعات ضارة على البيئة وعناصرها الحيوية. ولقد أنذرت كثير من المؤسسات والمنظمات الأهلية بخطورة التلوث الذي أصبحت نتائجه تمس الحياة الآدمية كلها، وتم تشكيل منظمات دولية تتابع الأمر، إلا أن الإدارة الأمريكية انسحبت منها ولم يتم مراعاة شروط تقليل مسببات الاحتباس الحراري، وكانت الصين من أكبر المساهمين في التلوث والاحتباس الحراري، نظرا لنهضتها الصناعية العملاقة.
ولقد نشأ عن هذا التلوث أمراض عابرة للقارات. كما أنه يهدد بشكل مباشر عناصر الحياة على الكرة الأرضية ويلقي بثقله على تغيير المناخات، مما يترتب عليه تدمير طبيعة الأراضي الزراعية وإلحاق الكثير منها بعدم الجدوى.

كورونا والتحديات:
لقد ضرب كورونا المنطق المجنون للربح وأوقف الشركات والمصانع بنسبة كبيرة، فأوقف التلوث في سماء الأرض لفترة من الزمن، ولن تستطيع العجلة الصناعية في الصين العودة سريعا بعد أن ضربت في سمعتها، وهذا في حد ذاته سيقلل من مجال التنافس المسعور الذي تدفع البشرية ثمنه، وهي فرصة كبيرة أيضا لكي يفكر البشر مرة أخرى بترشيد استخدام الطاقة، والبحث عن سبيل لتقليل دواعي الاحتباس الحراري. ولقد ضرب كورونا الاقتصاد الأمريكي بعنف وأصبح وضع الاتحاد في خطر، ومن المحتمل أن ينزل الجيش لتسلم الأمور، مما يعني تغييرا في سياسات التكنولوجيا والموازنات والتدخلات الأجنبية، أي تجفيف فرص الحروب الخارجية التي تعاني منها البشرية. كما ضرب الاقتصاد الأوروبي مهدداً بتفكيك الاتحاد الأوروبي، وضرب كذلك اقتصاد الصين بعنف مما يعني إيقاف تغوله على العالم وتحطيمه اقتصاديات الدول النامية. وجملة سترفع الضغط عن العرب من قبل أعدائهم وخصومهم الذين ينشغلون في لملمة أوضاعهم جراء هذه الحرب الشاملة.
ثم قبل كل ذلك، أعاد كورونا للجميع الحس الإنساني والشعور بالقلق الإنساني، وأعاد ترتيب الأشياء من جديد، وأن الأخوة الإنسانية مقدمة على كل شيء.

أترك تعليقاً

التعليقات