الشاعرعبد الإله البنوس نسيج من خيوط الحياة على قافية مزجاة بهاجس الموت
- تم النشر بواسطة مجاهد الصريمي / لا ميديا
مجاهد الصريمي / لا ميديا -
تجتمع الأضداد، وتلتقي المتناقضات، ثم يتسنى لنا أن نجد الإنسان الذي تجتمع به كل مظاهر الطبيعة، ويتجلى من خلال التعمق فيه والاستقراء لدواخل نفسه منهج تعريفي لكل ما يكتنفه الغموض في كل الموجودات من حولنا.
إنه الإنسان واقع التكريم، ونفحة روح التقديس، والتعظيم الإلهي. واليمن نواة شكلت تربتها سلامة الأصل، وطيبة وطهارة الفرع، عاش إنسانها عمق وجوده الموصول بكل وجود عبر ما اختزنته نفسه، وتكون بين جوانحه ووعاه قلبه واستوعبه عقله وتضمنته نشاطاته العملية -من فيض الرسالة الربانية- لأنه أول من أجاب الأنبياء على مدى التاريخ، وكان ولا يزال يعيش عالمية النور الرباني لأن الرسالة الخاتمة تجلت به، وعلت بما تم لها من بذله وتفانيه وصبره وجهاده، فكان مقتضى الفطرة ومحتوى الإنسانية ومؤدى الرسالة المحمدية على صاحبها وآله الصلاة والسلام. ومقام الحرف الذي نسير في ركابه يوحي بالشعر، ويفتح أبواب نفوسنا على باعث أنفاسه وتعدد معانيه وتنوع مبانيه. وضيفنا اليوم شاعر يريك بشعره خيوط حياة تتسلل منفردة لتشكل ذاتاً من الأمل بنسيجها المقدود من السعادة والشقاء، الفقر والغنى، الماضي والحاضر.
كأني به غيث من الدمع والدما
بجوهره معنى الكمال وربما
يريك حياة في محيط جنازة
ويزرع بستاناً بقلب جهنما
إنه الشاعر عبد الإله علي مهدي البنوس، من أبناء جهران، محافظة ذمار. له 5 من البنين، وهو حاصل على الثانوية العامة، ولديه شهادة دبلوم في الحاسوب. قطع شاعرنا مرحلة من سنين عمره ناهزت النيف والأربعين. شعره مطبوع على الوضوح، مضمخ بالحب العذري، مجبول على الصدق، محفوف بالحزن، مبني على الرفض لكل زيف. ولن يكتفي بأن يمنحنا سيرته الذاتية كلاماً جافاً، بل قام بنظم ذلك شعراً، كما سنجد ذلك بهذا النص الذي يحمل عنوان السيرة الذاتية جاء فيه قوله:
أنا البنوس ولابتي للعرب فَي
ما اذل نفسي، عزتي في ثباتي
الدين راس المال والزاد والمَي
من يوم ما اتكلفت حتى مماتي
ما اساير الهامل ولا ابني على غي
أقطف حديثي من عناقيد ذاتي
ما اخون عهدي يا فتى دامني حي
ولا الفعول المخزية من صفاتي
أهوى الجمال وتنعكس فرحتي ضي
والخوف من ربى سبب في نجاتي
أطوي زمن ما جا على رغبتي طي
وارقى بمن حولي وتقوى عصاتي
وان جف بحر الهرج صمتي كما الري
راضي بما جاني ورزقي كفاتي
عادة ما يتخذ الشعراء من المرأة قناعاً يُقنِعون به أغراضهم، ويبثونها أحاسيسهم، وخصوصاً الشعراء الشعبيين، الذين لطالما ينقلوننا إلى عالم المُثل، ويأخذون بأيدينا نحو قيمة من القيم الأخلاقية، من خلال بث الحياة في تلك القيمة، بحيث يرينا الشعراء صورتها على هيئة فتاة في قمة الحسن وأتم وأكمل المعاني الجمالية، كما هو على سبيل المثال حال الكثير من الشعراء مع القبيلة ونواميسها وأعرافها، بحيث يقربون لنا القيمة المعنوية التي يجب أن نتحلى بها من خلال تجسيدها بصورة حسناء، لنجد الآلية للتمكن من الأخذ بزمام المعنى الجوهري للجمال عبر العملية التقريبية التي تجعلنا نلمس المعنى في نطاق الحس. ولأن المرأة هي العالم الحسي للجمال كان لزاما على الشعر أن يجعل من البعد المعنوي لكل معاني السمو الذاتي قلادة على جيد فاتنة من النساء. وقد تجد مدينة بصورة فتاة، وربما تجد بلدة بكاملها وقد تراءت لك من بعيد مليكة على عرش الحسن، في قصر من العفاف المحفوف بأسوار التمنع، المطرز بشرفات الدلال، المزدان ببساتين القيم. وقد ترى تلك البلدة أو المدينة وقد تمثلت لك كفتاة خلعت أزار عفتها ولمحتها واقفة على أبواب مبغى ضمن بائعات الهوى، وهذا نراه لدى البردوني بشكل كبير على مثل قوله:
على باب كسرى رميت الجبين
وأسلمت نهديك يوم السقيفة
أتعطيك واشنطن اليوم وجهاً
خذي، حسناً، جربي كل جيفة
وضيف مساحتنا يستدعي "عدن" وهي مقيدة بقيود الهوان يسوقها جمع من المرتزقة إلى سوق النخاسة، وقد نال المحتل من حجلها، وهمَّ بانتزاع خلخالها وسوارها، كاشفا لها فداحة الحال ومبينا لها عاقبة السير خلف الوهم، كما هو في هذه القصيدة:
يا بنت يا اللي ترهبيني بالاحلاف
متناسية حبي وطول اعتكافي
كنتي لي الدنيا وانا فيش طواف
حتى انحرفتي وانكشف كل خافي
ما كنت لش غاصب ولا كنت خطاف
كنت السند لش بالسنين العجافي
ربعش عيال السوق تجار الاطراف
ضحكوا عليش وعلموش التجافي
فجأة تطاولتي على كل الاعراف
ولغيري اسرعتي برفع الكوافي
أنا الذي حبيت واخلصت باسراف
والعهد ما خنته وانا شخص وافي
تعامليني بالتعالي والاسفاف
وانا الأصيل اللي صعيب انحرافي
ربعي قبايل ترفع الراس واشراف
تحت الطلب بالنايبة والعوافي
هذا أنا يا بنت معلوم الاسلاف
ماني كما ربعش لقيط المشافي
وان كان عندش علة الشين والكاف
باعطيش نبذة موجزة لا تخافي
أنا يماني حر في الحق ما اخاف
أموت واحيا بين ربعي سنافي
اعشق بلادي واكتب النقد بانصاف
وان دق طبل الحرب شديت حافي
ولا نزال مع شاعرنا، وهذه المرة نحضر مجلس عزاء يقيمه عندما انتقلت زوجته إلى رحمة الله، بحيث نراه مناجي طيفها ونديم ريحها وأسير حبها، ينقلها من مغبة الفناء إلى سدة تفتح زهور الخلود والبقاء، يعيشها في عالم حياته، ويدفن معها كل معاني الحياة، كما يحكي هذا النص:
يا عصَاتِي حياتي بعد مُوْتِش طَفَش
ليت والموت جاني شَلّ رُوْحِي فِدَاش
ليت قَبْرِش بِرَمْلِة والحِجَار الحَبَش
يفتتح لي وعيني بس لحظة تِرَاش
يوم جيتي زماني دار بي وانْتَعَش
صِدْق لا قُلْت قلبي كان مَيِّت وعَاش
عادت الروح يا روحي لجسمي ونَش
قام حَظِّي وبَعد الدَّيْن فِيْزَة وكاش
كل من شافنا متماسكين انْدَهَش
والعيون الخبيثة عَجَّلَت في قَضَاش
وهاجس الموت هو البعد الذي يتدفق فيه جل نتاجه الشعري، كما تؤكد هذه القصيدة التي هي بعنوان "الوصية" يقول فيها:
لا تنتظرني يا مُنى? الروح لا ابطيت
وصيَّتي حطيتها داخل الكُوت
في الجيب الايسر شِلَّها لا قد اقفيت
سجلت فيها كل شي قبلما اموت
خُذ مِنَّها ما ينفعك داخل البيت
والباقي احذر تعرفه جن هاروت
ما عادت الدنيا على ما تمنَّيت
لا طَعْم للفرحة ولا نفس للقوت
حالي على ما تعرفه ما تعدَّيت
أمسي حبيس الهم والصبح مكبوت
وهنا ينتهي بنا الطواف في ربوع عالم ضيفنا الشعري، وتبقى "لا" كمالاً لكُنهِ الآدمية شكلَ
ومعراج روح يممت صوب كربلاء:
فآدم يبدو مثبتاً لاختياره
وهابيل يتلو سفرها بين من تلا
يطل حسين الطف من جنباتها
ونهج حسين العصر فيها تأصلَا
المصدر مجاهد الصريمي / لا ميديا