من شيكاغو الصحراء.. ومنهاتن الوادي
بدوي.. حالة أخرى


الغناء غذاء الروح، ومرتع القلب، تحنّ إليه النفس، وتستجيب له المشاعر. 
حتى الطيور والبهائم، تطرب الى الصوت الحسن والجميل.
وما من أحد إلا ويرتاح قلبه وتهتز جوارحه وتصفو نفسه بسماع الصوت الحسن.
الفنان الكبير المرحوم بدوي زبير، فنان بحق، مبدع بحق، وكيف لا يكون كذلك وقد ترعرع في ثنايا التراث الحضرمي الأصيل، ونشأ في وادٍ تنبت في جنباته الأصالة والإبداع، وتربّى تحت ظلال أول ناطحات سحاب شيدها الإنسان من الطين واللبن..
(شبام) شيكاغو الصحراء.. منهاتن الوادي.. مدينة التاريخ، مدينة النعيم والتسامح الديني. أحب بدوي زبير مدينة شبام حباً صادقاً، وتشبث بها كطفل تشبث بأمه بحنان، أحب شبام لأنها بالنسبة له كل شيء، فهي مسقط الرأس، ومرتع الصبوات، وينبوع لكل ذكرياته الغالية المرهفة، المنمقة بالخير والجمال، وقد لا أبالغ إن قلت إن القدرة الحسية لدى الفنان المرحوم بدوي زبير، تعطي للبحار أنين المتوجع. 
حيث كانت الأيدي تصفق له بحرارة، وكانت خيالات من يسمعه يغني تسافر مع نغمات أوتاره، فتطوف بخياله في فضاء رحب ممتلئ بنفحات الحب والصبابة.
تربع الزبير على عرش الغناء الحضرمي الأصيل، وأقام حفلاته الفنية داخل الوطن وخارجه، بدايةً من عام 1973م.
لقد أتقن الفنان المرحوم بدوي زبير جميع ألوان الغناء اليمني، من اللون الصنعاني، واللون اللحجي، واللون العدني، كما تفنن في أداء الألوان الغنائية المشهورة في حضرموت، كالدان والعوادي والبدوي وغيرها.
 وإلى جانب موهبة بدوي زبير الفنية، فقد كان يمتلك ذاكرة قوية تحفظ الألحان والكلمات من الوهلة الأولى، كما كان شاعراً وملحناً يسير على نهج أو منهج الشاعر الكبير المرحوم حسين أبو بكر المحضار، فمن ألحانه أغنية (ما نسيناكم)، وهي من كلمات الشاعر المرحوم محمد عمر بن طالب، وأيضاً أغنية (سلام للحامي)، وهي من كلمات الشاعر محمد عمر باعباد. كما أن من أغانيه المعروفة (لا ملامة على من يحب)، (ما با تحصل بديل)، (ابن آدم يشوف العيب لي في صاحبه)، (وداعاً يا سماوات المحبة)، (وينك انته وينك)، وغيرها الكثير من الألحان والقصائد الغنائية المغناة.
إن المرحوم بدوي زبير مغني الأجيال، ولن يتكرر، فهو يمثل حالة منفردة كظاهرة عجيبة وغريبة. 
وما أثار اندهاشي أنه في كل عمل أحبه وتولعت به أنامله أو انشغل به تفكيره، أتقنه سواءً أكانت حرفة أم صنعة أم موسيقى. 
كما أن إبداعاته لم تقتصر على الغناء والعزف وصياغة الكلمات وحياكة الألحان فقط، بل تعددت وتنوعت أكثر من ذلك، فقد تحولت تلك الإبداعات الى عصافير تغرد وتزغرد في الساحات والبيوت، فمنحوتاته لاتزال تزين بعض المنازل التاريخية بمدينة شبام، أضف الى ذلك أنه إيقاعي مميز وراقص متميز...
كما أن الشاعر الكبير المرحوم حسين أبو بكر المحضار، بحدسه العميق وبمنظاره القويم، لاحظ ما يتمتع به المرحوم بدوي زبير من إمكانيات صوتية وقدرات لا توجد في غيره، فارتبط به ارتباطاً فنياً وثيقاً، وشكل معه ثنائياً رائعاً... كيف لا! وقد خاطب المحضار بدوي عندما قدم من حضرموت الى جدة بالمملكة العربية السعودية، فأخذ المحضار يسأله عن حال أهل حضرموت، حيث قال:
أيش أخبار لي من عندهم جيت يا بدوي
عاد أصواتهم في الحيد موجب زمن تدوي
لي ليالي ولي أيام وانا ما سمعت الصوت
كل شي يقتبل إلّا فراقش يا بلادي حضرموت
....
كما خاطب الشاعر الكبير المرحوم حسين أبو بكر المحضار، المرحوم بدوي زبير، يحذره من تركه مسقط رأسه مدينة شبام.. شبام التاريخ والحضارة والتراث.. ويحذره من الجلوس في الغربة بعيداً عن الأهل والخلان، فهذا الحرص الشديد من شاعر كبير بفنان قدير يدل على عمق العلاقة بينهما، فهي ليست علاقة فنية سطحية فقط، أو صحبة عابرة، بل كانت علاقة (قلب ونبض)، علاقة أخ بأخيه، حيث خاطب المحضار بدوي قائلاً له:
..
حذاري تخدعك الأوهام
أنا وأنت الى قدام
طريق الخلف والله ما عرفناها 
أين تكون أين تكون
أين تكون.. يا المظنون
وهذي الأرض ياما ناس مثناها
يتلوّون.. يتلوّون يا المظنون

حذاري تخدعك الأيام 
تصوّر لك قسم بشبام
شبام العالية كلين يهواها
في ذا الكون.. في ذا الكون يا المظنون
إن طموح الفنان الكبير المرحوم بدوي زبير جعله يمارس الإبحار بعيداً دون الخوف من الأمواج التي لا تخيف عادةً سوى أصحاب الأجنحة المكسورة والأقدام المرتعشة، ليصل في أقرب وقت الى حيث ما وصل إليه الفنانون الكبار.
إن بدوي يمثل أحد الجسور المهمة للأغنية التقليدية الحضرمية واليمنية بشكل عام، فصوته ذو مقومات فنية عالية ورائعة. كما أن لصوته قدرة عجيبة على مخاطبة الوجدان والمشاعر، فهو مليء بالشجن والعاطفة الجياشة، فعند سماعه يهتز الفؤاد ويبكي، وتنهمر الدموع دون استئذان لما فعله صوت (بدوي) في الروح. 
الحديث عن المشاركات الفنية للمرحوم بدوي زبير يحتاج الى مجلدات، وليس مجلداً واحداً، منها أول مشاركة له جماهيرية بحضرموت الساحل بمدينة العشق والجمال (المكلا)، كانت مع افتتاح جسر المكلا عام 1973م. كما أن أول تسجيلات للمرحوم بدوي زبير كانت بمنزل المرحوم حسن بن طالب.
كما شارك المرحوم بدوي زبير، عام 1982م، في مهرجان الفاتح في العاصمة الليبية (طرابلس)، في جلسة يمانية حضرها رئيس المجمع اللغوي الموسيقي في الجامعة العربية. شارك مع الفنانة أمل كعدل، والفنانة فتحية الصغيرة، والفنان أنور مبارك، وأبو بكر سكاريب. وكان ختام هذه الجلسة (مسكاً) عندما شدا المرحوم بدوي زبير برائعة الشاعر المرحوم عبدالله محمد باحسن، أغنية (يشوقني برق).
وفي نفس هذا العام وصل المرحوم بدوي زبير الى عدن، وقدم عدة نصوص لتسجيلها للإذاعة المركزية والتلفزيون، وفعلاً سجل ثلاث أغانٍ هي (ذا فصل ضاعت حمامه)، (جاء السرور)، (سباني مهفهف). كما استغل البعض وجوده وأقاموا الجلسات الفنية الأصيلة.
كما أن له عدة تسجيلات في إذاعة وتلفزيون صنعاء، وإذاعات عدن والمكلا وسيئون، ولازالت تحتفظ تلك الإذاعات بالتسجيلات، وغيرها الكثير من المشاركات داخل الوطن وخارجه، والكثير من اللقاءات الصحفية مع عدة صحف منها (الأيام) و(الفنون) وغيرهما الكثير.
إن مشاركات الفنان المرحوم بدوي زبير كثيرة ومتنوعة داخل الوطن وخارجه، وما هذه الأسطر المتواضعة إلا ومضة عن بعض مشاركاته رحمه الله.
وقد وجهت له دعوة خاصة من المعهد العالي للموسيقى في ولاية نيويورك الأمريكية، وكالعادة وعلى خشبة المسرح، وبحضور حشد غفير، قدم أجمل المعزوفات اليمنية والأغاني الحضرمية المشهورة. كما سجل للتلفزيون الألماني، عام 1992م، ثلاث أغانٍ، واستضافته إذاعة مونت كارلو أثناء زيارته للولايات المتحدة الأمريكية. كما تلقى دعوات مماثلة من دول أوروبية كفرنسا وإيطاليا، لإحياء حفلات تحمل الصفات اليمنية، إلا أن طائر الموت الأسود اختطفه في 18 نوفمبر 2000م. 
إن الفن اليمني فن أصيل غني بتراثه وأصالته وإيقاعاته الفنية الجميلة... إن الفنانين الذين ظهروا مؤخراً في الساحة الفنية اليمنية قد استمدوا الكثير من التراث الفني العريق، فغنوا الأغاني التي سحرت الأجيال الماضية والحاضرة، وستظل تسحر من الأجيال القادمة، فالفن اليمني فن متجدد.
كما أن حماية فننا العريق يجب أن تتوفر، وهذه مسؤولية الجهات الرسمية، وأيضاً التجمعات النقابية المختصة.
وبالرغم من أن هناك سطواً على الأغنية الحضرمية على وجه الخصوص، إلا أنها أعمالنا، ولن يستطيع أحد أن يأخذ منها نغمة واحدة، فنحن نرقب ونتابع أولئك الذين يحاولون أن ينسخوا أغانينا وألحاننا.
وقبل هذا وبعده، فقد عاش بدوي محبوباً، ودوداً، متواضعاً، سمحاً، رحب الصدر، حنوناً يعطف على المحتاجين، يكرم البسطاء والمساكين، حسن المعشر، وفياً. 
وأختم بمقالة الفنان الكبير أبو بكر سالم بلفقيه عن المرحوم بدوي زبير، حيث قال: (لقد استمعت كثيراً لهذا الفنان، واستمتعت بصوته وأدائه الجميل المتميز، ولا أعتقد أن اليمن وحضرموت تحديداً ستعوض مثل هذا الفنان).. رحمه الله رحمة الأبرار وأسكنه الجنة دار القرار.