لا تفوّت دول الظلم والاستكبار المتشدقة بالديمقراطية وحقوق الإنسان والدول العميلة لها المتنطعة بالسلام والإسلام، الفرصة في حال ظهرت قضية تشغل الرأي العام الدولي، لتحقق من خلالها أهدافاً تخريبية تضمن توسعها وتضعف خصومها.
ففي الأيام الماضية عادت ميانمار بالصراع القائم فيها بين المسلمين والبوذيين، لواجهة المشاكل الشاغلة لذلك الرأي، والتي تتطلب تحركاً دولياً لحلها، غير أن ديمقراطية أمريكا وإنسانية منظماتها الدولية وقوة مجلس أمنها الدولي وإسلام خادماتها من الدول العربية والإسلامية، على رأسها السعودية وتركيا، لم تحرك ساكناً لوضع حد لما يحدث في بورما، واكتفت بالتنديد والإعراب عن قلقها كما هو متوقع منها، لغاية تبدو واضحة نوعاً ما إذا ما أخذنا في الاعتبار التغيرات التي حدثت في سوريا والعراق.
أزمة الروهينغا تنفجر مجدداً
خفت حدة أزمة المسلمين في بورما بعد أعمال العنف التي شنها متطرفون بوذيون ضدهم بتواطؤ من حكومة ميانمار التي تعتبرهم أقلية دخيلة وليست ذات أصول عرقية، في 2012 وعقود سابقة. ولكن هذه الأزمة عادت مجدداً في أكتوبر من العام الماضي، عندما أعلنت جماعة مسلحة اسمها (جيش إنقاذ الروهينغا) في ولاية أراكان، تنفيذ عمليات ضد الجيش البورمي, ما دفع الحكومة البورمية إلى تنفيذ حملات ضد الأقلية بشكل عام، مدعية أنها موجهة ضد أولئك المسلحين.
وزادت حدة أعمال العنف والتهجير ضد الروهينغا خلال الأيام الماضية، من قبل الأمن والجيش، بدعوى ضبط مسلحي الجماعة التي قالت بأنهم هاجموا مراكز الشرطة لإنقاذ الأقلية.
وقد أظهرت بيانات رسمية أن قرابة 400 شخص لقوا حتفهم في المعارك التي هزت شمال غرب بورما, بينما أعلن المجلس الأوروبي للروهينغا بأن عدد القتلى بين ألفين وثلاثة آلاف شخص, فيما فرّ قرابة 125 ألفاً منهم إلى بنغلادش من سعير الحرب, في أعنف موجة عدائية وجهت ضدهم منذ عقود، ولكن هذه المرة بطريقة مغايرة، حيث إن هناك جماعة مسلحة تطلق على نفسها جيش إنقاذ الروهينغا، تقاتل قوات أمن بورما, صنفتها حكومة ميانمار ضمن التنظيمات الإرهابية. 
وشدد مركز حقوق الإنسان بميانمار على ضرورة تدخل المجتمع الدولي لتقليص دائرة التوتر التي تتوسع بشكل كبير, خصوصاً وأن البعض أبدى قلقه من أن ذلك التوسع ينذر بميلاد تنظيمات إرهابية.

ردود الفعل الدولية تجاه
ما يحدث للروهينغا
لم تخرج دول العالم ومنظماته الحقوقية عن المألوف الذي أظهرته تجاه جميع الأزمات التي حدثت في بعض مناطق العالم على مدى عقود, حيث إن أية أزمة تتعلق بالإرهاب لا يتم حلها سريعاً كي لا تتضخم وتتحول الى تنظيم إرهابي كما حدث مع داعش.. ونورد هنا أبرز ردود الفعل.
منظمة الأمم المتحدة ردت على أعمال العنف الموجهة ضد مسلمي بورما بالإعراب عن قلقها الشديد كما جاء على لسان أمينها أنطونيو غوتيريس الذي قال إن ميانمار تواجه خطر التطهير العرقي، مبدياً أمله بألا تصل الأمور إلى هذا المنحنى، مشدداً على ضرورة منح سلطات ميانمار مسلمي الروهينغا جنسية البلاد أو على الأقل وثائق تمكنهم من العيش بسلام, ومطالباً إياها بسماح دخول المساعدات. 
الولايات المتحدة الأمريكية اكتفت بالتعليق على أزمة الروهينغا بعد أن اشتدت حدتها, حيث قالت الناطقة باسم وزارة خارجيتها، الخميس الماضي، إن الولايات المتحدة تبدي قلقها البالغ حيال الوضع المقلق في إقليم راخين (جنوب غرب بورما)، وتحث السلطات على السماح بدخول المساعدات الإنسانية. وأدانت ممارسات العنف من طرف قوات الأمن ومسلحين مدنيين ضد الروهينغا وحرق قراهم، ما أدى الى موجات نزوح كبيرة, كما أدانت الاعتداءات التي وصفتها بالدامية ضد قوات الأمن البورمية، والتي نفذتها جماعة جيش إنقاذ الروهينغا.
من المؤكد أن السعودية لن تخرج عن ردة الفعل الأمريكية كونها مجرد ذيل للأخيرة، فقد دعت في بيان لوزارة خارجيتها إلى طرح قرار يدين انتهاكات حقوق المسلمين الروهينغا وحرق مساجدهم, مؤكدة أنها (ستواصل اتصالاتها من الأمم المتحدة لإيجاد حل لهذه الأزمة من موقع قيادتها للعالم الإسلامي), مدعية أنها منحت الروهينغا 50 مليون دولار كمساعدات.
أما ردة فعل تركيا فقد اهتمت بمسألة النازحين إلى بنغلادش، والدعوة إلى عقد اجتماع لوزراء خارجية الدول الإسلامية، كما ندد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بالصمت العالمي حيال اضطهاد ميانمار للروهينغا، وقال إنه سيطرح قضية الوضع في ميانمار على نطاق واسع خلال اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة التي ستعقد يوم الـ19 من الشهر الجاري.
من جانبهما، أدان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ونظيره المصري عبدالفتاح السيسي، أعمال العنف في ميانمار، محذرين من أن استمرارها يؤدي إلى تصاعد التوتر وتغذية الإرهاب. مطالبَين خلال لقائهما الاثنين الماضي، على هامش منتدى مجموعة (بريكس) المنعقد في مدينة شيامين بمقاطعة (فوجيان) الصينية، حكومة ميانمار باتخاذ الإجراءات اللازمة لوقف أعمال العنف.
وبالنسبة للمحاور المقاومة للهيمنة الأمريكية، فقد كانت ردة فعلها تجاه ما يحدث في ميانمار حادة وشديدة كما هو متوقع منها، حيث استنكر قائد الثورة السيد عبد الملك بدر الدين الحوثي بشدة الجرائم المروعة المرتكبة بحق المسلمين في بورما، معلناً تضامنه الكامل معهم.
وأشار في بيان صدر عنه الثلاثاء الماضي، إلى أنه رغم أن مسلمي بورما يعدون من أهل السنة، إلا أن هذا لم يوفر لهم أي حماية أو صوت من بني سعود أو بني نهيان وأمثالهم.
وقال السيد في البيان: (من يزعمون أنهم حملة راية الأمة الإسلامية والقائمون على المشاعر المقدسة، لا يتحركون إلا لإثارة الفتن، وإن الغرب والإمبريالية الأمريكية لا يرفعون شعار القيم الإنسانية إلا لخداع الشعوب)، وأن ما يتعرض له مسلمو بورما لعنة على قوى العمالة والخيانة داخل أمتنا. موضحاً أن العنوان الإسلامي والمذهبي لم يشفع لمسلمي بورما طالما ليس هناك مصلحة سياسية لقوى العمالة. ومشدداً على ضرورة التحرك العاجل والسعي لوقف جرائم الإبادة بحق مسلمي بورما.
من جهته، أدان حزب الله اللبناني الجرائم المرتكبة بحق المسلمين من شعب الروهينغا في ميانمار (بورما)، والتي أدّت لوقوع الآلاف من الضحايا وتشريد عشرات الآلاف من المواطنين، دون أن تحرّك هذه الجرائم ساكناً لدى مدّعي الدفاع عن حقوق الإنسان في العالم.
وقال في بيان له إنهم ضحايا التواطؤ الدولي ضدهم وضد المسلمين في أنحاء العالم، ولا سيما أولئك المستكبرون الذين يقيمون الدنيا ولا يقعدونها عندما تقع حوادث تتعلق بمصالحهم، فيما هم يسكتون عن إبادة الشعوب وهضم حقوق النساء والأطفال، عندما لا يكون في ذلك إضرار بامتيازاتهم ومشاريعهم الجهنمية في العالم. داعياً كل القوى الحيّة في أمتنا وفي العالم أجمع لرفع الصوت في وجه حملة الإبادة التي يتعرض لها المظلومون في منطقة آراكان، وإلى القيام بكل ما هو ممكن لنقل مظلوميتهم والضغط على القوى القادرة على رفع الظلم عنهم وتحريرهم من هذا الكابوس المأساوي الذي يعانون منه، كي لا يكونوا شهود زور على واحدة من أبشع جرائم العصر الحديث.
إلى ذلك، دعا أمين مجمع تشخيص مصلحة النظام الإيراني (محسن رضائي)، على صفحته الشخصية في موقع (إينستغرام)، الدول الإسلامية إلى تشكيل قوة مشتركة للدفاع عن مسلمي ميانمار الذين يتعرضون لمجازر وأعمال وحشية.
وكان الرئيس الإيراني حسن روحاني طالب حكومة ميانمار بوقف أعمال العنف ضد مسلمي بورما. مناشداً الدول المجاورة والمسلمين في العالم كله مساندة مسلمي الروهينغا، وداعياً الأمم المتحدة إلى الاضطلاع بمسؤولياتها في هذا الصدد.
في غضون ذلك، تعالت دعوات للتوقيع على عريضة في موقع (أفاز)، تطالب بسحب جائزة نوبل للسلام من سوتشي مستشارة الرئاسة البورمية، كما انتشرت عريضة أخرى على موقع (تشينج)، تطالب بمحاكمتها أمام المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان، بتهمة الضلوع في التطهير العرقي بحق الروهينغا.

الإدانات هدوء يسبق العاصفة
على الرغم من أن الأقلية الروهينغية التي تتعرض لإبادة وتصفية عرقية، هي مسلمة وتعتنق المذهب السنّي، إلا أن هذا لم يكفِ لتحريك حامية ديار المسلمين التي تقود العالم الإسلامي ـ حسب وصفها ـ لحمايتهم وإيقاف عمليات قتلهم، خصوصاً وأنها شكّلت تحالفاً إسلامياً من أكثر من 30 دولة، نهاية 2015، عقب تحالف عدوانها على اليمن، الذي أعلنته في مارس من نفس العام، بإيعاز أمريكي إسرائيلي, إلا أنه ليس لحماية المسلمين، بل لتحويلهم إلى إرهابيين، ومن ثم مكافحتهم حسب المفهوم الأمريكي، كما في سوريا والعراق.
إن الموقف السعودي هو ترجمة للرغبة الأمريكية التي لم تتحرك لحل هذه المشكلة كونها من صدرت ديمقراطيتها إلى مختلف الدول, وسنت ما يسمى قانون حقوق الإنسان، ولكن موقفها تجاه ما يحدث في ميانمار المحاذية للصين كان سلبياً للغاية, وعند ربط هذا بظهور جماعة جيش إنقاذ الروهينغا المسلحة والمعروفة سابقاً باسم حركة اليقين، والتي أصدرت في شهر مارس 2017 بياناً قالت فيه إنَّها ملزمةٌ بـ(الدفاع عن مجتمع الروهينغا وإنقاذهم وحمايتهم)، وهذه الجماعة مرتبطة ـ حسب ما قالته مجموعة الأزمات الدولية ـ بأشخاصٍ منتمين لجماعة الروهينغا يعيشون في المملكة العربية السعودية، فإنها تظهر ذات السياسة التي اتخذتها أمريكا والسعودية في سوريا لتدميرها.
واستخدمت أمريكا والدول العميلة لها هذه السياسة إبان ما أطلق عليه الربيع العربي في  سوريا وغيرها, حيث انتظرت فترة طويلة قبل أن تدرك أن مشروعها سيفشل، وبادرت بدعم فصائل معارضة للنظام بالسلاح والمال، لتشعل فتيل الاقتتال معه, فقد أعلن البيت الأبيض لأول مرة عزم واشنطن تسليح المعارضة السورية بشكل مباشر في 14 يونيو 2013. وأكد الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما بعده بشهر، أن بلاده مستمرة في تقديم ذلك الدعم للمعارضة.
أعلنت بعدها السعودية وقطر وتركيا دعمها لتلك الفصائل التي سميت الجيش الحر، وتحولت بعدها إلى تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) وجبهة النصرة، وهما تنظيمان إرهابيان يقاتلان النظام السوري، ويسعيان لإسقاطه تلبية لرغبة أمريكا وإسرائيل. وأكد عسيري في مايو العام الماضي أن مملكته تدعم المعارضة السورية مادياً وعسكرياً، كونها ملتزمة بمحاربة تنظيم الدولة.
شكلت أمريكا حينها ما تم التعارف عليه باسم (غرفة الموك) في الأردن، وغرفة (الموم) في تركيا، يديرهما الأميركيون عبر وكالة الاستخبارات المركزية (سي آي إيه)، إلى جانب 7 دول مما تعرف بالدول الصديقة للشعب السوري، ونحو 20 فصيلاً من فصائل الجبهة الجنوبية والبادية والقلمون الشرقي, واتخذت من مكافحة الإرهاب المتمثل في تلك الفصائل المدعومة من قبلها، مبرراً لتدمير سوريا، وأنشأت لذلك تحالفاً دولياً, ولا شك أن لهذه الدول هدفاً من نقل المشهد السوري إلى ميانمار.

استمرار أزمة الروهينغا يقرب الإرهاب إلى حدود الصين
تزامن ظهور أزمة الروهينغا مجدداً مع انحسار نفوذ داعش في كل من سوريا والعراق، ونسبة الفشل الكبيرة للمخطط الذي أرادت أمريكا وإسرائيل تنفيذه في سوريا من ذلك الانحسار, وظهور جماعة مسلحة تدعي إنقاذ الأقلية المسلمة بتنفيذها عمليات عسكرية ضد مراكز للشرطة والجيش البورمي، واستمرار العنف الموجه من حكومة ميانمار ضد الأقلية بدعوى ضبط أفراد تلك الجماعة, وكذلك لامبالاة أمريكا وحليفاتها الراعيات للإرهاب تجاه الأزمة، بالإضافة إلى موقعها القريب من جمهورية الصين الشعبية، والتي على عداء اقتصادي وهيمنة على السوق مع البيت الأبيض, جميعها معطيات رأى البعض أنها مرتبطة وتقود إلى نتيجة واحدة.
حيث يرى مراقبون ومحللون أن عدم وجود ردات فعل حاسمة من المجتمع الدولي، خصوصاً أمريكا ومن معها، لإيقاف ما يحصل للمسلمين في ميانمار، إنما يمثل رغبة أمريكية كي تزيد دموية الأعمال هناك, ويتحرك الدواعش الذين حوصروا في سوريا والعراق ولم يلقوا مكاناً يؤويهم، إلى بورما لنصرة الإسلام كونهم تنظيم الدولة الإسلامية, وبالتالي ينجحون في زرع الإرهابيين بالقرب من الصين عدوتهم الاقتصادية الأولى، لزعزعة الوضع وإرباكه فيها, ومن ثم يتدخلون بدعوى مكافحة الإرهاب.