تريم.. الخطر القادم من البحر
- تم النشر بواسطة صحيفة لا / طلال سفيان

الصوفية والمشروع السعودي.. تيارات في دائرة الصراع
تريم.. الخطر القادم من البحر
باتت الصحراء والوادي بحضرموت، هدفاً جديداً لمسلحي تنظيم القاعدة الذي يسيطر على مدينة المكلا عاصمة المحافظة منذ الثاني من أبريل الماضي وتصاعدت وتيرة استهداف معاقل النور والسلام من قبل القاعدة وداعش بشكل لافت خلال الأشهر الماضية، ما يجعل استقرار حضرموت النسبي على المحك، ويضع التعايش الذي تعرف به المحافظة أمام امتحان صعب.
قبل فترة قصيرة, أعلن أحد عناصر التنظيم في محاضرة له، عزم التنظيم هدم معاقل للصوفية، وحثّ على المشاركة في هذه العملية، من خلال تجنيد متطوعين لها. في هذا الاتجاه، قام مسلحون من التنظيم منتصف يونيو الفائت، باقتحام فعالية (حضرة) تقام كل عام في أحد الأربطة الدينية التابعة للصوفية، كما أغلق التنظيم ضريحي (المحجوب وبازرعة) المشهورين، واللذين يرتادهما المتصوفون، ويعود تاريخهما إلى مئات السنين.
وفي مدينة الشحر، فجر مسلحو التنظيم الإرهابي في 28 يونيو الماضي، ضريح حمد بن صالح, فاستهداف هذه الرموز التاريخية سيدخل المحافظة في أتون الصراع المذهبي, ففي حضرموت وخصوصاً في المكلا وسيئون وتريم، تنتشر مئات المعالم التاريخية التي تعود إلى رموز وعلماء دين، وتقام حولها فعاليات خاصة، وبقيت لمئات السنين من دون أن تتعرض لأي سوء.
بالإضافة إلى سلسلة عدوانها المستمر على الكثير من الأضرحة والمقامات والمعالم التاريخية في محافظة حضرموت, فقد أقدمت مجاميع مسلحة من العناصر المتشددة، خلال شهري سبتمبر وأكتوبر الماضيين، على هدم عدد من الأضرحة والمعالم الإسلامية التاريخية في مناطق متفرقة بمدينة المكلا عاصمة المحافظة.
مجاميع تنظيم (عقال الحسبة) اقتحمت عدداً من المساجد والقباب التاريخية الشهيرة، أبرزها (قبة يعقوب) الواقعة بحي الشهيد خالد، ومحيط مسجد عمر، و(قبة المحجوب)، الواقعة بحي السلام بالمدينة، وقامت عناصر القاعدة بنهب محتويات القباب وهدم وتحطيم كل المقامات التاريخية الإسلامية.
فمنذ سيطرته على عاصمة المحافظة مطلع أبريل, وعلى مديرية الشحر قبلها, أعلن التنظيم عن اعتزامه تنفيذ حملة هدم لهذه القباب التاريخية والأضرحة؛ تحت ذريعة (محاربة الشرك والبدع)، وهو ما دفعهم في ضوئها لتفجير (قبة الحبيب حمد بن صالح) الواقعة في قرية الواسط بمديرية الشحر بساحل حضرموت، في 28 يوينو الماضي، وقبة الشيخ مزاحم في بروم.
عمليات هدم المعالم الدينية والتاريخية في حضرموت وعدن ولحج وتعز, تزايدت وتيرتها نتيجة حالة الانفلات الأمني غير المسبوق في هذه المحافظات، والسيطرة عليها بشكل شبه كلي من قبل ما يسمى المقاومة الشعبية واللجان الموالية لعبد ربه منصور هادي وحكومته المدعومة من قبل الغزاة الإماراتيين والسعوديين, وأصبح استهداف الرموز الممثلة للإسلام المعتدل الحقيقي هدفاً للمحو.
ففي مدينة عدن الواقعة تحت قبضة الاستعمار الخليجي الأمريكي الجديد, اغتيل الشيخ العلامة علي عثمان محمد، شيخ الطريقة القادرية بمحافظة عدن، وذلك على يد القاعدة (ذراع قوى تحالف العدوان على اليمن)، أثناء خروجه لأداء صلاة الفجر في 4 يناير الجاري.. في هذا الإطار، اغتالت أذرع المشروع السعودي في 19 يونيو الفائت، إمام جامع في مدينة شبام شرقي محافظة حضرموت، الشيخ حسين عبد الباري العيدروس، وهو متصوّف، وذلك قبيل توجّهه لأداء صلاة التراويح.
كوبونات حارقة
تدخل على المشهد اليوم سيناريوهات جديدة, صراع ما بين القاعدة وتنظيم داعش في السيطرة على مديريتي الصحراء والوادي في حضرموت, لمن ستكون الأفضلية عند الشيخ محمد بن عبدالوهاب والعم سام؟ ومن سيحظى بالدعم والثقة؟ القاعدة أصبحت تملك نطاق مديريات الساحل بعد لعبة سريعة مع قبائل حلف الخيانة, كما لا يتوانى سياسيون هم في الأساس من أبناء حضرموت في التمادي في خيانة وطنهم لصالح المشروع السعودي, كـ: بحاح والعطاس والبيض والجفري وابنه الحبيب, ويفضل بالمقابل متصوفو حضرموت، بحسب الشواهد، الابتعاد عن الحديث السياسي، حتى وإن كانوا من يكتمون الغيظ أمام هذا المشروع كـ: عمر بن حفيظ, ويحذر غالبية مشائخ التيارات هناك من المشاركة في الفعاليات السياسية، وينأون بأنفسهم تجاه أي موقف.
ولم تتوان السعودية منذ انطلاق مسيرتها المدمرة عن طمس الهوية الحضارية والدينية, فمنذ 150 عاماً طالت آلتهم المدمرة المزارات والآثار الإسلامية في اليمن ضمن حملتين استهدفت فيهما المعالم التاريخية لليمن ابتداء من حجة وزبيد ووصاب وتعز حتى مشارف حضرموت التي باتت اليوم هذه المنطقة التاريخية في نطاق سرطان مدمر لا يرحم.
اليوم ومع تدشين حملتهم الوهابية الثالثة, تستمر حكاية الغل التاريخي عبر الآلة الداعشية القاتلة لكل المقومات التاريخية/ الحضارية.
لازالت الآلة المدمرة لهذه العصابات المتطرفة تعبث وتدك كل ما تجده في طريقها, وتعتبر حضرموت عاصمة التصوف في العالم الذي يمتد تاريخه لأكثر من ألف عام. . إن الحقد المرضي للوهابية، والذي ظهر بأبشع صوره في العدوان على اليمن، والذي مضى عليه 10 أشهر، يعيد نفس التاريخ الذي مرت به جزيرة العرب، عندما محت النسخة الأصلية لـ(داعش) كل آثار الحضارات في بلاد الرافدين والشام وليبيا.
تدعم السعودية وبشكل مخيف هذه الجماعات المتطرفة لهدم الرمزيات الثقافية التاريخية، وهذه الجماعات تنشط في اليمن منذ عقد الخمسينيات من القرن الماضي, ويرتكز المنهج الوهابي النجدي العدواني على ممارسات يدّعون أنها من أصل الدين وركائزه، لكنها تعود لممارسات جرت منذ ثلاثة قرون. إن التطبيقات الجديدة لأحكام القتال القديمة تعود مجدداً عبر المنهج السلفي الأساس الفكري للوهابية كممارسة دينية واجتماعية.. لقد أصبح ضحايا هذا الفكر يناهزون بل ويتجاوزون ضحايا الفاشية والنازية بالأرقام والفظائع، دول وشعوب وقوميات وإثنيات وطوائف تتعرض للدمار والخراب والحرق والموت.
الغنَّاء.. منارة العلم والسلام
يبدو أن الخطر القادم من الخارج بات على مسافة قريبة من وادي حضرموت.. هذا الوادي الغني بالسكان والتاريخ, هنا في الوادي تسكن في الأعماق مدينة تريم الغنَّاء التي يرجع تاريخها الى القرن الرابع قبل الميلاد، حيث كانت عاصمة حضرموت القديمة ومقر ملوك كندة قبل ظهور الإسلام، وتشتهر بكثرة مساجدها حيث يبلغ عدد المساجد نحو 360 مسجداً، وهو على عدد أيام السنة، وكذا تشتهر بالعلم وعلماء الدين, واختيرت المدينة عاصمة الثقافة الإسلامية عام 2010م من قبل المنظمة الإسلامية للتربية والثقافة والعلوم (الإيسسكو).
تقع مديرية تريم في الجزء الشرقي لمحافظة حضرموت، وهي أقرب إلى منطقة وسط وادي حضرموت (حيث التجمعات السكانية والأراضي الزراعية والمعالم الأثرية والدينية), وتبعد عن سيئون الواقعة بشرقها بمسافة 34 كم.
وتعد مدينة تريم عاصمة وادي حضرموت الدينية، حيث كانت ولا تزال مركزاً يشع منه نور العلم والمعرفة، ومركز إشعاع ديني منذ ظهور الإسلام، وبدأت الرحلات لنشر الدين الإسلامي من هذه الأراضي في نهاية القرن الخامس وبداية القرن السادس هجري.
تريم قبلة لكثير من أنصار التصوف وطلابه الذين يفدون إليها من أنحاء شتى من العالم
وكان طلاب العلم يتوافدون من المناطق اليمنية والدول المجاورة والشرق الأقصى وشرق أفريقيا إلى (تريم)، فهي بلد العلم والروحانية، حيث ساعد على ذلك كثرة علمائها وزواياها العامرة بالتدريس.
ساهم أهل هذه المدينة بنشر الدين الإسلامي في العالم، وخصوصاً جنوب شرق آسيا والهند وأفريقيا، وذلك من خلال هجرتهم وتجارتهم في تلك البلدان.
تشتهر تريم بالعديد من المنارات التنويرية والتاريخية، ومن أهمها:
مسجد المحضار: ويعتبر من أهم معالم مدينة تريم، الذي بناه عمر المحضار، وصمّم مئذنته الشّاعر أبو بكر بن شهاب، والتي يصل طولها إلى ١٧٥ قدماً، وقد بُنيت قبل ١٠٠ سنة، وهي أطول مئذنة طينيّة في العالم.
مكتبة الأحقاف: مكتبة أثرية تهتم بجمع المخطوطات، وتصنف ضمن أكبر المكتبات في اليمن.
دار المصطفى للدراسات الإسلامية: تأسست عام 1994م, وتمتلك دار المصطفى فرعاً آخر، وهو دار الصفا بالعاصمة صنعاء, ويتبع دار المصطفى عدد من المدارس، والأربطة التابعة لها، والمنتشرة في الداخل والخارج، وقد أسسها طلاب تخرجوا منها، مثل الفروع الموجودة في إندونيسيا وشرق أفريقيا.
وتوجد أيضاً في مدينة (تريم) دار الزهراء، وهي شبيهة بدار المصطفى، ولكنها خاصة بالنساء.
كلية الشريعة: وتنتمي هذه الكلية إلى (جامعة الأحقاف)، وتدرس في مناهجها الرسوخ العلمي وتأصيل مسائل العقيدة والتوحيد في الشريعة.
مراكز الأبحاث والمكتبات العلمية الضخمة والمنتديات الثقافية والحلقات العلمية ودور النشر, ومن أشهرها دار العلم والدعوة، ومركز النور، ودار الفقيه للنشر والتوزيع، و(تريم) للدراسات والنشر، ودار المقاصد.. وغيرها.
رباط (تريم): وهو من أقدم هذه المدارس وأعرقها في المدينة، ويقع هذا الرباط التنويري في قلب مدينة (تريم)، والذي أنشئ قبل 130 عاماً، وفيه طلاب من داخل اليمن ومن شتى البلاد الإسلامية، مثل: إندونيسيا وماليزيا وسنغافورة وأفريقيا والصومال والحبشة ودول الخليج.
معلامة أبي مريم لتحفيظ القرآن الكريم: أنشئت في القرن الـسادس الهجري، والتي تعد من أهم المراكز العلمية القديمة التي لازال نشاطها مستمرا حتى اليوم.
تعد الصوفية في الواقع المعاصر وبلاد اليمن إحدى الجماعات والحركات الإسلامية التي لها فلسفتها الدينية العلمية.
تأثرت الطرق الصوفية في اليمن بطقوس الفرق الكبرى المشهورة التي ظهرت على سطح الوطن العربي والعالم الإسلامي، وقد أورد الحبشي في كتابه (الصوفية والفقهاء في اليمن) أسماء عدد من الطرق أو الطوائف الصوفية المحلية النابعة من البيئة المحلية كالأهدلية، والجبرتية، والحدادية، والعيدروسية التي لها وجود في منطقة تهامة وحضرموت وعدن، وقد ذكرها مقابل الفرق وطرق الصوفية الكبرى التي دخلت اليمن كـ (القادرية، الشاذلية، المغربية، الرفاعية، السهروردية والنقشبندية).
ظلت الصوفية اليمنية محتفظة بملامحها الخاصة بها التي تلائم بيئتها المحلية, فدعوة التصوف في (تريم) تمتد جذورها إلى مئات السنين - الدعوة التي تأصَّلت وترسَّخت وتربَّت عليها الأجيال جيلاً بعد جيل.
وتمثل (العلوية) النموذج المحلي الأبرز لهذه الطرق، فطريقة (سادة آل باعلوي) كما يقول المؤرخون تتفق مع غيرها من الطرق الصوفية الشرعية في منهجها الروحي العام المرتكز على العلم والعمل والسلام, فالفقيه المقدم محمد بن علي باعلوي (574هـ -653هـ) نزع السلاح بل وكسر سيفه ودعا قولا وفعلا إلى نزعه ليقضي على العقيدة القبلية، وبرهن فعلا على وجوب التعايش السلمي والأخوة الإسلامية والمذهبية والوطنية بين قبائل الشعب وقطاعاته، وعلى أن سلاح العلم والإيمان والأخلاق هو أقوى الأسلحة في المجتمع وأمضاها في قيادة الأمة.. أراد الفقيه المقدم القضاء على الشر من جذوره، واختار طريقة التصوف المعتدل, وحمل بيده العكاز الذي يرمز إلى التصوف بدلا عن السيف الذي يرمز إلى النهب والسلب والإجرام وطلب الحكم والثأر والانتقام، بعد أن تقلده حتى في مجالس العلم وفقا للتقاليد المتبعة برهة من الزمن، ثم نبذه للأسباب المارة، لأنه لا يريد أن يكون زعيما قبليا ولا حاكما سياسياً.. وأثرت دعوة المقدم في الأوساط الحضرمية إلى نزع السلاح واعتناق التصوف، وتبعه على ذلك قومه العلويون وغيرهم، وفي مقدمتهم كثير من عرفوا في ما قبل وفي ما بعد بالمشائخ، ولم يعودوا يخشون التعيير بالجبن ما دام قد سبقهم إلى ذلك الفقيه المقدم.
فالفقيه المقدم بعمله هذا أقام الدعائم للسلام في كثير من المدن والقرى الحضرمية، وصرف جانبا كبيرا من أبناء الشعب عن الاشتراك في الفتن والحروب الأهلية إلى حياة العلم والثقافة والتصوف والإصلاح والكسب الحلال حتى أصبح ذلك منتشرا بينهم أكثر من ذي قبل، وعم معظم قطاعات الشعب.
ساهم العلويون ومنذ قدوم جدهم الأول السيد أحمد بن عيسى بن محمد النقيب بن علي العريضي بن جعفر الصادق، سنة 318هـ، ولعبوا دوراً هاماً في إنهاء المذهب الإباضي (أوائل القرن الثاني الهجري، التي قامت على يد عبد الله بن يحيى الكندي)، وأحيوا السنة النبوية, وفي القرن السابع بدأت أفواج الهدى العلوية تتوجه إلى أفريقيا وآسيا، وحملت معها مشاعل النور والهداية الإسلامية على أيدي هؤلاء الدعاة الحضارمة الحسينيين.
وكانت ولا زالت تريم بوصلة للنور التي يتوجه لها الألوف من طلبة العلم من جميع أنحاء العالم، لكنها اليوم وبعد أن كسرت سيف المقدم، أصبح عنقها معرضاً للذبح من قبل سيف لا يؤمن بالرحمة والسلام.
المصدر صحيفة لا / طلال سفيان