يحيى اليازلي / لا ميديا -

مفهوم الشعبي والعامي
حين تتوقف الحرب يبدأ صوت الشعر الشعبي بالخفوت، ويبدأ صوت الشعر الفصيح بالارتفاع، لأن النخبة في السلم تكون في الواجهة، وأما العامة فتذهب إلى المزرعة للفلاحة.
وتبدأ اللواكة والحداثة وفذلكة العميقين بتمييع القضايا وتغطيس العقل وتهجين الهوية...
أما القصيدة الفصحى المواكبة لأحداث الحرب والمعبرة عن معاناة ومظلومية الشعب، فهي شعبية بنظري حتى وإن جاءت بلغة الفراهيدي، ولا تقل أهمية عن قصيدة الزامل، بما فيها قصائد حسن المرتضى وإبراهيم الديلمي وإبراهيم طلحة ومعاذ الجنيد ويحيى شرف الدين والحارث الشميري وعبدالحفيظ الخزان وحسن الشرفي والبردوني وضيف الله سلمان ودرهم المؤيد وجعفر المؤيد... وغيرهم، كلهم شعراء شعبيون، لأن القصيدة الشعبية لا تعني بالضرورة أنها عامية، فقصائد ابي القاسم الشابي وروايات نجيب محفوظ لا خلاف على شعبيتها، كونها تنقل صورة معبرة عن حالة مجتمع القاهرة وتونس.

عبدالمجيد الحاكم
ما لك من الزنانة الملعونة 
شوش بذكر الله على الزنانة 
دام المعدل معدته مدهونة 
فرغ شريطه واستمع لألحانه
هل قرأتم في الأساطير والملاحم كهذا التماهي بين المقاتل وسلاحه؟! إنها تصدر عنه كمعزوفة من أصابع فنان محدثة أنغاما وترانيم... 
إن مواجهة الطائرة العدوانية التي تترصد المقاتل المجاهد في مترسه على قمة جبل أو أي موقع له، لا تحتاج لأكثر من ذبذبات تسبيح ترسلها شفتاه باتجاه الزنانة الأباتشي، فتعود أدراجها أو تتيه في الجو أو قد تسقط محترقة فتملأ الجو دخانا.
العاقبة للمتقي مضمونة 
مهما العدو حشد قوى طغيانه
احنا علينا بالسبب لا دونه
والنصر من رب السما سبحانه
دام المعدل معدته مدهونة
ركب شريطه واستمع لالحانة
أسقي العدا علقم من الكبسونة
يمسي على الخيبة يعد اغبانه
أعطاني الرحمن من مخزونه
وسر قوة شانها من شانه
إنه الشاعر أبو عدي الحاكم، وقلت له: ليش ما بش معك موقع في تلغرام؟! قال: "أنا أشتي موقع عند الله". 
هذا المجاهد العظيم يشبه حسن الملصي في جمال روحه وقوة إيمانه وعزيمته وأسلوبه.
إنه شاعر قرآني بلا منازع.

نشوان الغولي
بداية العدوان أنشد لطف القحوم زاملا من كلمات الشاعر نشوان الغولي، دعا فيه القبائل اليمنية إلى رفد الجبهات بالمقاتلين، وهو ما يسمى عند القبائل بداعي النكف:
حان وقت الرد والبادي اظلم
يا ملوك العهر والعنجهية
النقا مشروع والدم بالدم
يا رجال العز واهل الحمية
يا جبل مران يا قرن الاعجم
يا شوامخ يا قمم معتلية
بلغي كل القبايل تزلم
البكيلية مع الحاشدية
بلغي مذحج وهمدان الأعظم...
ما أشبه هذا الزامل بقصيدة الإمام علي عليه السلام التي مدح بها قبائل همدان وفيها هذا البيت: ولو كنت بوابا على باب جنة لقلت لهمدان ادخلوا بسلام!
ما أشبه زامل لطف القحوم في نكفه القبلي بقصيدة الإمام علي في مدح همدان، وخاصة ذكر أسماء قبل كثيرة في كلتا القصيدتين!
وما أشبه قصيدة الإمام علي في وصف همدان بزامل النكف الذي أنشده القحوم! ولا غرابة، فهذه الروح الجهادية الأنصارية من تلك الروح الجهادية النبوية:
ولما رأيت الخيل تضرب بالقنا
فوارسها حمر العيون دوام
وأقبل رهج في السماء كأنه
غمامة دجن ملبس بقتام
ونادى ابن هند ذا الكلاع ويحصبا
وكندة في لخم وحي جذام
تيممت همدان الذين هم هم
إذا ناب أمر جنتي وحسام
إلى آخرها:
ولو كنت بوابا على باب جنة
لقلت لهمدان ادخلوا بسلام!

 عبدالحفيظ الخزان
من أهم هذه الجبهات الجبهة التعليمية، فحين احتاجت هذه للحافز المعنوي والإمداد الروحي لتسطيع مواصلة السير على خط الصمود في الجبهة التعليمية، الذي يجسد دوره الأسطوري المعلم اليمني الأصيل لمواجهة الحصار الاقتصادي الذي فرضته عليه قوى الاستكبار الامبريالية بزعامة الشيطان الأكبر أمريكا وقرنها أبي جهل السعودية، وجهال زايد الإماراتي، وأذنابهم من مرتزقة ودجالي الداخل والخارج، كلهم ساهموا بشكل كبير في إفقار المعلم حربا للتعليم، وتكريسا للجهل، حدا أوصله إلى تحت خط الفقر.
عند ذلك سمع الناس صوتاً مدوياً، صوتا يعبر عن ألم هذا المعلم ويشحذ همته في الوقت ذاته.
لا بد للشعبْ ما يقرا ويتعلمْ
ويواكب العصرْ في الأسلوبْ والمنهاجْ
لا بد ما يجعل التاريخ يتكلمْ
ويقول: هذا اليمن قد صمم الميرَاجْ
صَفّ العمالَة أمام الشعب بايُهزمْ
والمُرتزقْ في انكساراته وفي الإحراجْ
وللمعلّمْ تحية شعبنا المُلهمْ 
ذي كُلَّنا من جهوده في الزمنْ افواجْ
أزكى سلامي يوافي كُل مَنْ علَّمْ
وقاوم الغزو والمحتل والأعلاجْ
كتبها الشاعر الكبير عبدالحفيظ الخزان، هذا الشاعر العملاق، وهو أحد كوادر العملية التعليمية الأكفاء، وله قصائد كثيرة تعالج مشاكل التعليم في زمن العدوان وقبله، من أهمها هذه القصيدة التي أنشدها عيسى الليث للمعلم، وقصيدة أخرى تناقش هموم الطلاب وتعبر عن آلامهم وأحزانهم جراء القصف على المدارس بصواريخ طائرات العدوان، مطلعها:
لا تَسَلْ قلبي وماذا أوجَعهْ
منذُ أعوامٍ توالتْ أربعهْ
إنني الطفلُ اليمانيُّ الذي
أغلقَ العالمُ عني مسْمَعَهْ
في بلادٍ يُقتلُ الشعبُ بِهَا
وبها الطفلُ يُلاقِي مصرَعَهْ
واقعُ التعليمِ مأساةٌ هُنا
دمَّرَ القصفُ طموحي أجمَعَهْ
حلَّق الغازي على مدرستي
يقصف المبنى فأنهى موضعهْ

عيال مفلح
حين يتحدث النقاد عن شاعر مقل وشاعر مكثر، فإنهم بالتأكيد يضعون في اعتبارهم معايير الجودة والرداءة، فمن الطبيعي أنه كلما أكثر الشاعر من إنتاجه الشعري أن يقال عنه كلام ما، لكن ماذا لو كان هذا الشاعر جيدا، وما يقدمه رغم غزارته جيدا؟! 
مهدي مفلح طفرة شعرية فريدة، غزير الإنتاج ومبدع في الوقت نفسه، وما يقدمه جزء مهم من هذه الثورة الشعرية المدهشة المحفزة للوجدان، الساحقة الماحقة للعدوان. ويستطيع مواكبة الأحداث أولا بأول، بما يليق بالحدث وبما يشرف الشعر. إنه يحمل بين ضلوعه تاريخا شعريا صادقا، ونهرا متدفقا عذبا رقراقا تخضر من جوانبه وجدانات ثقافية ومعرفية ستثمر جمالا وتصير مكتبة شعرية بديعة عما قريب. وهذا الكلام ينطبق بالتأكيد على الشاعر محمد مفلح، وكلاهما شاعر مبدع.