علي نعمان المقطري / لا ميديا -

خلال الأشهر الثلاثة الأخيرة شاع لغط كبير حول مشاورات سياسية تجري بين السعودية والطرف اليمني الوطني المدافع عن الوطن ضد العدوان السعودي الأمريكي، وخاصة منذ ضربة «أرامكو» الشهيرة والمتغيرات الجديدة على الساحتين الإقليمية والدولية، وفي مقدمتها التراجع الأمريكي عن ساحة المواجهات المباشرة مع محور المقاومة وإيران وسوريا ولبنان المقاوم، وإقرار ترامب بالعجز عن المواجهات مع المقاومة الإسلامية العربية المباشرة، وانتقاله إلى أسلوب الحرب الناعمة والمالية الاقتصادية والأمنية والمخابراتية، وهو ما نشاهده الآن على ساحات العراق ولبنان وإيران في سياق سياسي يقول على لسان رموز المشروع الأمريكي المحلي بأن ما خسره المشروع الأمريكي السعودي بالحرب العسكرية الساخنة يجب تعويضه بالحرب الناعمة والثورات الملونة والتنطع بشعارات شعبوية حقوقية مبهرجة أعدت وصممت في المطابخ الأمريكية الغربية، ومولتها الصناديق السعودية الخليجية والجمعيات المدنية والحقوقية المنتشرة كالفطريات في البلاد المستهدفة بالمؤامرات الامبريالية الناعمة والساخنة. 

وتلك هي بعض ملامح الخطة التبادلية الامبريالية الأمريكية في المنطقة بعد فشلها العسكري، إذ تتجه نحو الحرب الجديدة حيث يكون لها تفوقات وتراكمات قوى وسحب الخصوم إلى ميادين وساحات حرب جديدة مختلفة عن الحرب المباشرة السابقة التي خسرتها، وفتح حروب استنزافية ومالية وسياسية وتموينية ونفسية وثقافية وأزمات وتخريب واختراقات وفتنة داخلية وحروب بينية، وهدفها إركاع الأنظمة والقوى الممانعة وإملاء الشروط عليها لقاء تنازلاتها واستعادة نفوذها باستخدام سلاح المال والدعم والقروض والتموين والاحتياجات البشرية والتحكم فيها.

العقم الأمريكي والإخصاء السعودي
هذا العجز الفعلي الواقعي الأمريكي الغربي قد فاجأ العملاء الخليجيين والإسرائيليين الذين استثمروا طويلا ماليا واستراتيجيا وعسكريا وسياسيا على العكس، هذا العجز شكل ضربة مزلزلة في الصميم للتكتل التبعي الوظيفي في المنطقة، وهو التكتل الذي سارع منذ زمن إلى مسابقة السياسة الأمريكية والمزايدة عليها في التنطع نحو الحرب وخيارات الحرب ورفض الاتفاق النووي والتحريض على نقضه والاستعداء المتواصل لإيران وسوريا ومحور المقاومة كاملا، والمحرض على الصدام والحرب والداعي إلى ملء المنطقة بالقوات الأمريكية وإعادة احتلالها مباشرة ومن أجل حلبها ماليا، وهو ما سايره ترامب فترة من الوقت حتى رأى بأم عينيه أن هذه الكيانات الشيطانية المتخمة بالأموال والنزوات والفساد لم تعد تملك أياً من مقومات البقاء في مواجهة شعوبها التواقة إلى الحقوق والتقدم والتحرر والمشاركة في تقرير مصائرها ووقف عجلة النهب والهدر المالي الرهيب وتبرير استغلال بضع أُسر وعوائل للثروة الوطنية والقومية الضخمة التي يجري تقاسمها بين الطغمة التقليدية المسيطرة والاحتكارات الأمريكية الحامية لها، فالسلام الحقيقي في المنطقة يجعلها أمام مساءلة الشعوب المقموعة الآن تحت مبررات مواجهة الخطر الإيراني الشيعي والروسي والصيني ومحور المقاومة والممانعة والرافضة والمجوس والعلويين.. الخ من الادعاءات التضليلية التي تستخدمها السعودية لتبرير التوحش السياسي والتبعية والإهدار والإفساد والاستبداد وخدمة إسرائيل والاستعمار وتمكينه من السيطرة والهيمنة على المنطقة ودفن القضايا العربية والقومية والتحررية والاستقلال والنهضة. 
ولذلك فإن سياستها قائمة على الاحتراب والتشرذم والتفكك والتقسيم والتخريب والفتنة الشاملة الطائفية والجهوية ومنع أي شكل من أشكال التقارب أو التوحد بين الأطراف العربية والوطنية المحلية والإسلامية.
إن العقم الأمريكي لا دواء له ولا شفاء منه، لأنه كامن في طبيعته الذاتية والموضوعية، ولا عودة عنه، لأنه طور محتوم في تاريخه الحيوي ككائن محكوم بسنن الكون الثابتة، هو عجز عن الإنجاب، وعجز عن المدافعة والمصارعة المفتوحة مع قوى فتية شابة تنهض، وامتلاك الأدوات والأسلحة والأموال لا يفيد شيئا في تغيير السنن الكونية الإلهية وإلغائها، والأجساد الشائخة الهرمة والفانية والنفوس الملوثة لا تجدي شيئا في الميدان، بل إن كثرة الأموال كثيرا ما سرعت في إفناء الأجساد وتحلل الأمم وتنكيس الحضارات والدول، وليس مثال روما وفارس ببعيد.

أشباح وأطياف وورق
إن التضخم الهائل في القوى المالية لا يتحول إلى قوة حقيقية دوما إلا إذا تم في دول حرة مستقلة متصالحة مع شعوبها الحرة، ولذلك بحكم طبيعة الكيان السعودي وأخواته الطبيعية التابعة الملحقة بالأجنبي، الفاقدة الاستقلال والإرادة الحرة، فإن هذه الأموال الضخمة التي تحسب بالتريليونات الدولارية خارجة عن السيطرة والتحكم الذاتي، لأنها في أيدي الأمريكي وبنوكه ومؤسساته، وهي التي تحدد الاتجاهات والأولويات التي تخدم مصالحها هي والصهيونية فقط، ولا تملك الكيانات الملحقة السلطة عليها وعلى التصرف بها إلا وفقا لسياسة الأمريكي الصهيوني، وهذا يقتضي إبقاءها ضعيفة مائعة خانعة مترفة غارقة مستعبدة لشهواتها الحيوانية ونزواتها الشيطانية وسعارها الاستهلاكي ومجونها وعبثها الذي لايرتوي ولا يسكن لتبقى عالة على الأمريكي الصهيوني بشكل مطلق.
ومن هنا نرى هذا التناقض المسيطر على تصرفاتها وسياساتها بين ما تريده أو تريد أن تتظاهر به كأنه حقيقة فعلية، وبين ما يمكن فعلا أن تفعله في الميدان والواقع، ويلخص هذا الواقع ترامب بصراحته الفجة حين يقول مكررا: سنحلبكم كبقرة حلوب حتى يجف الضرع، وبعدها سوف تذبحون، أو يقول: أنتم بدوننا لا شيء، ادفعوا أو الهلاك لكم.

حرب الكوكاكولا فرصة تحرر
إن وطناً محاصراً صامداً معتزاً بكرامته وشرفه وقيادته لا يمكن إركاعه بقطع الكوكاكولا عنه أو حرمانه من الآيسكريم أو المعكرونة أو الزبدة والقشطة الأجنبية، وما يجري الآن في العراق ولبنان ليس له فرصة في تحقيق نتائج شبيهة بما هناك، لأن تلك الحروب قد سبق تطبيقها في اليمن خلال العدوان والحصار الشامل، وقد استنفدت جميع المفاعيل التي تراهن عليها، لأن الأمريكي قد فرض تسويات ناقصة ملغومة في السابق على المكونات المقاومة هناك، واحتفظ في يديه بقسم من النفوذ السياسي والاقتصادي والاجتماعي على تلك البلاد عبر المكونات التابعة له الملحقة بمشاريعه، استنادا إلى لعبة توازنات الطوائف والإقطاعات السياسية العائلية والرسملة الطفيلية الربوية التابعة غير الإنتاجية المستقلة، وهذا ناتج عن بقاء واستمرارية التعاون والتشارك مع الامبريالية الأمريكية والرجعية العربية، وتلك الأوطان في لحظات انهيارات وجودية غابت عنها البوصلة الصحيحة، وافتقرت إلى القوى الضرورية والكتل التاريخية للتغيير الداخلي الوطني التحرري، لأنها جاءت على قطارات النزاعات الطائفية والجهوية مع تواطؤات مع الغرب الاستعماري وحاجات أمراء الحرب وباروناتها، وتوزع الطوائف المرسملة والمسعودة على المراكز الأجنبية لاستزلامها في حماية مصالحها وتبادل التخادم.

هذا في اليمن غير وارد
أما عندنا في اليمن الحر الأبي الآن وفي الغد لا يملك العدو مثل تلك الميزات والمقدمات، وأهمها غلبة المزارعين والمنتجين الوطنيين والقبائل الحرة والكادحين وجيشهم الشعبي الوطني الثوري على قيادة التطور الاجتماعي والسياسي التحرري الراهن وإنجاز الثورة الوطنية الاستقلالية والمرتكزة على بنية الدولة الوطنية الجديدة التي تنهض وتتخلق من تحت ركام الحرب الوطنية التحررية وعلى أنقاض القوى القديمة المستتبعة التي انتقلت إلى جبهة العدوان الأجنبي فسقطت تاريخيا إلى الأبد في عيون الشعب وأعدمت لها سلفا أي دور محتمل للمشاركة في المستقبل.
وفي ظل ثورة شعبية اجتماعية عميقة الجذور قذفت بالقوى الطفيلية الإقطاعية الطائفية الوكيلية خارج المحيط والمجتمع مع أحزابها ومنظماتها وقواها السياسية والفكرية القديمة والجديدة.

المقدمات الميدانية تنتج معادلاتها الاستراتيجية
لقد جاء اتفاق «الرياض ـ جدة» الأخير بين طرفي العدوان السعودي الإماراتي، وهو كغيره من الأحداث والخيارات المزدوجة الأوجه، يحتمل العديد من المعاني والمفاهيم المتعددة والمحتملة والممكنة على وجه الإجمال والعموم، لكن ليس هناك سوى وجه واحد هو الرئيسي من تلك الأوجه، هو ما يهم أكثر من سواه، وهو ما يشكل جوهره الذي يمنحه حقيقته، وهذا الوجه الجوهري هو ذلك الوجه المتسق مع سياقاته وخلفياته التاريخية التي أفرزته، فهو ملتحم بها غير منفصل ولا مستقل عنها إلا بصورة نسبية، ولا يمكن فهمه إلا بالعودة إلى استحضار سياقات الأحداث والتطورات الاستراتيجية والسياسية والميدانية في ساحات الحرب الكبرى الرئيسية ونتائجها، لأن في تلك السياقات تكمن الخلفيات والدوافع والقوى التي أدت إليه، واستدعت حضوره، وهو في النهاية محكوم بالهموم المباشرة الرئيسية لأصحابه وأطرافه ومشغليهم الأعلين، وأولوياتهم الميدانية والسياسية، فهو جزء من بنية الاستراتيجيات والتكتيكات التي يتحتم على العدو الالتزام والتقيد بها خلال المرحلة القادمة التي بدأت الآن بهدف محاولة تعديل موازين القوة التي اختلت في غير صالحه في معارك الساحل والحدود، إلى مستوى جديد يفرض من خلاله شروطه ومعادلاته في فرض تسوية وتحقيق إنجازات تعادل ما يحققه الجانب اليمني، وتعطل مكاسبه ومفاعيلها على الأرض.