ليزا روز جاردنر / مرافئ -
متجلية صامدة رغم الحروب والحصار المميت، بقي اسم اليمن مشحونا بشجن الوجع ومثقّلا بهموم القمع وويلات الحصار… هذا البلد الذي تعجز اللغة عن وصف أحواله وما يحدث في ثنايا طياته من ظلم وطمس مُمنْهجٍ لتاريخه المهيب…
ذُكر اليمن في الكتب السماوية القديمة فوصفت التوراة اليمن بأنها أرض الخير والنفوذ، وصفها المصريون القدامى بأنها أرض النور أو الأرض المقدسـة، بينما فئة من المستشرقين وصف اليمن بأنها بلد العجائب والغرائب، وقد أطنب المؤرخون بالمختصر أن اليمن بلاد القصور، والحصون، والسدود، والقلاع، والجنان. وذكروها بأسماء لا تعد ولا تحصى فهي عدنان الأرض وقلب التاريخ ومهد الحضارات. وفي كتب التاريخ القديمة صُنِّفت اليمن عند أوائل الجغرافيين والمؤرخين بأنها «الأرض السعيدة»، وسمتها أسفار العهد القديم «تيمناً»، منشقة من الجنوب «يمان». ويقال بأن اسم اليمن هو نسبة لأقدم أجداد اليمن وهو «أيمن بن يعرب بن قحطان» وفي اللغة العربية يتجذّر معنى اليمن من كلمة «اليُمن» بمعنى الخير والبركات.. امتدت جغرافية اليمن في العالم القديم ليكسوَ سطح جميع الربوع الجنوبية لشبه الجزيرة العربية، وضمت في ربوعها اليمن وعُمان، ممتدة إلى موانئ مضيق هرمز في الشرق، والبحر العربي في الجنوب، والبحر الأحمر في الغرب، وامتدت اليمن موصولة بأراضٍ فسيحة من بلاد الحجاز حتى بلغت مشارف وتخوم مكّة شمالاً. وقد أيد المؤرخون بأن اليمن في العهد القديم توحدت تحت حكم الملك «كرب إل وتر» أوّل من حمل لقب «ملك سبأ»، خلال 450 ق. م. لماذا حيّر اسم اليمن العالم القديم؟
لعل لغز اليمن كامن في تطور جوهرهُ ورقي شعبه، فقد أثبت اليمنيون بأنهم متميزون في الهندسة المعمارية المعقدة، وما يليها من بناء السدود، والزراعة بتقنية عالية، وساعد على هذا مناخها المعتدل والأمطار الموسمية المباركة في المنطقة، لتخلق في أرض اليمن جنات وعيوناً وازدهاراً لا مثيل له. وقد عُرف أهل اليمن بالكرم، وبالحكمة، والمعرفة، وبحبهم للحياة واحترام المرأة وتقديسها، وقد ذكر القرآن الكريم، وكذلك أسفار العهد القديم، قصة الملكة «بلقيس»، حينما شاورت وزرائها وسادة القوم في أمر رسالة النبي سليمان. وفي مطلع 2012، أكدت نخبة من علماء الآثار على اكتشاف فريد من نوعه حيث إنهم اكتشفوا آثاراً سبئية كبيرة الحجم في القرن الإفريقي وبالتحديد في إثيوبيا، وشرح الخبراء أن حكم الملكة بلقيس امتد من اليمن وشبه الجزيرة العربية الى روافد تلك البقاع الأفريقية خلال القرن الرابع قبل الميلاد.
تفرد اليمنيون بسياساتهم العادلة وانتظموا بأنظمة حكم جديدة ومتطورة، ولعبت المرأة اليمنية دورا مهما في الحكم، وكانت للنساء شتى الأدوار الإيجابية في الحياة اليومية اليمنية، فكانت الملكة، والمقاتلة، وسيدة الأعمال، ورمز الحياة والجمال، وتتجلى أهمية المرأة في العالم اليمني القديم في المخطوطات والتماثيل القديمة التي تدل على أهمية وركيزة المرأة في حضارة اليمن ووجدانه. ولا يجب أن ننسى الإنسان اليمني فهو فنان ومبدع في كل شتى المجالات.. فقد صنع الآلات الموسيقية القديمة حيث تصدّرت النقوش السبئية رسوم العازف الذي يحمل آلة موسيقية تشبه «القنبوس»، ولا يقف الأمر عند هذا الحد، بل يتعداه ليبين أن لليمن الفضل في التعريف والإشهار في أنحاء العالم بخصائص المُر واللبان والبخور، والروائح الزكية التي تزايد الطلب عليها من قبل دور المعابد الوثنية وقصور الملوك. ومن الطريف أن نعرف أهمية وقيمة هذه المنتجات التي كانت لا تُقدر بثمن، بحيث كان التجار اليمنيون يقايضون المر واللبان والبخور مقابل معادن الذهب والفضة من الدول المجاورة، وكانت اليمن من أغنى الدول القديمة وأشدها ترفآ، كما كان يملأ أرجاء اليمن ريح المر والبخور تتراقص مع ذرات الرياح لتعطر الجو والهواء في أرجاء البلاد، وقد وصف المؤرخ اليوناني ساني اليمن وقال: «تزفر ريحاً عطراً لأنها البلاد الوحيدة التي تنتج البخور والمر». كما زخرت اليمن ببساتين خضراء وأرض خصبة واستوطنتها الأنهار، والنوابع والعيون المائية والجداول من كل حد وصوب، واشتهرت اليمن بمبانيها الهندسية وقصورها الأسطورية الضخمة، ويجب ألا ننسى عرش بلقيس المذكور في القرآن والكتب السماوية القديمة.. ناهيك عن أن اليمن هي أرض «إرم ذات العماد، التي لم يخلق مثلها في البلاد»، ويزيد اليمن عزة وفخرا حين نقرأ سورة «سبأ» وهي سورة كاملة باسم مملكة سبأ اليمنية، وبيّنت السورة حياة وترف أهل اليمن القديم وجمال أرضها وبذخهم الشديد في العيش وبما أكرمهم الله من نعم تجلت بكثافة المياه والاخضرار والثمار والأمان، ويقال إنه كان الإنسان يمشي بغير زاد وماء من صنعاء في الشمال الى مدينة حضرموت في الجنوب بمسافة 700 كيلومتر ولم يشعر بتعب أو مشقة الطريق.
كما نوه الباحث في الآثار العالمي ساني بتقديم نبذة عن حضارة اليمن ويقول: «اليمن سابقة في تمدنها على مصر وبابل، وأنها هي البلاد التي هاجر منها إلى مصر الفراعنة العظام وحملوا معهم العلم والحكمة والزراعة ومنها كان على الراجح أسلاف البابليين والآشوريين الذين حملوا في هجرتهم إلى تلك البلاد ما حملوا إلى مصر من العلم والصناعة»، فقد كان ومازال الإنسان اليمني صانع الحضارة ومنبعها وأصلها.. لذا تبقى الأرض اليمنية تزمجر والسماء تصرخ بصوت بلقيس من أقصى الكزن إلى أدناه في صرخة ثابتة وراسخة نُقشت على جدار قلب كل يمني تقول: «ارفع رأسك فأنت يمني..».