مثلما تورق الكروم وتزهر في الروابي؛ تورق أغنياته فينا وتخضرُّ حباً، وتزهر عشقاً. ومثلما تتبرعم عناقيدها في قلوب محبيه وتثمر، تتعنقد فينا إبداعاته الفنية أشواقاً ومحبة.. حنيناً ولقاءً.. أنيناً وصفاءً.. ترانيم وجد، وألحاناً آسرة.
تغسل الأرواح، وتنقي القلوب، وتشفي أوجاعها.
تشجي النفوس الحائرة، وتطهر أحزانها.
مع كل نغمة حب، هفت أرواحنا، سفراً ورحيلاً، وفي كل ترنيمة شجن، هامت قلوبنا فرحاً وحزناً، تحملها تقاسيم لحونه الماطرة، نحو مدارب فيوضها، حين يشدو بجمال الكلمة وعذوبتها، ويزيدها عذب صوته الآسر رقة وانسياباً، وتمنحها رخامته رونقاً وبهاءً، ليسافر بنا نحو فضاءات الكلمة وعوالم رحابه، وصلاً وانكساراً، بوحاً وجرحاً، بلسماً وهياماً، تباريح عشق، وتسابيح محبة..!
في الجزء الثاني من أسفار أيوب الجميلة، تواصل (لا) نشر تفاصيل محطات هذه الأسفار وبدايتها تعز.
خلال عقد من الزمن يزيد أو ينقص بضع سنين من سبعينيات القرن العشرين، هي فترة إنتاج ما أسلفنا وذكرناه في طي هذه الأسفار من تعاون فني بين الشاعر الفضول والفنان أيوب، والذي قدر بحوالي 50 رائعة غنائية ونشيداً وطنياً خالداً، بداية من: 
(عدن عدنْ فيها الهوى مُلَوَّنْ
لكن لمنْ 
أسلو بها أو أشتكي وأحزنْ
لا اشتد لي فيها وتر ولا رنْ
عيشي حزنْ
القلب أنْ وما عليه لو أنْ
البعد هان ولا الوصال أمكنْ
لو ما عرفت الحب كان أحسنْ)
ما فتئ الحب في قلب الفضول يتجسد في شتى صوره الشعرية بملامح وجوه حبيباته وتقاسيم جمالها؛ ليزداد هذا الحب جمالاً وبهاء في تقاسيم عود وصوت أيوب وترانيم ألحانه الشجية.
(لمع البروق على جبال الأحيوق
خلّى الجبال تنزل رماد مسحوق
هذي الجبال الشامخات الانكاب
من خلفها وجه الحبيب قد غاب
وادي الضباب ماءك غزير سَكَّاب
نُصَّك سيول والنُصْ دمع الاحباب
نُصَّك دموع من عين كل مشتاق
تجري على خده دموع الاشواق
مثلي أنا والعاشقين مثلي
كم أطلقوا نهر الدموع قبلي
قد ذبت من شوقي وحر ناري
لا الليل لي ولا النهار نهاري
يبكي معي ليلي وضوء فجري
ودمعتي تشكي ضياع عمري
أمسي أهيم وائن من جراحي
ونهدتي تمتد إلى صباحي)
يقول البردوني: (أيوب طارش تمتع بخامة مُلَحَّنة فأدّى صوته من كل طبقاته كل ما يحسّ وكل ما يوحي إلى سامعه، فَذَكَّر بالتراث بدون أن يكرره، وظفر بشاعر خاص به هو عبد الله عبد الوهاب نعمان، الذي يعرف هندسة الكلمة الشعرية، والذي يجيد تطويعها على قامة الصوت الغنائي؛ لأنه عرف خامة (أيوب) ففصَّل أغنياته على قامة صوت مغنيه، كما يوحي هذا المقطع:
(نجـم الصبـاح، قل للصبـاح، إن لاح
قلبي جراح، ظلام مغلق، ما عليه مفتاح)
فهذا التقطيع يتدرج من آخر مقدمة اللحن إلى اختتام الأغنية التي قطعها شاعرها متفاوتة القامات:
(نجم الصباح) مستفعلان، (قل للصباح) مستفعلان، (إن لاح) فَعْلان.
والملحوظ أن التفعيلة الأولى على حجم التفعيلة الثانية على حين كانت الثالثة أقصر: (إن لاح)، وجاءت التفعيلة الرابعة من حجم التفعيلة الأولى (قلبي جراح)، ثم اختتم المقطع بكل ما في التفعيلات من طاقة صوتية: 
(ظلام مغلق ما عليه مفتاح)
فكان هذا الاختتام معبأ بعناصر سوابقه وبخصوصيته، فتفجَّر من كل الطبقات الصوتية فشكَّل انفجار نَفْسِهِ وما تَنَفْسَنَ فيه، وتتالت مقاطع القصيدة على هذا النحو الغنائي والمعد سلفاً للتغني، إلا أن (نعمان) لم يتبع هذه الطريقة في كل قصائده الغنائية. 
نجم الصباح قل للصباح إن لاح
قلبي جراح ظلام مغلق ما عليه مفتاح
إلا يد الخل الحبيب ذي راح
قال الوداع ودمعتي على القاع
أمره مطاع وكل عمري في هواه قد ضاع
يفديه عمري إن أجا وإن راح)
ويقول أيوب: (عندما أغني قصائد الفضول تتجلى روح الإبداع منذ أول جملة وأول كوبليه أو مقطع للأغنية، ولا تكتمل إلا بآخر سطر أو مقطع فيها، فمع قصائده لا تشعر برتابة الأغنية أو الملل من ترديد مقاطعها مهما أعدتها، بل حين تصل إلى نهايتها تجد نفسك كأنك ما زلت في ذروة ونشوة العطاء الفني والإبداعي، لذلك تجد الجمهور في حالة تواصل وتفاعل معك وأنت تؤدي هذه الأغاني، ويطالبك بتكرار مقاطع منها، وفي ذلك قمة الإمتاع لنا معاً، وكذلك هو الحال أيضاً مع المستمع لمعظم قصائد الفضول).
في اعتقادي أن (من أجل عينك) هي أقرب وأصدق رائعة غنائية بين الفضول وأيوب، تؤكد هذا التجلي في روح أيوب الإبداعية مع قصائد الفضول، حين نكتم أنفاسنا معهما منذ أول مفردة غنائية، وهو يردد على مسامعنا بنفس واحد إلى أن نصل معه لحظة الاكتمال:
(من أجل عينك واحبيب القلب شاكرم ألف عين
واصبر واداري قلوب قد حبين لكن نسين
من يوم زرعنا أمانينا ومن حينما الأشواق في قلبي وقلبك ربين
أصف وردي وأزهاري أغطي على ناري وهن من حرَّها يحرقين
إذا تبسمت أخفي من شجون الهوى أسمع دموع القلب يتناطفين
واشوف أن ابتساماتي يجيئين من روحي وهن من حزنها يستحين
كم يا قلوب أعطت لأشواقنا حنانها كم ذا علينا بكين
دموعهن قد رافقين دمعنا يجرين ولكن دمعنا يُعْرفين
إذا بقين في العين ضاقين بالفرقه وإن سالين يتعانقين
للحب أعشاش في قلبي وفيها المنى عاشين والأحلام قد عشعشين
وكلّما طفت في حسِّي وفي خاطري قامين يطلين من قلبي ويتخاوصين
مثل العصافير ظمآنات لا ماء يرويهن ولا أفياء يتظللين
يدوِّرنّك يريدنّك يهيمين وراء طيفك وكم هامين وكم دَوَّرين
أسقيتهن من غمام الفجر قالين لي لا الفجر يروي ولا قطر الندى ينفعين
واعطيتهن من رحيق الورد كل الذي في الورد فاستعصين أن يشربين
صامين حتى يلاقنَّك بكل الظما ويشربنَّك وما ظنَّيتهن يرتوين
طال الظما في فؤادينا وأكبادنا عاشين من أحراقهن يرجفين
واحنا حبيبين أعطتنا مقاديرنا للملتقى وعد والأقدار لا يكذبين)