هاني عرفات

هاني عرفات / لا ميديا -
لا يمكن التقليل أو التهويل من مؤشرات انحدار العلاقات ما بين ترامب ونتنياهو، فمن ناحية الإشارات إلى هذا الخلاف فهي قوية، لكن من ناحية أخرى فإن الأمر يتعلق بخلاف ما بين الرجلين وليس البلدين. وسأحاول أن أوضح الفرق بين الأمرين لاحقاً.
من تتبع بدقة مسار العلاقة بين نتنياهو وترامب منذ إعادة انتخاب الأخير، كان لا بد أن يدرك أن الأمور تنحدر بينهما جنوباً رويداً رويداً.
بالنسبة لأنصار اليمين «الإسرائيلي» المتطرف، كانوا يعتبرون أن إعادة انتخاب ترامب رئيساً للولايات المتحدة (في وقت الحسم التاريخي هذا) هو الحلم والفرصة المنتظرة للإجهاز مرة وللأبد على الشعب الفلسطيني.
إلى حد ما، كان لديهم حق في هذا التفاؤل المفرط؛ لكنهم كانوا يرون فقط النصف الفارغ من كوب ترامب. دعونا نؤكد على بعض الحقائق في العلاقة الأمريكية - «الإسرائيلية»:
أمريكا دولة عظمى، و«إسرائيل» جزء من الأمن القومي الحيوي لأمريكا؛ لكن هذا ليس كل شيء. «إسرائيل» ليست مجرد دولة أجنبية حليفة لأمريكا. «إسرائيل» قد تكون الدولة الوحيدة في العالم، حتى من بين حلفاء أمريكا الموثوقين، التي لديها قدرة على العمل في داخل أمريكا، وبموافقة ضمنية من أمريكا نفسها، بهدف التأثير على التوجهات السياسية الأمريكية. يتبدى ذلك في كثير من المجالات. «ايباك» هو فقط رأس جبل الجليد. أما الثقل الحقيقي فتتسع قاعدته السياسية والاجتماعية والدينية والثقافية والأكاديمية، والعلاقات الخاصة إلى أبعد الحدود.
لكن هذه المنظومة لا ترى بالضرورة أن مصلحة «إسرائيل» تتمثل في ما يراه نتنياهو.
في الحقيقة أن جزءاً كبيراً من هذه المنظومة يختلف تماماً مع نتنياهو في رؤيته؛ لأن هؤلاء يريدون أن تكون مصلحة «إسرائيل» متلائمة مع مصالح أمريكا الشاملة، وليست متعارضة معها.
هذا لا يمنع أن يحدث أحياناً أن يفرض نتنياهو أجندته على الإدارة الأمريكية، في لحظات معينة حينما تكون الإدارة ضعيفة لأسباب داخلية، كما حدث في عهد بايدن، وكما حدث أيضاً في عهد أوباما.
الأمر مختلف مع ترامب، الذي يتمتع بسيطرة شبه مطلقة على تفرعات الحكم، كما أن من الصعب مهاجمة صداقته لـ»إسرائيل»، وهو الرئيس الأمريكي الذي استطاع فعلاً نقل السفارة الأمريكية إلى القدس المحتلة، واعترف بالسيادة «الإسرائيلية» على هضبة الجولان المحتلة، وهو الذي نقض الاتفاق النووي مع إيران، وهو الذي جر عدداً من الدول العربية لاتفاقيات تطبيع مع «إسرائيل»، دون أن تدفع «إسرائيل» أي ثمن في المقابل.
ترامب هو أقصى اليمين الأمريكي، وكلمته مسموعة أكثر من نتنياهو في اوساط المحافظين المسيحيين الإنجيليين، الأكثر تأييداً لـ«إسرائيل» في أمريكا.
لنعد إلى البداية. هناك اختلاف واضح في الرؤية ما بين الرجلين، وليس بين البلدين. الاختلاف يتمحور حول طريقة نتنياهو في إدارة الأمور. نتنياهو بتقدير ترامب وجزء واسع من أنصار «إسرائيل» في أمريكا، لم يعد يعمل لصالح الأجندة الصهيونية الحقيقية، بل لصالح أجندة بقائه في الحكم والهروب من السجن.
ترامب لم يكن ليمانع في ذلك أصلاً؛ ولكن ليس على حساب المصالح العليا لأمريكا و«إسرائيل». وفي الحقيقة فإنه أعطى نتنياهو عدة فرص لتحقيق ذلك والبقاء في الحكم؛ لكن نتنياهو أخفق فيها جميعاً، بل وحاول الالتفاف على ترامب للهروب من الاستحقاقات، بدل أن ينصاع لها، وهو الأمر الذي حدا بترامب لأن يقوم بعدة خطوات وتصريحات علنية، تظهر حجم الخلاف بينهما. هذا ما حصل حينما بدأ مفاوضات أمريكية - إيرانية دون إعلام الحكومة «الإسرائيلية»، وحينما توصل لاتفاق مع اليمن لا يشمل «إسرائيل»، وعندما فاوض حماس بشكل مباشر.
الاستفادة من هذا الوضع الفريد مطلوبة؛ لكن لا يجوز بأي حال المبالغة في تقدير حجم الخلاف، فهو خلاف بسبب انحراف نتنياهو عن الأهداف المشتركة لـ«إسرائيل» وأمريكا، وليس خلافاً على هذه الأهداف. كما أن نتنياهو ما زال يحتفظ بعدد من الأصدقاء في حاشية ترامب المقربة، والتي قد يسخرها لإعادة ترميم العلاقة. وبالمناسبة هم ليسوا الأصدقاء الوحيدين لنتنياهو، هناك أصدقاء عرب له أيضاً ممن سوف يلتقيهم ترامب أثناء زيارته المقررة للخليج.
كما أن نتنياهو قد يقدم على مغامرة ما، من أجل إعادة خلط الأوراق. من هنا جاء التحذير الأمريكي لـ«إسرائيل» بعدم القيام بأي مفاجآت قبيل زيارة الرئيس الأمريكي للمنطقة. 
مع الأسف، الظرف الناشئ لا يتيح المجال لوضع مقاربة سياسية لحل شامل. لكن تظل المهمة الأولى الآن هي وقف المجازر، وإيصال المساعدات لغزة، ووقف التهجير. قد يكون الثمن مرتفعاً لكنّه يستحقّ.
أظن أن حكام السعودية، وبعد التغيرات التي نشأت في المنطقة، أكثر رغبة في عودة الهدوء إلى المنطقة. وعلى أي حال فإن من المستحيل البدء في مشاريع سياسية أو اقتصادية طالما استمر العدوان على غزة.
أما فلسطينياً، فلا بد من توحيد الخطاب السياسي على أقل تقدير. على الجميع أن يدرك أنه لم يعد هناك مجال لنجاة فردية، وأن نتنياهو سوف يغرق ويُغرق من يركب معه في القارب نفسه.
ترامب يفضل أن يتعامل مع من يمتلك القوة على الأرض. وكما رأينا قبل ذلك، فإنه على استعداد لتجاوز الخطوط الحمراء، إذا ما رأى هناك مصلحة له في ذلك. حصل ذلك حينما التقى الرئيس الكوري الشمالي، وعندما طرد زيلينسكي، وعندما توصل لاتفاق مع اليمن، وأيضاً حينما حاور حماس بشكل مباشر.

أترك تعليقاً

التعليقات