انقلاب مضى وآخر يأتي
إمبراطور تركيا يحصد الخوازيق


نجح الانقلاب أم تم إفشاله، أياً كانت النتيجة، فإن تركيا موعودة بعواصف عاتية عمودياً وأفقياً على مستوى النظام والشارع.. قبيل منتصف ليلة أمس الأول، غادر عسكريون من الجيش التركي قمقم الشلل الذي زج بهم أردوغان فيه، وفي لحظات كانوا يسيطرون على مقر رئاسة الأركان ومقرات الإذاعة والتلفزيون الرسمي ومطار (كمال أتاتورك) في أنقرة، واختفى أردوغان ليطل من مكان وصف بالآمن، ألقى منه خطاباً توعد فيه بإفشال الانقلاب ومحاسبة منفذيه، ودعا أنصاره للخروج بتظاهرات ضد الانقلاب.
ساعات، وكان رئيس الوزراء بن علي يلدريم، يعلن فشل الانقلاب العسكري، والقبض على منفذيه، ووعد بأن ينال منفذوه جزاءهم، وفي الإثر دشنت الوحدات العسكرية والأمنية الموالية لأردوغان، حملة اعتقالات طالت نحو 3 آلاف قاضٍ، بينهم 5 في المحكمة العليا، وأعداداً مماثلة من أمنيين وعسكريين ومدنيين، بعد أن أسفرت المواجهة عن مقتل 260 شخصاً، وإصابة 1600 آخرين.. واتهم أردوغان، المعارض الإسلامي الثري المقيم في أمريكا فتح الله غولن، بالوقوف وراء الانقلاب، ونفى أن يكون الجيش التركي متورطاً فيه، وقال رئيس وزرائه إن أية دولة ترفض تسليم غولن ستعتبر معادية، في الإشارة إلى دور أمريكي داعم للانقلاب.. نظام أردوغان، كان بدأ في الأسابيع الأخيرة حملة تطبيع للعلاقات المتوترة بين أنقرة وموسكو، كما أعلن رئيس حكومته عن رغبة النظام التركي تطبيع العلاقات مع (نظام الأسد).. دشن رجب طيب أردوغان، المنتمي لحزب العدالة والتنمية (إخوان تركيا)، ولايته عام 2002م، بتجريف التنوع السياسي في الشارع التركي، واعتقل العديد من جنرالات الجيش لاحقاً، وفي موازاة ذلك أنشأ جهازاً أمنياً عسكرياً يدين له ولحزبه بالولاء.. لم تبق معارضة يعول عليها في منافسة حزب العدالة والتنمية، عدا جماعة فتح الله جولن، ذات النفوذ الاقتصادي الكبير في تركيا، والتي تمتلك هي الأخرى ولاءات داخل المؤسستين الأمنية والعسكرية، بحيث يسهل على المراقب أن يتوقع أن أي خلف لإسلاميي العدالة والتنمية في الحكم سيكون إسلامياً.
لتمرير طموحه إلى العمل بالنظام الرئاسي، ولتغيير الدستور، كان على أردوغان أن يقلص النفوذ التقليدي للجنرالات في الحياة السياسية التركية، حيث يمثل الجيش التركي عصب تركيا الحديثة، وحارس العلمانية منذ تأسيسه على يد الزعيم القومي مصطفى أتاتورك، مطلع القرن العشرين.
إلى ذلك، عادى أردوغان خلال فترتي توليه رئاسة الحكومة ورئاسة الدولة، معظم مكونات المجتمع التركي داخلياً وخارجياً، نقل أردوغان تركيا من طور (صفر مشاكل خارجية) إلى طور (صرف مشاكل خارجية) بحسب توصيف المراقبين، لاسيما من خلال تدخلاته السافرة في دعم خلطة العصابات المقاتلة في سوريا لإسقاط النظام السوري، وتبنيه لعشرات القنوات وآلاف الكوادر الإخوانية المحرضة على أمن مصر ووحدة أراضيها وجيشها،والمطلوبة قضائياً لبلدانها علاوة على دور غير خفي في تسهيل مرور تنظيمات الجريمة الدولية إلى سوريا ومن سوريا إلى اليمن، بالتنسيق مع إخوان اليمن، ومؤخراً تعهد القيادي الإخواني المقيم في تركيا حميد الأحمر، بأن يرفع العلم التركي في صنعاء بعد تحريرها، حد قوله.
أظهر أردوغان نزعةً سلجوقية عثمانية أثارت حفيظة القوميين والأرمن بدرجة رئيسة، واليسار والعلمانيين عموماً، ودعم عصابات داعش بصورة مباشرة لاحتلال الشمال السوري الذي يقطنه أكراد ضمن الجمهورية العربية السورية، ورأى في حزب العمال الكردستاني حزباً إرهابياً أخطر بكثير من داعش التي أنشأ لأفرادها معسكرات تدريب جنوب تركيا في غازي عنتاب، ولعب نظامه ـ بحسب تقارير استخباراتية ـ دور الوسيط في بيع نفط العراق المسروق من قبل تنظيم داعش بغطاء تركي، في السوق العالمية.. تقدم الجيش السوري ووحدات الحماية الشعبية والإسناد الروسي في شمال وشمال شرق سوريا، أحبط رهانات نظام أردوغان في منطقة حظر جوي شمال سوريا، يكون له اليد الطولى فيها عبر العصابات الموالية له على الأرض..فجأة، انقلب السحر على الساحر، وعوضاً عن أن يسقط (نظام الأسد) ويجري تقسيم الجمهورية العربية السورية، وجد أردوغان نفسه في مواجهات داخلية مباشرة مع ارتدادات تدخلاته السافرة في سوريا ورعايته المباشرة للإرهاب، وأمس الأول أفرزت هذه الارتدادات على البناء التركي انقلاباً (تم إفشاله)، لكن لا ضمانات إزاء عدم نشوب انقلابات أخرى وانتفاضات شعبية يصعب على أردوغان تلافيها.
يعتقد مراقبون أن أمريكا تحاول تلافي سقوط الحزب الإسلامي الحاكم في تركيا بأيدي قوى قومية أو يسارية مناهضة لها، وتعمل لمنع حدوث ذلك على تهيئة جماعات فتح الله غولن -الإسلامية هي الأخرى- خلفاً لحزب العدالة والتنمية.
غير أن الأرجح، أن ثمار مقامرات إخوان تركيا الداخلية والخارجية، في تمزيق تركيا قبل تمزيق محيطهم الإسلامي، خدمة لمشروع الشرق الأوسط الجديد، قد أغضبت 25 مليون كردي و20 مليون علوي تركي وملايين الكماليين واليسار، يؤلفون الوقود الرئيس لأية عملية تغيير ستهب على تركيا، وهو ما يعقِّد الوضع لجهة الحاجة الأمريكية لإدارة التناقضات التركية بما لا يسمح بخروج الدولة ذات القوام البشري الأكبر في (النيتو) عن سيطرتها، ويتيح لمحور: روسيا - إيران - سوريا دوراً وازناً في المشهد التركي، الذي ظل أمريكياً على الدوام طيلة حقبتي الحرب الباردة وما بعد الحرب الباردة.
مطلع العام 2011م، وعقب نشوب الأزمة في سوريا، تعهد أردوغان بأن يصلي في الجامع الأموي بدمشق، بعد أن تكون قد تحررت ـ بحسب قوله ـ من (نظام الأسد)، واليوم، وبعد مرور 5 أعوام، يبدو الإمبراطور الخازوق، مضطراً لأن يصلي ويبتهل إلى الروس في سبيل أن يظل مصلَّاه الأخير في تركيا قائماً، ولا تطيح به عواصف المتغيرات.