خاص / أحمد رفعت يوسف  / لا ميديا -
يعتبر حي ساروجة من أهم ما تبقى من مدينة دمشق القديمة، وهو أول منطقة من دمشق بنيت خارج أسوار المدينة في القرن الثالث عشر الميلادي، وهو مواجه لقلعة دمشق.
سُمّي الحي بهذا الاسم نسبة إلى الأمير صارم الدين ساروجة المملوكي المتوفى عام 743هـ/ 1342، وفي رواية ثانية تقول إن التسمية أتت من الكلمة التركية «ساريجا» التي تعني اللون الأصفر.

امتزاج الضوء بالملامح الرمادية
يتألف حي ساروجة من المحور الرئيسي وهو السوق أو السويقة، ويتفرع عن هذا المحور عدد من الحارات التي يتفرع عنها أيضاً عدد من الدروب والأزقة الثانوية، ولم تكن منطقة ساروجة تاريخياً تحتل مركز المدينة أو وسطها، فهي تقع خارج أسوار المدينة وتقع في أطرافها، لكنها اليوم تعتبر وسط المدينة تماماً.
للحي مكانة مرموقة من مدينة دمشق القديمة، وتشكل بيوته وحماماته ومساجده واجهة للفن المعماري لحقبة هامة من تاريخ دمشق، وتوصف بيوت الحي بالقصور، فالبيت من الخارج لا يلفت الأنظار بواجهته وبابه، إلَّا أنه في الداخل يضم باحة تزينها نافورة ماء في الوسط، وشجرة ليمون في إحدى زواياها، ويحيط بالباحة من جهاتها الأربع بناء من طابقين، مما يضفي أجواء يمتزج فيها الضوء والنضارة مع الملامح الرمادية والملونة المحيطة.

تنافسوا على بنائه وتخريبه
كان الحي مجالاً للتنافس بين الأمراء المملوكيين الذين تسابقوا لبناء المنشآت فيه، فشيدوا المدارس والجوامع والحمامات، التي لايزال الكثير منها قائماً حتى اليوم، وكانت المدرسة الشامية البرانية أساساً لإنشائه، ثم أخذ بالاتساع حولها تدريجياً حتى اكتمل وأصبح له سوق خاص في عهد الأمير سيف الدين تنكز، الذي مكث في دمشق طويلاً، وترجع إليه الكثير من الآثار المعمارية بهذا الحي.
تعرضت أجزاء من حي ساروجة للتخريب نتيجة صراعات الأمراء في الفترة المملوكية، ما أدى إلى دمار بعض معالمه، منها «المدرسة الشامية البرّانية» التي أعيد ترميمها، أكثر من مرة.
شهد الحي أثناء حكم الدولة العثمانية ابتداء من القرن السادس عشر الميلادي، زيادة في وفود الأعيان للسكن فيه، وحافظ على مكانته كحي راق حتى انتهاء حكم الدولة العثمانية مطلع القرن العشرين.

حي الأرستقراطية العثمانية
مع انتهاء العصر المملوكي وبدء الحكم العثماني لدمشق، أخذت ملامح الحي والسوق تتبدل، ونظراً لوقوعه خارج سور المدينة القديمة، فقد كان المجال متاحاً للتوسع فتميز بسوقه الكبير ومنازله الواسعة ومساجده الفخمة، وحماماته، فشكل امتداداً حيويا وتراثيا لمدينة دمشق تلك الأيام، وهو ما دفع رجال الدولة العثمانية إلى التمركز فيه بعد أن أجلوا العائلات المملوكية منه، وأطلقوا على الحي اسم «إسطنبول الصغرى» نسبة إلى الطبقات الأرستقراطية العثمانية التي كانت تقطنه، وجعلوا محكمتهم فيه.
من أهم المواقع والمباني التاريخية التي يشتهر بها الحي، المدرسة الشامية البرانية، التي اكتسبت شهرة واسعة، إذ كان الأمراء والعلماء يقيمون حفلات رسمية عند افتتاحها وإغلاقها.
أقيمت المدرسة المرادية البرانية في منزل الشيخ مراد علي البخاري، وجامع الورد المعروف باسم «برسباي» نسبة للأمير المملوكي برسباي الناصري، ولاتزال أبوابه مفتوحة حتى اليوم منذ بنائه قبل 600 عام.

أول قصر جمهوري سوري
مازالت الكثير من أبنية الحي قائمة كما كانت حتى الآن، منها 15 مسجداً، أهمها مساجد الورد وبلبان والصبح والقرمشي، وعدد من الحمامات منها الورد والجوزة والخانجي والقرماني، وأربعة أفران، وطاحونة، وعدد وفير من السبل والأضرحة، ومقهى إلى جانب حمّام الجوزة، وبقايا مدافن عثمانية.
يضم الحي أيضاً عدة مواقع وأبنية مهمة، منها أول قصر جمهوري سوري لأول رئيس للجمهورية العربية السورية هو الرئيس محمد علي العابد، ويتألف هذا القصر من نحو 50 غرفة، ولايزال كرسي الرئاسة موجوداً فيه، وبعد وفاة العابد قام ورثته بتأجيره للبعثة الأمريكية، وتم تحويله إلى المدرسة الأمريكية، ثم اشترى سليم اليازجي القصر وحوّله إلى المدرسة الثانوية الأهلي والتي تخرّج منها رجالات الدولة والمجتمع. ولايزال في الحي العديد من بيوت كبار الضباط العثمانيين.
كما يوجد متحف دمشق التاريخي الذي يعود تاريخ بنائه إلى القرن الثامن عشر الميلادي، وهو نموذج للبيت الدمشقي التقليدي، ويتميز بعناصره المعمارية والفنية الأصيلة، ويضم الحي كذلك مقاماً باسم الأمير صارم الدين ساروجة المملوكي، الذي دفن في القدس، وهو مقفل ويتداخل مع منزل لأحد سكان الحارة.
إضافة إلى تلك المواقع والمباني التاريخية، يضم الحي حالياً سوق «الخجا» لبيع الجلديات، والمركز الثقافي الفرنسي، وبعض الفنادق الحديثة والمحلات التجارية، كما يلتصق بـالحي سوق «البحصة»، وهو في مركز مدينة دمشق، ومتخصص في عالم الحاسوب والمعلوماتية.

احتفال سنوي
تعتبر منطقة السنجقدار جزءاً إدارياً من حي ساروجة، وهي المنطقة الممتدة من السور إلى قلب الحي وساحة المرجة، وتعود هذه التسمية إلى جذور ترتبط بالعهد الذي كانت فيه مدينة دمشق منطلق ركب الحجّ الشامي إلى الديار المقدسة في مكة والمدينة المنورة.
وكلمة السنجق تعني «العلم» والمقصود به علم النبي، ويبدو أنه كان يتألف من مجموعة من الكتب والوثائق التي تعود إلى عصر النبي (ص)، وكان يسمى «العقاب»، وكان يحفظ في دمشق، ذلك أنه انتقل إلى الأمويين ثم إلى العباسيين ومن بعد إلى الفاطميين بالقاهرة، وأعيد إلى دمشق زمن السلطان سليم الأول بعد القضاء على دولة المماليك بالقاهرة، ثم نقله الصدر الأعظم سنان باشا إلى إسطنبول، ووضع عليه حماية في غرفة خاصة من الباب العالي. ثمّ أصبح الاحتفال في دمشق بالسنجق العثماني عوضاً عن سنجق النبي.
ويكون هذا الاحتفال في اليوم الرابع من شهر شوال من كل سنة هجرية، فيخرجون «السنجق» من القلعة على جمل خاص مزدان بهذه المناسبة، ويمسك بهذا الجمل أيضاً موظف خاص بلباس هندام خاص، وكانت الجماهير تحيط بهذا الجمل اعتقاداً منهم أن لمس ذلك الجمل يجلب الخير والبركة، فيسير في مقدمة الموكب الموسيقى والمؤذنون وعموم سناجق الآليات العسكرية بدمشق، ويكون خروجهم بعد صلاة عصر اليوم الرابع من شوال من باب القلعة الغربي المعروف بِاسم باب البوابيجية في سوق ساروجة، ويكون مرورهم بمصاحبة محمل الحج في الأحياء والشوارع الرئيسية لمدينة دمشق حينئذ وإلى باب كيسان وباب شرقي، ومن بعد إلى مقام الشيخ أرسلان الدمشقي، لينتهي في السرايا، حيث يكون والي دمشق أو من في حكمه بالاستقبال.
وتكون المواقع التي يمر فيها السنجق في هذه الدورة مزدحمة، غاصة بالأهلين، خصوصاً من قدم منهم من الأنحاء السورية احتفالاً بهذه المناسبة. وبالطبع فإن أشغال مدينة دمشق تتعطل جميعها عدا باعة المأكولات.
وفي السنجقدار كانت تحفظ عوائد موكب الحج الشامي إلى حين انطلاقه إلى الديار المقدسة المعروف بِاسم «الكلار».

مطاعم ومقاه تراثية
يمكن للزائر حالياً أن يرى تناقضا غريبا في دكاكين الحي في الوقت الراهن، إذ تتنوع بين المحلات القديمة الباقية منذ بناء الحي ومازالت تبيع الأدوات التراثية والتقليدية ومازال يوجد الكثير من الحرفيين التقليديين من كبار السن، الذين مازالوا يعملون في الخياطة اليدوية وترميم الألبسة الجلدية وكل ما له علاقة بالتراثيات، ومتاجر يديرها الشباب وتتخصص في بيع كل ما له علاقة بعالم الحاسوب، والتقنيات الجديدة.
لايزال يوجد في الحي نحو 70 خانة تبدأ كلها بكلمة «ساروجة» كخانة «الديمجية» فتسمى الخانة إداريا «ساروجة ديمجية»، ومنها، «طاحون»، «ستي زيتونة»، «شماعين»، «مناخ»، «شيخ مجاهد»، «قفا الدور»، «عقيبة».
حولت الكثير من هذه الخانات والبيوت التراثية إلى مطاعم ومقاه يرتادها محبو دمشق القديمة، ولها نكهتها الخاصة ومازالت عامرة بالزوار، وكان يرتادها السياح قبل بدء العدوان على سورية.
ونظراً لشهرة الحي وتاريخه العريق فقد أقيمت مطاعم باسم ساروجة في العديد من المدن العربية والعالمية، منها في دبي وجدة والرياض وإسطنبول.