يحيى اليازلي / لا ميديا -
القصيدة العمودية الفصحى المواجهة للعدوان -بعيدا عن المباشرة لشعراء القرآن- تتسم بالنضوج عند كثير منهم، ولم أرَ شاعرا فصيحا متخبطا، لأن الوضع لا يقبل التخبط. حتى في القصيدة العامية، هناك شعراء متمكنون خاضوا غمار الحرب بالشعر واستطاعوا الوصول إلى حماس الناس ليؤججوه. شعراء شعبيون لا يجدون ذرة من مشقة في الكتابة. يكتبون وكأنهم يتناولون القصيدة من "الكوة”.
في القصيدة الفصحى هناك شعراء تصدروا المشهد واشتهروا كشعراء للثورة، وكل منهم له صوته ويتميز عن غيره وله بصمته الخاصة في القصيدة. منهم معاذ الجنيد الذي يجيد إبداع التصوير الشعري كما يشتهي الموقف وبتقنية عالية، وصلاح الدكاك قوي اللغة، عبقري في بلورة اللحظة الشعرية التاريخية، وأحمد درهم المؤيد صوت ثوري هادر يكتب بقلب الأشتر ويقرأ بصوت الهبل...
وصاحبنا الذي نحن بصدده الآن شاعر جمع بين صوفية ابن علوان وتشيع ابن الهبل. وحينما يجتمع التصوف والتشيع في شخص ينتج لنا شاعر اسمه عبدالقوي محب الدين. إنه يكتب القصيدة بكل أبعادها الجمالية، مترعة بالبيان والسحر، والحب والتقوى، والوعي والامتداد الإيماني بهدي الأسباط، الذين هم الأبواب. أنت إزاء شاعر قوي محب. لست أنا الوحيد القائل بل هو أيضا يصف نفسه:
يااا ربّ...!
وانكسرت حروفي
وتلعثمت لغةُ الوقوفِ!
يااا ربّ...!
وامتلأتْ عيونُ 
الحالِ
بالحزن الذروفِ!
ياااا ربّ:
جئتك بالرضا
وإليه، مخترقا ظروفي
أملي كرأس «السبط»
محمول
على شبق السيوف
والأمنيات نوائح،
والعمر فاجعة الطفوف!
ياااا ربّ...!
جئتك من دمي
بدموعِ شيعيٍّ وصوفي!

خائية فخمة
القصيدة الخائية للشاعر عبدالقوي محب الدين من حيث الشكل والمضمون قوية جدا، فالشاعر متمكن من كتابة القصيدة العمودية ويمتلك ناصية القافية مهما كانت نادرة، يأتي بها طائعة، وكأنها خلقت خلقا. وعلى ندرة قافية الخاء لا تشعر أنه وجد صعوبة في استحضارها، بل إنك ترى كم أنها منسجمة جدا مع البيت كأنها لا تصلح إلا له ولا يصلح إلا لها:
لنا اليوم بالنصر أن نشمخا
وللأرض في الصور أن تنفخا
وللحلف أن ينتقي حتفه
وأن يلبس العار من لطخا
أغارت منى النفط -كي ترتوي-
علينا،
وأغرى العدو الأخا
ومن لم يكن من كباش الحشود
غدا في لظى صمته مطبخا
فمذ قيل:قد جمعوا فاحذروا...
وثبنا،
«هو الله»، لن نُشرخا
«هو الله» في كل ساحاتنا
شموخ،
صمود،
ثبات،
سخا!
هذه القافية وافقت الحالة الشعورية النفسية للشاعر فعبرت عنه في تلك اللحظات، وبشيء من الفخامة والأنفة، تشعر وأنت تقرؤها أنك تريد أن تقول له:بخ بخ لك يا شاعر اليمن الكبير.
وما أزال أؤكد أن القصيدة تفرض بحرها العروضي وقافيتها النغمية ولحنها الإنشادي، وقد جاءت كما يجب ومن حيث هو يفخر ويتباهى ويرفع رأسه كفارس عظيم منتصر. انظر إلى جزالة كلمات القافية المعبرة عن كل ذلك الفخر، والتي تنسجم معها كلمات القصيدة ومعانيها كلها. فالتاريخ حاضر، والشموخ، والشمس، والكباش، والمرجان، والبرزخ، والجلالات، والسمو، والفجر، والصرخة، والثبات، والصمود... هذه القصيدة بصراحة تمد القارئ بالطاقات الإيجابية ولا سبيل إلى الدموع والحزن فيها.

الحب
الحب في ملة محب الدين لا يهز جوارح من يهواه إلا تدلى بالمنى رطبا:
هذا هو الحب، ما هزت جوارح من
 يهواه إلا تدلى بالمنى رطبا. 
وفي حين يرى أن:
الحب يا الله معراجي إلى
طه ويسرج لي البراق المولد!
يقول:
صلى عليك الحب يا باب المنى
فافتح محب الدين نحوك يصعد!
فالجملة الثقافية هنا تكاد تقول: الحب هو الله.

وفي موضع آخر يقول:
عليك عليك يا ابن البدر صلت
مواجيدي، ورب الحب يوحي!
فالله لا يجب إلا أن يكون رب الحب ورب كل شيءٍ.
الشاعر مثقف وواع، ولا يأتي بكلمة إلا وهو يعرف معناها ومقصدها في السياقات.

الباب
يقد الصف من دبر ويسعى
إلى الباب الذي رفض الدخولا!
قدّ الصف جملة تم استيحاؤها من قصة يوسف، فلذلك توحي بأن ثمة تحرشاً سياسياً من قبل السلطة، لأن لا علاقة للسياق بشيء آخر.
والباب موصود ويخشى الفتح من أغلال مالك!
 يشرح مدى هيبة السيد إلى درجة أن الباب يخشى الفتح.
وعموما مجيء الباب في نص يمتدح ويدل على عشق القائد فيه إشارة إلى نظرية الباب وبوابي مدينة العلم وهم أئمة أهل البيت. والمعنى الذي في ذهن الشاعر أنه القائد حامل لواء أهل العلم في هذا الزمان.
وهذا الباب عجز لا يؤدي
يؤذن للمخاوف بالدخول!
في هذه القصيدة اللامية المشبعة بالبوح والشجن والخوف والصمت وتناقضات جمة تريد أن توضح مدى توجسه في صحارى الليل يسري بحواسه. هذه القصيدة تستحق أن تدرس مستقلة، غير أننا في مقام الأبواب. يحل الباب في أحد أبياتها كرمز ما، وفي موضع آخر تختلف رمزيته. فمن خائف حذر إلى متق مقاوم.
فهل تدري الحروب بأن كف الـ
رفيق الباب أدمنت الطبولا؟!
إنه يتحدث عن شيء ما يمنعه من الذهاب إلى الحرب. ونخلص في هذه الجزئية التي نحاول خلالها فهم رمزية الباب لدى محب الدين أن الباب لعله كان والده.

الليل
والليل يصطنع الزوال 
أمامنا، والصبح حالك!
السياق يدل على ليل يتصنع الزوال ويتماوت، كناية عن مكر.
شقوا سفوح الليل حين تراكمت
برمالها الأفواق والأتحات!
يتحدث عن المقاتلين الأبطال الشجعان الأقوياء، ويصور مدى كل ذلك من خلال شقهم لسفوح الليل، وأن شق السفوح أعسر من شق القمم، لضخامتها. وقوله "الأفواق والأتحات" اشتقاق رائع للدلالة على الكثرة. هنا جملة ثقافية مخزونة في ذهن الشاعر من قول بشار بن برد في وصف المعركة:
كأن مثار النقع فوق رؤوسنا
وأسيافنا ليل تهاوت كواكبه!
لقد أبدع عبدالقوي بشكل مدهش وأدهش بشكل بديع، في هذا الوصف.

صمت
وخيبة شاعر تسعى
في نبض هذا الليل كالأفعى
لا الليل أرغم كي أموت 
ولا صبح دنى لأعيشه طوعا!
ما إن قرأت البيت السابق حتى تبادر إلى ذهني قول البردوني:
لست أدري ما لي إذا رمت شيئاً 
حال بيني وبينه الحظ واليم 
كل شيء أرومه لم أنله 
أحرام عليّ حتى جهنم؟!
وعموما عبدالقوي قرأ البردوني وتأثر به كما تأثرنا به جميعا وتقمصنا عباءته، ولكنه استطاع التميز والخروج من قميصه ببراعة.
يا عمري الليلي أحرقني 
صبري وأطفأت المنى الشمعا!
يعني أنه يقضي معظم الوقت في السهر ترقبا لتحقق المنى التي تفوق في قوتها هدوء الليل، إنها أشبه بنهدات متوالية سارعت في انتهاء الشمع، شمع العمر طبعا، ولعله يتحدث عن سن الـ30 وشعوره بأن عمره يهرب منه.
أنا والليل غابات أراني
أتوه به وأخشى من وصولي!
والليل كأنه غابات وأدغال يتوه به ويخشى الوصول!
هذا هروب من الضوء. إنها طقوس العزلة والارتباط بلحظات الليل المنفرد، للتسري للهموم.
زرعوا ضفاف الليل رغم جفافه
صبحا، لتثمر بالسنا الأجواء!
وصف هذا الليل له وضع، ووصفه الليل في البيت التالي له وضع آخر.
إنا نسجنا صباحا بالدماء وما
زلنا إلى أن يجف الليل والسهد!

الحزن
بالنسبة للحزن، لم أجد نصا لعبدالقوي محب الدين يحمل من الحزن مثلما تحمله قصيدتاه في رثاء صديقه ورفيقه الأستاذ محمد المنصور. ويقول في إحداهما:
دارت بنا الدنيا عليه فدوري
بحثا عن المعدوم والمستور
بين الأماني في المحال لعله
يهدي إلى نسياني الأسطوري
عن أي صبح في غياهب من بقوا
وعن الهدوء لعمري المذعورِ
دوري على الفلك الذي ما عاد في
رئتيه ما يكفي لبوح سطوري
يا دمعة اليتم التي في خافقي
من ذا يجفف حزنك الأحفوري
من بعد أن رحل الأحبة بالسنا
وتجففت مثلي منابع نوري؟!
رحل الأحبة، والأحبة كلهم
كانوا بشخص «محمد المنصورِ»
يا سيدي «المنصور» كيف خذلتني
وتركتني لبكائي المسعورِ
للذكريات تلوكني. وتمجني
قيحا يسقي بالحنين حضوري؟!
يا سيرة الأشياء، يا كينونة الـ
لحظات، صمتك للقاء عبوري!