على ضوء صواعق ولهب الحنين تدلف الكاتبة قبو الحقبة المنسية وتهبط سلالمه المجدولة بغزل العناكب وصولاً إلى لحظة سحيقة من العام 1922م، لتبدأ رحلتها من أريكة أمها المحتضرة، مبحرة في خضم مآتم وأعراس ودموع وزغاريد ودماء وقصص حب ومؤامرات ومسامرات عائلية حميمة ودواوين شعر ودواوين حكم وأصوات مزاهر وفحيح أفاعٍ وأبهاء ملكية وسجون وولادات وإعدامات وانقلابات ومكائد حريم ونزوح وجوازات سفر و... منفى!
إنها كتابة اجتماعية (نوستولوجية) تحت سماء حمراء محتدمة بالصراع وحافلة بالأحداث، لا تخلو من زخات فرح تعشب قرنفلات حزن على امتداد رحلة شاسعة الوحشة، تطيح خلالها تقية بنت الإمام يحيى حميد الدين، بالصور المثالية الراسخة في أذهان كثيرين عن (الثورات الثلاث 48، 55، 1962م)، الواحدة تلو الأخرى، دون أن تتعمد الإطاحة بها، ودون تخطيط مسبق..
كتاب مغاير مخيف لا يقرأه أصحاب الضمائر الضعيفة وعديمو النخوة.. نضعه بين يدي القارئ على حلقات، إيماناً منا بأن فتح الجروح القديمة وتنظيفها أسلم لعافية أجيالنا من مواربتها وتركها تتخثر.

في هذا العام زارني خالي العظيم إسماعيل غمضان، وسألني عن أحوالي واطمأن علي، وما زارني خالي إلا وحمل معه الكثير من الهدايا، وقد أمضى الخال بضيافتنا ثلاثة أيام، كان لها أثرها الطيب في نفسي، وحدثني بأخبار والدي وإخواني وزميلات السطوح، وأبلغني شوقهن للقائي.
ذات يوم بعد زيارة خالي، أبلغني زوجي أنه سيغادر إلى عدن بداعي الفحص والمعالجة، فقد سبق له أن أصيب بالسل (الأثر) كما نسميه. كما أصيب به أكثر من واحد من عائلته، ولكنه تطبب في عدن وعوفي بمشيئة الله، ولكنه ذاهب للكشف ليس إلا، وسيعود مسرعاً.
ثم نعمت بزيارة أخي الحسين، وقد طرت فرحاً لبقائه في ضيافتنا لثلاثة أيام، وكنت أحظى برؤيته كل يوم، فيبثني حنانه، وينقل إلي أخبار والدي وإخواني وأخواتي، ثم غادرنا محفوظاً برعاية الله إلى لندن لحضور حفل تتويج الملك جورج السادس الذي اعتلى العرش بعد أخيه إدوارد، والمشاركة في مؤتمر الدائرة المستديرة لبحث القضية الفلسطينية، وكان ممثل المملكة العربية السعودية الأمير فيصل بن عبدالعزيز آل سعود، وفي حينه افتتحت الإذاعة العربية من محطة لندن، وبهذه المناسبة ألقى الحسين كلمة من الإذاعة.
إن زيارة خالي إسماعيل وزيارة أخي الحسين، قد هيجتا الأشواق عندي لرؤية والدي وأسرتي، واعتمل في صدري نوع من الحنين الملتهب لصنعاء ودار السعادة، فوجدت نفسي أمسك بقلمي لأكتب لوالدي برقية أستأذنه في السفر إلى صنعاء، وكان زوجي وعمي قد وافقا قبيل ذلك، وكنت واثقة ومتأكدة من موافقة والدي الإمام. فقد وعدني عند ارتحالي إلى تعز، بإجابة طلبي في الحال، عندما أطلب زيارة الأسرة في صنعاء، فوالدي يرحمه الله ما أخلف وعده يوماً، فجاء الإذن بالموافقة، وسافرت وزوجي إلى صنعاء، وعدنا إلى بيتنا في حي الصياد، أمضينا فيه قرابة شهر ونصف، عاد زوجي بعدها إلى تعز لظروف عمله، حيث كان عاملاً على مدينة ذي سفال، وبعد شهور وصل إلى صنعاء للزيارة، وقبيل وصوله أمرني والدي بالذهاب لاستقباله في منزله في حي الصياد، وكان ذلك..
كنت أشعر بحالة من القلق وشرود الذهن تنتاب زوجي، ويبدو لي أنه دائم التفكير في أمر ما لم أستطع تحديده، وفرضت علي آداب التربية والطاعة ألا أتدخل في شؤونه، وذات يوم من أيام ذي القعدة 1357هـ/ 1939م، وكنت إذاك في زيارة لوالدي بدار السعادة، وصلت برقية من عمي الأمير علي إلى الوالد الإمام مضمونها الاستئذان بسفره لأداء فريضة الحج، وفيها يرجو الإذن أيضاً للولد عبد الله (أي زوجي) وابن أخ الأمير الكبير حاكم المقام (دار السعادة) محمد بن محمد الوزير، بمرافقته لأداء الفريضة، وهذه البرقية اطلعت عليها وقرأتها، وكانت من عمي، لأن والدي يرحمه الله عرضها علي، وسألني:
ما رأيك في سفر زوجك لأداء فريضة الحج؟
فقلت للوالد: لا مانع. 
فقال لي: خذي معك البرقية واعرضيها عليه، فإن وافق قولي له: يتأهب للالتحاق بالباخرة إلى الحديدة. 
وبالفعل، فقد أخذت البرقية من والدي وعرضتها عليه، فأبدى موافقته للحال والتو.
فقلت له: إن الإمام يطلب إليك أن تلتحق بالباخرة في الحديدة.
ومع أني كنت شابة يافعة، ولكن ما ورثته من رؤى والدي والعلم الذي تلقيته، فقد أزعجتني موجة الفرح والانبساط التي كست وجهه، وغاب عن فكره أن يقول لي كلمة واحدة تحتاجها الشابات في هذه المواقف من الغيبة والسفر حتى ولو كان لأداء فريضة.
وفي صبيحة اليوم التالي، نهض مبكراً نشطاً على غير عادته، وبدأ يساعدني في توضيب حقائبه وأحزمته للسفر، وأثناء ذلك جرى بيننا الحوار التالي:
ادع الله عند الكعبة ألا يعيد عليك المرض، وأن يمتعك بالصحة والعافية، وإني بانتظار عودتك، أنا والضيف القادم. 
قال: بإذن الله سأفعل. 
قلت: هل ستتأخرون بعد الحج؟ 
قال: سأعود مسرعاً إن شاء الله بعد إتمام الشعائر، وعلى الفور، قالها بتلعثم ودون تركيز، وشعرت بعدم الراحة.
ودعته وانصرف، وأنا أدعو له ولعمي الأمير بالسلامة في الحل والترحال. 
ولا أخفي أني كنت سعيدة لسفره، وليس معاذ الله تخلصاً منه، ولكن بسبب انتقالي إلى دار أسرتي فترة غيابه. وبالفعل عدت إلى دار الشكر، حيث واصلت حياة الصبا بين أفراد أسرتي.
إذا جاء المساء كنا نعقد جلسة شعرية نتساجل الأشعار أنا وإخوتي وأخواتي، وكنت أحب تلك المساجلات، وما زلت أحفظ الكثير من أشعارها، أو نتبارى بالمسائل الحسابية، أو التلاعب بالحروف واكتشاف الجملة أو الكلمة الصواب، وطرح الأحجيات والألغاز، ومن الألغاز التي فزت بحلها وما زالت في ذاكرتي رغم السنين والحوادث.
ما اسم الذي تيمني حبه وعذب القلب العذاب الأليم 
فنصفه يأمرني أن أبر ونصفه يأمرني أن أهيم
وحلها: إبراهيم. 
ومنها:
هاكم اسماً خماسياً إذا حذفوا الخُمسين بات 
وإذا صحفت هذا فهو من تاب إلى الله يمحو السيئات
ثم إن غاب فخمساه لنا آب وإن شئت آت 
إنه بر ولكن عق في ما بقي حتى نراه الليل بات
وحلها: عقبات.
وكنا نقدم جائزة لكل من حل اللغز في دقيقتين. 
***
وداهمتني آلام الولادة، وأنجبت ابنة جميلة سماها والدي أمة العزيز، وقد فرحت بها فرحاً عظيماً، فقد استقبل كل أفراد الأسرة قدومها بالحبور والسرور، وخاصة الوالد، فقد هنأني بالسلامة، وبارك لي المولودة الجميلة، وغمرني إخواني وأخواتي بهدايا ولزوميات الضيفة الجديدة.
وعاد عمي الأمير الكبير من الحج، وعاد معه حاكم المقام، ابن أخيه محمد، ولم يعد زوجي. قالوا لي: إنه سافر إلى مصر للدراسة، ثم جاء عمي وابن أخيه لزيارة الإمام والسلام عليه في صنعاء.
أما أنا فلم أعط الأمور أكثر مما تستحق، فالنساء عندنا لا دخل لها في خصوصيات الرجال، ولكن مقام عمي فترة من الزمن في صنعاء دون أن يعود إلى مقره الرسمي في تعز جعلني أبحث عن السبب، فعرفت أن أخي سيف الإسلام أحمد يقوم بتصريف الأعمال في تعز، وكان الأمر عادياً بالنسبة لي.
***
ابنتي تكبر مع الأيام، وتزداد زينة وحلاوة، هي كل شاغلي، أداوم العناية بها، فالأمومة شيء جميل، عرفت حينها ذلك الحنان والعطف واللطف الذي كانت والدتي يرحمها الله تسبغه علي.
في أحد الأيام وكنت أحمل ابنتي في حضني، فإذا بها تتقيأ بشدة ويصفر لونها، وبدت متعبة غير قادرة على الحركة، أصابني رعب لا حدود له، ولاحظ إخواني حال ابنتي فأسرعوا لاستدعاء الطبيب، ولدى فحصها من قبل الطبيب أبلغنا أن الطفلة تعاني من تسمم في الأمعاء سببه حليب (الباودر) المسحوق الذي كانت تتغذى به، وحين نظر الطبيب إلى علبة الحليب الفارغة وجد أن مدة صلاحيته قد انتهت منذ مدة طويلة، وأن الحليب لم يكن صالحاً للتغذية.
واقترح الطبيب ضرورة محاكمة البائع (التاجر المستورد) وكان تاجراً أعجمياً لا أذكر اسمه، وإنما كنا نعرفه (بفلان العجمي)، غير أن أخي عبد الله رحمه الله حاول تجاوز الأمر، وطلب إلى الطبيب التركيز على المعالجة، وظلت ابنتي أياماً تحت إشراف دقيق من قبل الطبيب ومني أيضاً، حتى من الله عليها بالشفاء، وحين رآها والدي الإمام، رحمه الله، معافاة وبصحة جيدة، وعاودتها الابتسامة واللعب وحركاتها الرائعة، أطلق عليها اسماً آخر وصار يذكرها (البنت ربح) لأننا ربحناها من الموت، فقد وصل بها المرض إلى حالة يئسنا معها من شفائها لولا مشيئة الله، ولكنها أزهرت وبدت كوردة جميلة متفتحة في حديقة خضراء، فعين لها عسكرياً اسمه حسين البراق يتولى مرافقتها إذا ما أخرجتها لفسحة أو نزهة، أو لشم الهواء كما نقول. 
من تقاليدنا المكروهة خروج بنت من إحدى دورنا إلى الشارع مهما كانت الأسباب، أما ابنتي فكانت الدلوعة والمحبوبة، وكنت متأكدة من حب والدي ومدى دلالي عنده، وأعرف أنه لا يرفض لي طلباً، فكنت أنتهز الفرصة أجمل ابنتي بأحسن أزيائها، قميص وجاكيت صغير جميل وطاقية، وجوارب وحذاء، وأزينها فتبدو بصورة ملائكية أخاذة، وأدخلها إلى والدي باستحياء أتقدم منه وأنا ممسكة بها، وأحدث والدي رحمه الله قائلة: هل تأذن حضرتكم بخروجها لشم الهواء والتنزه على عربتها؟
وكنت إذاك أسترق النظر إلى وجه والدي الإمام رحمه الله، وأرتاح عندما أرى أسارير وجهه قد انفرجت وافترت شفتاه عن بسمة رقيقة خفيفة حانية، أرى بريقها من عينيه، فيكون جوابه دوماً لا بأس، على أن يرعاها ويهتم بها العسكري حسين البراق.
فأعود مهرولة ويمضي العسكري حسين البراق يجر عربتها فتقضي وقتاً كافياً، ثم تعود إلي مسرورة منشرحة فأضمها إلى صدري في عناق طويل.
***
وتمر السنوات وروزنامة الزمن تتقلب سنة أولى غياب الزوج ثم سنة ثانية غياب وسنة ثالثة، حتى السنة التاسعة.
تسع سنوات غاب فيها زوجي، وهو لم ير صورة ابنته ولا رأى رسماً لها، ولا عرفت هي الأخرى وجهاً له، وإذا ما سألتني أقول إنه يدرس ويتلقى العلوم في مصر، كان يحزنني بأن زوجي لو رأى ابنته في أي مكان في هذا العالم لما عرف أنها ابنته، وهيهات في كل سنة يرسل رسالة يتيمة، وأحياناً في كل سنة رسالة يتبعها بالثانية أحياناً، وكل ما في رسائله أنه يكن لي كل ود واحترام وتقدير، ولا يذكر شيئاً عن العودة أو أنه مشتاق لرؤية ابنته، ورسائله أعرضها على والدي دوماً. 
كنت أسائل نفسي أحياناً: ألهذا الحد مشغول زوجي بالدراسة والجد والاجتهاد، يقولون: إن الدراسة في مصر لا تكون في الصيف، إذ لا بد من الإجازة كما عندنا. ترى لماذ لم يحاول ولو لمرة واحدة أن يفكر بزيارتنا، ألا يشتاق لي ولابنته وللوطن وأهله.
إن غياب زوجي لسنوات تسع كاملة ما جعلني أفكر بتاتاً بطلب الطلاق منه، وإني أعلم أن الشرع يعطيني الحق في الطلاق بعد غياب ثلاث سنوات، وبدلاً من ذلك فقد تأسيت بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أيما امرأة غاب عنها زوجها، فحفظت غيبته في نفسها، وطرحت زينتها وقيدت رجلها، وأقامت الصلاة، فإنها تحشر يوم القيامة عذراء طفلة).
ولا أكون مغالية إن قلت: لم يخطر موضوع الطلاق على بالي، فأنا أعيش في سعادة غامرة عند أبي، وبين إخوتي الذين أغدقوا علي وعلى ابنتي، الكثير من الهدايا، فما عادني واحد منهم إلا وحمل أجمل ما يهدى، وكل ما يتمناه إنسان.
ضاءت الدنيا لي بابنتي، وهي تكبر أمام ناظري وبرعايتي، بدأت ابنتي الدراسة (دراسة القرآن) عند أستاذتي، كانت ابنتي ذكية وأكملت قراءة القرآن، والحمد لله على كل حال.

يتبع العدد القادم