د.ميادة رزوق

د. ميادة إبراهيم رزوق / لا ميديا -
توقع العديد من الخبراء والباحثين والدارسين في نهاية القرن العشرين أن الحرب القادمة لن تكون حرباً على النفط كما كانت في القرن الماضي، وإنما حرباً على المياه، خاصة في منطقتنا العربية، نظراً لما تعانيه كثير من الدول من فقر مائي يزداد سوءاً في ظل التغيرات المناخية.
وربطاً فإن ذلك هو مفتاح وسر المشروع الأطلسي الصهيوأمريكي لمنطقة الشرق الأوسط، الذي كان ضمن فصول سيناريوهاته تجزئة وبلقنة المنطقة، وتشظي النظام العربي القومي، وتمكين دولة كيان الاحتلال الصهيوني من التكامل، وربط الاقتصاد العربي باقتصاد كيان الاحتلال الصهيوني من منطلق السيطرة والتبعية، بدءاً من مشروع الشرق الأوسط الكبير الذي أرادت له كوندليزا رايس أن يقسم الكثير من دول المنطقة إلى دويلات تقرر مصيرها واشنطن وفق نظريات واستشارات هنري كيسنجر ومادلين أولبرايت وزبنيغيو بريجنسكي وصموئيل هنتنغتون، وحتى "الربيع العربي" بأدواته المختلفة والتي كان أحد تفاصيلها استهداف الأمن المائي العربي بما ينعكس سلباً على الأمن الغذائي والاقتصادي والصناعي لمنطقة الشرق الأوسط ويهدد استقرارها ويغير خريطتها الجيواستراتيجية لصالح استدامة وجود كيان الاحتلال الصهيوني. 
ولم يكن ذلك بعيدا عما تم الارتكاز عليه لإنشاء كيان الاحتلال الصهيوني على أرض فلسطين العربية، حيث عن المحاولات الصهيونية لإنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين وفق الرواية التوراتية المزعومة كانت تقوم دائماً على المزج بين الخريطة المائية والخريطة الأمنية، أو بمعنى آخر كانت تضع مصادر المياه في اعتباراتها عند تخطيط الحدود، وبناء عليه بعد وعد بلفور عام 1917، الذي زكى الأطماع الصهيونية، أرسل حاييم وايزمان، رئيس المنظمة الصهيونية العالمية، رسالة إلى رئيس وزراء بريطانيا عام 1919 يطلب فيها ضم وادي الليطاني وجبل الشيخ إلى فلسطين، وهي المناطق الغنية بمصادر المياه، وبعد 22 عاما من هذه الرسالة أرسلت الدوائر الصهيونية رسالة ثانية من ديفيد بن غوريون، أول رئيس وزراء لكيان الاحتلال الصهيوني عام 1941 إلى وزارة الخارجية البريطانية يطلب فيها ضم وادي الليطاني وجبل الشيخ إلى حدود فلسطين، علماً أن بن غوريون أعلن في عام 1955 أن "مستقبل "إسرائيل" سيظل مهدداً من العرب من أجل الحصول على المياه"، فالذي يسيطر على مصادر المياه ومنابعها هو الذي يفرض إرادته السياسية والاقتصادية على الإقليم، أو على المنطقة بأكملها.
بعد نكبة فلسطين عام 1948 لم يكتف كيان الاحتلال الصهيوني بالالتماسات والرسائل، ولكنه عمد إلى تغيير الأمر الواقع عملياً، فسرق المياه العربية في فلسطين بعد استيطانها، ثم زاد في معدلات استغلاله للمياه العربية الجوفية في الضفة وغزة بعد الاحتلال إلى درجة التهديد بنضوبها، وأقام محطات ضخ لسحب مياه نهري الليطاني وحاصباني التي تصب في نهر الأردن انتهاكاً للحق العربي، واستكمل مخططاته المائية بالقوة باحتلال مرتفعات الجولان 1967 التي تضم منابع نهر الأردن الحيوي بالنسبة لكيان الاحتلال، وسيطر على بحيرة طبرية، واستمر بعملياته ضد لبنان في عملية الليطاني عام 1978، ثم اجتاح لبنان بالكامل وسيطر على بيروت عام 1982 واحتل جنوب لبنان فترة طويلة حتى عام 2000 نفذ خلالها عمليات هندسية لخدمة أطماعه المائية، ووقع اتفاقية وادي عربة عام 1994 التي جعلت الأردن رهينة لأهواء حكومات كيان الاحتلال لإمداده من حصته المتفق عليها من مياه بحيرة طبرية، بالإضافة إلى بناء سدود شمال نهر اليرموك لمنع إقامة أي مشروع مائي وزراعي بين الدول العربية.
لم يكتف كيان الاحتلال الصهيوني وحده بالاعتداء على الحق المائي العربي، بل وسع شبكة علاقاته وتحالفاته مع تركيا وإثيوبيا وبعض الدول الأوروبية والأنظمة العربية الرجعية وبرعاية ودعم أمريكي بما يحكم سيطرته على منابع ومصادر مياه أنهار النيل ودجلة والفرات ويتحكم بمرتكزات الأمن المائي وبالتالي الأمن القومي العربي لدول المنطقة ومنع قيام أي مشروع نهضوي سياسي عربي، ليدخل كيان الاحتلال الصهيوني على الخط كلاعب أساسي في ميزان القوى الإقليمي بما يخدم وجوده في سياق الصراع العربي الصهيوني.
فعندما كان الرئيس الراحل جمال عبد الناصر يبحث مع الاتحاد السوفييتي موضوع بناء السد العالي، أوصت واشنطن الحكومة الإثيوبية آنذاك عام 1957 ببناء العديد من السدود على النيل الأزرق ونهرين آخرين يغذيان النيل بحوالي 72 مليار متر مكعب من المياه، ليكون ذلك سلاحاً استراتيجياً ضد مصر التي تعرضت للعدوان الثلاثي قبل عام من ذلك التاريخ. كما كشفت تقارير المخابرات الأميركية، التي تم العثور عليها في السفارة الأمريكية في طهران، عن توصيات تقدمت بها واشنطن قبل ذلك التاريخ بعام واحد إلى حكومة عدنان مندرس دعتها فيها إلى بناء سدود كبيرة على نهري دجلة والفرات لتستخدمها مستقبلاً كسلاح فعال ضد سورية والعراق.
ولتفنيد نتائج ومنعكسات ذلك على الواقع المائي العربي الحالي نحاول البحث بشيء من التفصيل عن المشاريع المقامة على تلك الأنهار المذكورة أعلاه:
أولاً: بخصوص نهر النيل، وسد النهضة الإثيوبي، فإن أحد أهم الأهداف الاستراتيجية الصهيونية هو تقويض الأمن القومي المصري وتحطيم فكرة زعامة مصر للأمة العربية، ثم الضغط عليها لإيصال مياه نهر النيل إلى صحراء النقب من خلال جر مياه النهر إلى سيناء ومن ثم إلى النقب عبر قناة مائية تمر أسفل قناة السويس. وتذكر التقارير مساهمة كل من السعودية والإمارات وقطر وتركيا وكيان الاحتلال الصهيوني في تمويل سد النهضة وتسهيل العقبات أمامه، حيث تساهم السعودية بـ5.2 مليار دولار في 294 مشروعا إثيوبيا، فيما أنشأت الإمارات 37 شركة وهنالك 23 شركة أخرى تحت الإنشاء بواقع استثمارات يقدر بـ3 مليارات دولار، بجانب مليار دولار تبادل تجاري. أما تركيا فقد أبرمت مع أديس أبابا في عام 2013 اتفاقية دفاع مشترك تتضمن إمدادها بالخبرات التركية بمجال بناء السدود، علاوة على مساعدتها في الدفاع عن السد عبر تحصين محيطه بأنظمة رادار تركية للإنذار المبكر ومنظومات صاروخية من إنتاج تركي – "إسرائيلي" مشترك. وفي عام 2014 عرض وزير الخارجية التركي السابق داود أوغلو دعما فنيا تركياً لمشروع السد الذي تنفذ أنقرة بمحيطه مشروعا استثمارياً ضخماً لزراعة مليون و200 ألف فدان، علماً أن إثيوبيا تحتضن أضخم الاستثمارات التركية بالقارة السمراء بقيمة 2.5 مليار دولار وتستضيف أكثر من 350 شركة تركية يعمل بها نصف مليون إثيوبي. كما وقعت أنقرة في عام 2015 اتفاقية تعاون مع أديس أبابا لتوليد الطاقة الكهربائية منه، وإيصالها إلى دول الجوار الإثيوبي. أما بالنسبة لكيان الاحتلال الصهيوني الداعم والراعي الأساسي لبناء السد الإثيوبي، فإلى جانب تصديره تكنولوجيا المعلومات والطاقة إلى إثيوبيا، فهو يستثمر في 187 مشروعا بواقع 58 مليون دولار في مجال الطاقة الشمسية والرياح. وفي الوقت نفسه فإن حجم التبادل التجاري، الذي لم يكن يصل سوى لبضع ملايين، قفز في عام 2018 إلى حدود 100 مليون دولار، وخلال العام 2017 قفزت صادرات كيان الاحتلال الزراعية لإثيوبيا بنسبة 902٪ بالمقارنة مع عام 2016، وقفزت الصادرات الصناعية بنسبة 162٪ مقارنة بعام 2016. كذلك تنشط العديد من شركات كيان الاحتلال لتلبية احتياجات بناء السد. ويرتكز دور كيان الاحتلال الصهيوني على إنشاء شبكات توزيع الكهرباء للدول المجاورة لإثيوبيا والتي قارب بعضها من الانتهاء، مثل الشبكات مع كينيا والكونغو، فيما ستنشأ شبكات أخرى لجيبوتي والصومال وجنوب السودان، كما يوجد عدد من خبراء مياه صهاينة يعملون بمبنى وزارة المياه والكهرباء الإثيوبية، ويقدمون الخبرة التفاوضية والفنية للفرق الإثيوبية، بالإضافة إلى أعداد كبيرة من العاملين الصهاينة في إنشاء السد، كما ذكر موقع "ديبكا" الاستخباري التابع لكيان الاحتلال الصهيوني أن كيان الاحتلال بدأ ببناء نظام الدفاع الجوي (spyder-MR) حول سد النهضة أوائل أيار عام 2017 وانتهى بعد أقل من شهرين ونصف فقط، وبالتالي بات وجود "تل أبيب" في ملف سد النهضة ومشاركة شركات كيان الاحتلال في التجهيز للمشاريع المستقبلية لتصدير الطاقة الكهربائية من إثيوبيا إلى كينيا والكونغو وجيبوتي والصومال وجنوب السودان أمراً واقعا، بما يتسبب بتصحر مساحات زراعية واسعة من أرض مصر ويرفع البطالة، ويقلل الإنتاج الزراعي في بلد يعاني أصلاً من شح الميزانيات، ومنهك من القروض والدين الخارجي، وبذلك سيتحول سد النهضة إلى خطر يهدد حياة ومستقبل أكثر من مئة مليون مصري يعتمدون على مياه نهر النيل.
ثانياً: مشروعي (Gap) وأورفة ونهري دجلة والفرات: بدأت تركيا في عام 1989 ببناء 22 سداً 14 منها على نهر الفرات و8 على نهر دجلة، أكبرها سد أتاتورك على نهر الفرات كجزء من مشروع (Gap) بسعة تبلغ حوالى 48 مليار متر مكعب، وكذلك سدّ إليسو العملاق على نهر دجلة. ويتضمن (Gap) أيضاً 19 محطة توليد طاقة مائية (8 محطات بقدرة 75٪ من القدرة المستهدفة تم إنشاؤها بنهاية عام 2005) وشبكة ري كبيرة على نهري دجلة والفرات، وتقدر القدرة التخزينية للمشروع بـ100 مليار متر مكعب، وهذه القدرة تمثل ثلاثة أضعاف القدرة التخزينية للسدود العراقية والسورية مجتمعة، ما أدى إلى تخفيض نسب المياه التي تدخل إلى العراق وسورية. وتذرعت تركيا بأنها دولة منبع ويحق لها التحكم بمياه النهر، ضاربة بعرض الحائط كل الاتفاقيات الدولية بشأن الأنهار الدولية التي تقسم مياه النهر الدولي بين دول المنبع، ودول المجرى، ودول المصب، كنهر الأمازون الأكبر في العالم يمر بثلاث دول: البرازيل والبيرو وكولومبيا، وكل دولة لها حصة لا تنتقص من حصص غيرها، نهر الدانوب في أوروبا يمر بثلاث عواصم أوروبية منطلقاً من ألمانيا، نهر الغانج يمتد عبر القارة الهندية وينتهي في بنغلاديش. أمثلة لا حصر لها من موارد المياه التي تتقاسمها دول الحوض والروافد والمصبات، إلا في منطقتنا، حيث المشاريع الصهيونية والتدخلات الأجنبية التي حرمت العرب من حقهم في المياه، ليصرح رئيس الوزراء التركي سليمان دميرال أثناء تدشين سد أتاتورك عام 1992: "كما يبيع العرب بترولهم، فنحن أيضاً يحق لنا أن نبيع مياه أنهارنا"، وبناء على ذلك كانت الآفاق المستقبلية لمشاريع أنابيب السلام إلى دول الخليج العربي وكيان الاحتلال الصهيوني، وقدمت بعض الدول دعما لمشروع (Gap) ومنها الولايات المتحدة الأمريكية، كندا، فرنسا، وكيان الاحتلال الصهيوني... حيث تم تصميمه بأيدي خبراء صهاينة منهم خبير الري شارون لوزوروف والمهندس يوشع كالي و67 شركة ومؤسسة صهيونية تعمل بالمشروع منذ عام 1995 وتقوم بشراء الأراضي في منطقة جنوب شرق تركيا وعلى ضفاف نهر مناوغات الذي يطمع كيان الاحتلال بشراء مياهه من تركيا تلبية لاحتياجات المستوطنات اليهودية. أما المشروع الثاني فهو مشروع سد أورفة الذي شرعت تركيا، وبمساعدة مالية من كيان الاحتلال، في بنائه، ويستطيع هذا السد حبس مياه نهري دجلة والفرات لمدة 600 يوم، أي تجفيف النهرين تماما. وبالرغم من أن مشروع (Gap) لم يكتمل بعد، فإن السدود التي تعمل حالياً، بالإضافة إلى تلك المزمع إنشاؤها ستمنع تدفق المياه إلى سورية والعراق وتهدد بمزيد من الأضرار السلبية على البلدين من تدمير الأراضي الزراعية والجفاف وانقطاع التيار الكهربائي نتيجة عدم القدرة على توليد الكهرباء من السدود العراقية والسورية، ونفوق الأسماك والثروة الحيوانية، والتصحر، ناهيك عن الغبار والملوثات الجوية، وحدوث ظاهرة الرياح الرملية، وبدأت بعض تداعيات ذلك بانخفاض منسوب حصة سورية من تدفق مياه الفرات من 500 متر مكعب في الثانية وفق بروتكول 1987 الذي تم توقيعه بين سورية وتركيا إلى أقل من 200 متر مكعب في الثانية، بالإضافة وضمن الأجندة نفسها إلى قطع المياه المتكرر من محطة علوك من قبل مجاميع العصابات الإرهابية التابعة للاحتلال التركي عن محافظة الحسكة السورية لتعطيش سكان المحافظة وبما يحفز ويعمل على انتشار الأمراض والأوبئة ويهدد حياة نحو مليون نسمة، لاسيما أن المحطة تشكل المصدر الرئيس والوحيد لتزويدهم بمياه الشرب. 
وفي الختام: حروب المياه في الوطن العربي ليست مجرد مشكلة نقص كمي في تدفق المياه العذبة فقط، ولكنها ذات أبعاد سياسية واقتصادية، فقد وصل الأمن المائي العربي إلى منعطف خطير لا يمكن تجاهله، ومن هنا تأتي ضرورة دق ناقوس الخطر بالالتفات إليه، وتشكيل قوة ردع عربي تلجم إثيوبيا وتركيا وكيان الاحتلال بشكل أساسي عن الاستمرار في تلك الانتهاكات وصياغة السياسات المتعلقة بذلك.

أترك تعليقاً

التعليقات