د. علي مطر

د. علي مطر / #لا_ميديا -

تشهد منطقة الشرق الأوسط أطوارا جديدة من التبدلات والتحولات في العملية السياسية، التي تسير في حقل ألغام التجاذبات، مترافقة مع تصعيد أمني وعسكري يخلط الأوراق ليس في سياسة المنطقة وملفاتها المعقدة فحسب، بل في مجمل خارطة العلاقات الدولية، لتبعثر الأحجار على طاولة شطرنج لعبة الأمم.
لقد شكلت عملية اغتيال اللواء الشهيد قاسم سليماني، والرد الإيراني عليها، نقطة تحول محورية في الصراع بين واشنطن وطهران، وباتت تداعياتها مفتوحة على كل الاحتمالات والسيناريوهات التي تعيد خلط الأوراق وتعديل شكل الترتعيبات الأمنية والسياسية، والتي على ما يبدو ستؤدي إلى تراجع أميركا وخسارتها لملفات عدة في المنطقة، من العراق إلى سوريا واليمن، بحيث إنها تتدحرج كأحجار الدومينو.
أولا: مفاعيل الرد الإيراني
بدأت مفاعيل الرد الإيراني على قاعدة عين الأسد ترسم معالم وآفاق المواجهة المقبلة بين واشنطن وطهران، والتي وإن كانت لا تشي برغبة الجانبين في الذهاب نحو حرب مفتوحة، إلا أنها باتت ترسم خارطة طريق ترهّل القوة الأميركية في الشرق الأوسط، وخسارة معركة كبرى في الحرب الهجينة التي تشنها واشنطن على الجمهورية الإسلامية الإيرانية، وصولا إلى مرحلة جديدة تقررها إيران وحلفاؤها في محور المقاومة، تنطلق فيها من مشروعية مواجهة الاحتلال الأميركي في المنطقة، وتوجيه البوصلة نحو إخراجه منها. وقد لفتت صحيفة «واشنطن بوست» في مقال لها حول الرد الإيراني على «عين الأسد» إلى أن من المؤكد أن الضربات الإيرانية على المصالح الأميركية وحلفائها سوف تستمر في الأشهر المقبلة.
وقد ورد الكثير من التحليلات حول الرد الإيراني وقراءته منذ حصوله، وهناك نقاط عدة يمكن الإشارة إليها والبناء عليها، من أجل الوصول إلى استشراف المرحلة المقبلة وأحداثها:
1ـ تكمن أهمية الضربة الإيرانية في أنها أتت بشكل مباشر لقواعد أميركية في العراق، على الرغم من أن إيران تصدت لغطرسة أميركا سابقا، تارة بإسقاط طائرات التجسس وأخرى في المواجهة في مياه الخليج وغيرها من المواجهات غير المباشرة.
2ـ لم يتوقع الباحثون الأميركيون ردا قريبا على الاغتيال على الرغم من حالة الاستنفار القصوى في صفوف الجيش الأميركي تحسبا لأي رد. كما لم يتوقعوا أن يكون الرد الإيراني موجها بشكل جدي ضد القوات الأميركية، معتبرين أن الرد سيطال حلفاءهم.
3ـ توقع بعض الباحثين، مثل سايمون هندرسون في معهد واشنطن للدراسات، أن تتراجع طهران وتخاف على نظامها ومفاعيل ثورتها الإسلامية بعد اغتيال سليماني، فيما رأى دينس روس أن السيد علي الخامنئي أكثر حرصا من أن يندفع ويتخذ تدابير إيرانية مباشرة تستفز ردود فعل عسكرية صارمة. وهو توقع بشكل أكثر واقعية أن يتمثل التحدي بالنسبة إلى إيران في بذل القدر الكافي من الجهد لإظهار أنها تفرض دفع ثمن باهظ مقابل اغتيال سليماني من دون أن يؤدي ذلك إلى اندلاع حرب أكثر مباشرة مع الجيش الأميركي.
4ـ لقد تجرأت دولة لأول مرة أن ترد على أميركا بشكل علني وتستهدف قواعدها بعد الحرب العالمية الثانية. وبحسب صحيفة «الغارديان» البريطانية فإن الهجوم الإيراني يمثل أكثر الهجمات الإيرانية مباشرة على الولايات المتحدة منذ الهجوم على السفارة الأميركية في طهران عام 1979، وأول هجوم مباشر على قاعدة أميركية.
5ـ لقد استطاعت إيران أن تصدع الهيبة الأميركية لتبدأ فيما بعد مرحلة تنذر بحرب استنزاف للأميركيين حتى خروجهم من المنطقة، بشكل يثبت أن إيران دولة تتعامل بندية مع واشنطن.
وعلى الرغم من محاولة الإعلام التابع لواشنطن التقليل من أهمية الرد وحجم الخسائر، وهو ما حمله خطاب دونالد ترامب نفسه، إلا أن ما حصل سيحدث دون أدنى شك تغيّرا في قواعد الاشتباك ومعادلة الردع في المنطقة، وبدء واشنطن التقليل من وجودها في المنطقة وصولا إلى إقفال العديد من قواعدها. وما يزيد من احتمالات ذلك هو طلب الرئيس الأميركي دونالد ترامب من حلف شمال الأطلسي لعب دور أكثر تأثيرا في الشرق الأوسط، ليقلل من الاعتماد على الجيش الأميركي، وهو بحسب ما ترى «واشنطن بوست»، يشير إلى احتمال الانسحاب من المنطقة، خاصة أنه يفتقر لأهداف أو استراتيجية واضحة في الشرق الأوسط.
ثانيا: تداعيات العملية وآفاق المرحلة
يمكن القول مما تقدم، إن التطورات المتسارعة للتصاعد الحاد في النزاع بين أميركا وإيران، تشير إلى أن مسار المنطقة بدأ بالتبدل، فما قبل اغتيال سليماني ليس كما بعده، وستشهد منطقة الشرق الأوسط إعادة تموضع جديد للقوات الأميركية، وانطلاق مسار جديد يؤدي إلى تبدل موازين القوى، بشكل لم تشهده المنطقة منذ عام 1991 بداية دخول أميركا إلى المنطقة عبر عملية «عاصفة الصحراء»، ثم وصولها إلى ذروة القوة بعد احتلالها أفغانستان عام 2001، ثم العراق عام 2003، انطلاقا من أهمية الجغرافيا السياسية لهذه المنطقة، حيث يعتبر الشرق الأوسط قلب العالم القديم ومن يسيطر عليه يفرض سيطرته في العالم. وعليه سيكون جزءا من الثمن الذي سيسعى الإيرانيون إلى فرضه على واشنطن هو سياسيا يؤدي إلى انتصارهم في لعبة شطرنج الإقليم، وذلك نتيجة تهور واشنطن التي زرعت -وفق ما تحدثت تقارير غربية- بذور عدم الاستقرار في المنطقة، حيث أطلق اغتيال اللواء سليماني العنان لمرحلة جديدة في المنطقة. وهنا يرى دانيال بايمان، الاستاذ في جامعة جورج تاون والباحث المتخصص في قضايا الشرق الأوسط في مركز بروكينغز، أن «اغتيال سليماني سيشكّل على الأرجح، نقطةَ تحوّل في علاقات واشنطن مع العراق وإيران وسيؤثر بشكل كبير في موقع الولايات المتّحدة الإجمالي في الشرق الأوسط»، معتبرا أن «الولايات المتحدة بقتلها سليماني، ستواجه مأزقا على الأرجح. إذ يمكنها البقاء في الشرق الأوسط مع انتشار محدود نسبيا لقواتها في العراق وسوريا وأفغانستان فتغدو ضعيفة إزاء الهجمات الإيرانية، أو بإمكانها التخفيف أكثر من حضورها العسكري في وجه التهديد الإيراني وإبقاء قواتها معزولة، فتُضعِف بذلك نفوذها وتمنح إيران المزيد من السلطة في المنطقة». كذلك تشير صحيفة «الغارديان» إلى أننا «لن نعرف التأثير الحقيقي لاغتيال سليماني لشهور أو ربما سنوات»، مؤكدة أن «اغتيال سليماني جعل الانسحاب الأميركي من العراق أمرا حتميا، وإن لم يحدث في القريب العاجل».
إذن، إن العنوان الأساسي للمرحلة الحالية بات يتمحور حول تصدع هيبة أميركا في المنطقة، وإعادة رسم خريطة القوى فيها، وهذا ما سينعكس في مشهد أعم على مجمل العلاقات الدولية ويبدأ في إحداث تبدلات في النظام الدولي بشكل أوسع، بعد دخول الشرق الأوسط برمته في حالة اللااستقرار والاستنزاف للقوات الأميركية، مما يعني أن مصالح واشنطن وحياة جنودها ستبقى تحت التهديد الأكيد في مناطق عدة، حيث يتقدم المشهد حاليا فرضيات الانتقام وإبراز القوة في الميدان، وابتعاد الخيارات الدبلوماسية، وتأخير أية مفاوضات أصبحت واشنطن تسعى إليها أكثر من ذي قبل.

أترك تعليقاً

التعليقات