غـازي المفلحي / لا ميديا -
دائماً ما يحاول الغرب الادعاء بأن أوروبا تمثل واحة للتحضر والمدنية والديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان، بينما كل هذه المصطلحات ليست سوى مجرد شعارات زائفة ولا أثر لها على أرض الواقع الذي يشهد تزايدا في السلوكيات العنصرية ضد الملونين والأقليات ليس على المستوى الشعبي فقط، بل على المستوى الرسمي أيضاً.
فالقارة العجوز (أوروبا) تخفي تحت معطفها الجميل الحاني، مظاهر عنصرية بشعة وقاسية، وهناك الكثير من الدلائل التي تؤكد ذلك.
أوروبا هي نسخة طبق الأصل من الولايات المتحدة الأمريكية في العنصرية السياسية، العسكرية، الاقتصادية، التعليمية، الرياضية، الثقافية، والفنية وغيرها. فأوروبا في الحقيقة قارة ومجتمعات ظاهرها لا يعكس باطنها، والإنسانية والعدالة والمساواة شعارات، لا قيم عميقة فعلياً.

العنصريون إخوة
منذ بدء العملية الروسية في أوكرانيا استقبلت بولندا أكثر من مليوني لاجئ أوكراني، ولكنها رفضت استقبال المسلمين والعرب والأفارقة والهنود المقيمين في أوكرانيا، مع أنهم فارون من الحرب كالأوكرانيين، وانتشرت مقاطع مصورة لاعتداء القوات البولندية عليهم عندما كانوا يحاولون دخول بولندا. كما أظهرت القوات الأوكرانية عنصرية مماثلة، عندما منعت الأجانب من ركوب القطارات للهروب من الحرب الدائرة في البلاد، وتخصيصها للأوكرانيين فقط.
ومن المقاطع التي انتشرت، مقطع لنائب بولندي، يفتخر بعنصريته ويقول إن بلاده استقبلت مليوني لاجئ أوكراني، في مقابل «صفر» لاجئ مسلم.
في التمييز العنصري ضد الملونين والنظر إليهم كبشر درجة ثانية، أوروبا تشبه أمريكا ولا تختلف عنها كثيرا، وتمارس فيها العنصرية بشكلها الحقيقي والبشع، وليس أيام الحرب فقط، بل في كل الأوقات وفي كل مناحي الحياة، لكنها تغطيها بشعارات التجميل التي تخفي القبح لفترات مؤقتة.
بشكل واضح تعبر الكثير من الأحزاب الأوروبية السياسية القومية والجماعات اليمينية وقادتها بالمشاعر المعادية للمهاجرين ويصيغونها في خطاباتهم.
وبرغم أن أوروبا تتبنى المبدأ المنصوص عليه في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، والذي أعلن من فرنسا عام 1948 -بينما كانت فرنسا وبريطانيا تحتلان كثيرا من الدول العربية وترتكبان الفظائع بحق شعوبها- والذي ينص على أن يولد الجميع أحراراً ومتساوين في الكرامة والحقوق، إلا أن العنصرية تجتاح القارة العجوز. وهذه ليست تهمة ترمى جزافا، بل عرض لما طفا على السطح من اعترافات المؤسسات الأوروبية الحكومية والمستقلة نفسها.
تتنامى ظاهرة الكراهية والعنصرية في أوروبا ضد الأجانب بشكل عام والأقليات الإسلامية بوجه خاص، ووصلت بعض الممارسات العنصرية حد الاعتداءات بالأسلحة والقتل، وحصل هذا في ألمانيا وبريطانيا.

عنصرية هيكلية
قالت مفوضة مجلس أوروبا لحقوق الإنسان، دنيا مياتوفيتش، في تصريحاتها مع شبكة «دويتشه فيله» الألمانية، العام الماضي: «إذا كنت من السود، فمن المرجح أن تواجه التمييز في سوق العمل والتعليم والرعاية الصحية والإسكان، وأن يتم إيقافك وتفتيشك من قبل الشرطة».
أما في فرنسا، فقد أظهر استطلاع أجرته الهيئة المستقلة المدافعة عن الحقوق والحريات «Defenseur des Droit»، أن الشباب من أصول عربية وأفريقية كانوا أكثر عرضة 20 مرة للتوقيف والتفتيش من أي مجموعة ذكور أخرى. كما تم تحديد مشاكل مماثلة في بلجيكا والدنمارك وقبرص وأيرلندا وإيطاليا وإسبانيا والمملكة المتحدة، وفقاً للشبكة الأوروبية لهيئات المساواة «Equinet».
وفي بريطانيا ذكر تقرير برلماني حديث أن معدل وفيات النساء السود أثناء الولادة أعلى بخمس مرات من النساء البيض، وأن أكثر من 60 ٪ من السود في المملكة المتحدة لا ينالون الرعاية الصحية الجيدة من قبل خدمة الصحة الوطنية UNHS مقارنة بالأشخاص البيض.
في استطلاع نشرته اللجنة الأيرلندية لحقوق الإنسان والمساواة، عام 2018، وجد أن السود محرومون من الوصول إلى الوظائف العليا، على الرغم من مؤهلاتهم الجيدة.
كما أن تحديد مجالات العمل المسموح للمهاجرين بها وحرمانهم من أخرى، وقوانين الهجرة تكرس التمييز العنصري الهيكلي في أنظمة الدول الأوروبية.

لا نريد عرباً.. لا نريد سوداً
تشير تقارير الوكالة الفيدرالية الألمانية لمناهضة العنصرية، إلى أن أصحاب الأسماء الأجنبية أقل حظاً بـ25 ٪ في الحصول على عمل من أصحاب الأسماء الألمانية، فيما 46 ٪ من العاطلين عن العمل في ألمانيا هم من الأقليات، و23 ٪ منهم مهاجرون، كما أن أجور العمال ذوي البشرة السمراء أقل بـ25 ٪ من زملائهم الآخرين.
بحسب إحصائيات الشبكة الأوروبية لمناهضة العنصرية، توجد أعلى نسبة أوروبية لحالات التمييز العنصري في مجال العمل في أيرلندا، حيث بلغت معدل 31 ٪ .
في اليونان وإيطاليا، يعمل المهاجرون في ظروف عمل لاإنسانية، بالأخص عمال الزراعة منهم.
لا تنتهي معاناة أفراد الأقليات مع الحصول على العمل، فبعد ذلك يأتي الاستغلال، وظروف الشغل الصعبة والخطيرة أحيانا، والفوارق الكبيرة في الرواتب، وعدم الأمان الوظيفي، وحوادث التحرش اللفظي والمادي المباشرة.
حسب ذات الإحصائيات في فرنسا، فإن النساء من أصول أفريقية والمسلمات يحصلن على أدنى الأجور في سوق العمل، و50 ٪ من حالات التمييز في أوروبا ضحاياها من النساء المسلمات.
وفي قبرص أغلبية النساء المهاجرات العاملات في البيوت يتعرضن لمعاملة قاسية، واستغلال جنسي.
ونشر مواطنين عرب وآخرون من أصول أفريقية يقيمون في أوروبا، الردود التي تلقوها عند تقديمهم للحصول على وظائف في شركات ألمانية، كان منها: «لا نريد عربا»، «لا نريد سودا»، «السود يسرقون ويعكرون مناخ العمل».

قوة العنصريين
أسوأ من كل ذلك، أن العنصريين يهاجمون بشراسة كل من يدعون لقيم المساواة، فالمناهضون للعنصرية، بل المسؤولون المنحدرون من أصل أفريقي دائماً ما يتعرضون للهجوم ويتلقون تهديدات بالقتل في أوروبا. وقد تعرضت وزيرة التكامل الإيطالية السابقة، سيسيل كينجي، المولودة في جمهورية الكونغو الديمقراطية، لمضايقات واستفزازات عنصرية كثيرة، كونها أول سيدة سوداء تتولى وزارة التكامل الإيطالية عام 2013، حيث قام شخص برميها بالموز، أثناء خطاب لها. كما تعرضت وزيرة العدل الفرنسية السابقة كريستيان توبيرا، للاعتداءات العنصرية كثيراً.

بلاد الخطيئة الكبرى
بعكس أوروبا التي تحاول التستر، فإن الولايات المتحدة الأمريكية تعيش واقع تمييز عنصري فاضحا، فالعنصرية هناك أعراف وتقاليد، تفوق قوتها نصوص القانون المزعوم لمنعها.
في كتابه «من نحن: التحديات التي تواجه الهوية الوطنية الأمريكية»، قال الباحث الأمريكي صمويل هنتنغتون، صاحب نظرية «صراع الحضارات»، إن الولايات المتحدة الأمريكية التي نشأت في فترة ذروة الاستعمار الغربي، تعتبر «الثقافة الأنجلوبروتستانتية» جوهر «الهوية الوطنية». لذلك، وعلى الرغم من أن دستور الولايات المتحدة الأمريكية يتشدق بـ«الحرية والمساواة»، فإن هذه القيم تُبنى بالضرورة على ما يسمى «التيار الاجتماعي السائد» على أساس العرق والدين باعتبارهما الشكل الاجتماعي الرئيسي، وكل من لا يتوافق مع ذلك يواجه العداء من قبل نخب المجتمع الأمريكي.
لذلك، على الرغم من أن بعض أبناء الأقليات يمكن أن يدخلوا الطبقة العليا في المجتمع الأمريكي، فإن ذلك يبقى على أساس التوافق مع الهوية الكاملة لـ«الثقافة الأنجلوبروتستانتية».
بالنسبة للعديد من النخب الأمريكية البيضاء، فإنه إذا أرادت الولايات المتحدة الأمريكية البقاء على قيد الحياة، يجب عليها الدمج الدقيق لسياسات التمييز العنصري والثقافي في الشؤون الداخلية والدبلوماسية للولايات المتحدة، من أجل بناء نظام هرمي للمجموعات العرقية والحضارات. ويتجسد هذا الترتيب الهرمي في سياسة التمييز المؤسسي والثقافي ضد السود والأقليات الأخرى في السياسة والاقتصاد والثقافة والتعليم وغيرها.
وبالمثل، العنصرية ونظرية التفوق الحضاري تحكم صياغة السياسة الخارجية الأمريكية، وتحكم علاقتها مع الدول والأمم الأخرى. فمن أجل المحافظة على احتكار الولايات المتحدة للموارد المحدودة للأرض، ظل السياسيون الأمريكيون يقسمون التقارب والتباعد في العالم على أساس الاختلافات في العرق والدين والثقافة والحضارة، ويشكلون مجموعات مصالح، ويصوغون سياسات خارجية للتحالف أو المواجهة، لجعل الولايات المتحدة دائماً على رأس نظام هرمي للأمم والحضارات.
وعلى الرغم من أن السياسيين في الولايات المتحدة يستخدمون الخطابات الرائعة لمناهضة العنصرية ظاهراً، إلا أن «العنصرية» هي الأساس للمحافظة على كيان الولايات المتحدة في نظر معظمهم.
لا يسع المجال لسرد مظاهر العنصرية في الولايات المتحدة، ونبرز هنا عينة بسيطة منها:
وجدت دراسة أجريت عام 2011 من كلية الحقوق في جامعة ميشيغن، أنه بين عامي 1990 و2010 تم عزل 53٪ من المدعين العامين السود المؤهلين للعمل في المحاكم كمحلفين في القضايا الجنائية، مقابل حوالي 26 ٪ من البيض.
في السنوات العشر الماضية، كانت ثمانية من أصل تسعة أحكام إعدام صدرت في ولاية تينيسي لمتهمين سود، وفي أمريكا من يقتل شخصاً أبيض يكون أكثر عرضة للإعدام بـ14 مرة ممن يقتل شخصاً أسود.
«فيروس كورونا» فضح وبقوة عنصرية النظام الصحي الأمريكي الذي ظهرت إجراءاته في ما يشبه محاولة إبادة للسود، فوفقا لإحصاءات المراكز الأمريكية للسيطرة على الأمراض والوقاية منها ووسائل الإعلام الأمريكية، فإن معدل العدوى والوفيات بـ«فيروس كورونا» للأمريكيين السود وذوي الأصل الإسباني هو 3 أضعاف معدل المواطنين البيض، وبلغ معدل التطعيم للأمريكيين السود نصف المعدل للأمريكيين البيض.
في مقاطعة ميلووكي، ولاية ويسكونسن، أظهرت إحدى الإحصائيات أن 81 ٪ من الوفيات هم من السود، على الرغم من أن هؤلاء يُشكّلون 26 ٪ فقط من سكان المقاطعة.
التعليم أيضاً أحد أكثر المجالات التي يعاني فيها الأمريكيون السود من التفاوت العرقي، وتحولت المدارس بالنسبة للأطفال إلى ما يشبه المعتقل، فأكثر من 43 ألف شرطي و39 ألف حارس أمن يعملون في 84 ألف مدرسة حكومية في الولايات المتحدة، والهدف من وجودهم هو تأديب الطلاب السود في المدارس.
وفي 2018، ظهر مقطع فيديو لضابط شرطة في مدرسة يعتدي بوحشية على طالبة أمريكية سوداء، بينما تمّ اعتقال زميلتها التي سجلت الاعتداء.
كما يقتل السود في أمريكا بوحشية وبشكل شبه روتيني، عند عمليات الاعتقال التي تنفذ ضدهم بالجملة بعكس ما يحصل للمواطنين البيض.
كما أن السود شريحة متروكة لعالم العصابات والمخدرات ومعرضة للإفقار والتجهيل بشكل ممنهج في الولايات المتحدة.
ولا يمكن حصر أو ذكر كل جرائم التمييز العنصري المنتشرة في الولايات المتحدة بسهولة، ويكفي التذكير بأن العنصرية في الولايات المتحدة نهج دستوري، وخطاب الكراهية لا يجرم بشكل واضح في النصوص القانونية الأمريكية بحجة تعارضه مع مبدأ حرية التعبير الذي يكرسه الدستور.

قتل مصرية فـي قاعة محكمة
التعايش بأمان واستقرار بين العرقيات المختلفة في أوروبا لافتة مثالية لواقع غير موجود، بخاصة عند استذكار قصة الدكتورة مروة الشربيني التي قتلت بوحشية وسط محكمة في ألمانيا، عام 2009.
حيث رفعت مروة قضية في المحكمة الألمانية ضد الشاب الألماني أليكس فينز الذي وصفها بـ«الإرهاب» لمجرد أنها كانت تلبس الحجاب، وطلبت منه أن يفسح المجال لابنها الصغير ليلعب بالأرجوحة في حديقة بمدينة دريسدن الألمانية.
وفي إحدى الجلسات بمحكمة «لاندس كريتش» في دريسدن، أدخل المدعى عليه سكينا إلى قاعة المحكمة، وفي قاعة المحكمة هجم بوحشية على الدكتورة مروة التي كانت حاملا في الشهر الثالث، وسدد لها 18 طعنة ما أدى إلى وفاتها، وأثناء ارتكاب الجريمة حاول زوج مروة إنقاذ زوجته فأطلق الشرطي النار على الزوج «اعتقاداً منه أنه المهاجم»، أو هكذا تذهب روايات بعض الشهود.وتقول بعض الروايات إن المجرم أخذ السكين من الشرطي.

«الضاحية 13» فـي باريس
بعيداً عن المناظر الجميلة للعاصمة الفرنسية باريس، والانطباع الشائع عند الناس أن باريس هي برج إيفل ومباني هاوسمان ونهر السين، وتلك الحياة الفارهة لكل من وطأت قدمه فرنسا وعاصمتها. في باريس مكان يعرف بـ»الضاحية 13»، وهو حي سكني فقير وكبير جداً في ضواحي المدينة، وسكانه شبه مهمشين، وأقل حظاً في الحقوق والرعاية والوظائف والخدمات.
يسكن هذه الضاحية مليونا شخص من أصول آسيوية في الغالب، ومنذ 1940 وخلال نصف قرن تقريباً سيطرت على هذه الضاحية العصابات والمجرمون، وكانت تعج بالمخدرات، والرذيلة، والسلاح، والخمور، وجرائم الاغتصاب.
وكان السكان في الداخل على قيد الحياة، ولكن عملياً يعدون من قبل الحكومة بشرا من مرتبة سفلى، فهم دون تعليم أو مرافق مناسبة أو حماية القانون.
حكومة فرنسا جردت هذه الضاحية من الخدمات وكل وسائل التنمية البشرية، وعزلتها عن بقية أحياء باريس بجدار خرساني وأسلاك شائكة لعقود. وعند مدخل الحي، تقف دورية شرطة قوية التسليح لتراجع أوراق كل من يدخل ويخرج من الضاحية.
ويُقال حالياً إن هذه الضاحية مع مطلع القرن الـ21 أصبحت مكانا أفضل، ولكن هذا لا يبدو حقيقياً، فأغلب المعلومات تشير إلى أن الأمور لم تتغير كثيرا في هذه الضاحية، وأنها مازالت مسكونة بالفقر والحرمان والتمييز العنصري والطبقي الموجه لأهلها من قبل الحكومة الفرنسية.
العام الماضي قدم المخرج الفرنسي جاك أوديار فيلمه الجديد «الحي 13»، والذي يسلط الضوء على معاناة سكان «الضاحية 13». ويناقش الفيلم الذي لم ينزل بعد، واقع الانقسام الطبقي بين الأثرياء والفقراء في باريس.
وقال أوديار عن هذا الفيلم، بعد يوم من العرض الأول له في مهرجان كان عام 2021: «أردت أن أتحدث عن الطبقة المتوسطة، عن الناس الذين حصلوا على شهادات جامعية وحققوا درجة من النجاح، لكن ليس لديهم حقاً أي شيء في الحياة».