تقرير: مارش الحسام / لا ميديا -
ارتفاع أجور المواصلات إلى الضعف مثل معضلة كبرى ومرهقة للمواطنين المسحوقين، تحول بينهم وبين غايتهم كعقبة كبرى، تعوق وصول الموظف والعامل إلى عمله وتعزل الطالب عن جامعته، وهو ما دفع جهات حكومية لإطلاق مبادرة "التكافل الاجتماعي" بتوفير عدد من الباصات المجانية، ولكن يبدو أن هذا التدبير السحري الذي قوامه عشرات الباصات لايزال غير مجد لعاصمة مترامية الأطراف يقطنها ما يقارب 7 ملايين نسمة يعولون على أن تسهم بقية الجهات الحكومية والخاصة برفد المبادرة بعدد من الباصات.

مشكلتان
معاناة يومية يتكبدها المواطنون تتثمل في ارتفاع أجور المواصلات وندرة وسائل النقل في ذات الوقت نتيجه أزمة الوقود المفتعلة من العدوان والتي شلت حركة عدد من وسائل المواصلات، وما توفر من باصات لا تكفي لاستيعاب المواطنين وخصوصاً وقت الذروة.
ففي الصباح الباكر ستلاحظ حشودا من الطلاب والمواطنين والعمال من الجنسين على امتداد الطريق بانتظار باص يقلهم إلى وجهاتم كأنما متاهبون لحرب ما، ويتكرر نفس المشهد في فترة الظهيرة، صف طويل من الأجساد البشرية التي سخنتها الشمس تتأهب للاستحواذ على مقاعد باص قادم غالباً ما يتم اختطاف مقاعده من قبل الشباب والمراهقين فيما النساء وكبار السن وغيرهم ممن لا يجيدون المزاحمة والتدافع عليهم الانتظار وتحين فرصة أخرى تحت حرارة الشمس أو زخات المطر حسب مشيئة المناخ.
فيما تنطلق المركبات الخصوصية من جوارهم قاطعة الشوارع ذهاباً وإياباً كسكاكين متوحشة دون أن يعير سائقوها أدنى اعتبار لاستغاثاتهم الصامتة.

بداية الغيث 20 باصاً
اشتداد أزمة المواصلات الخانقة للمواطنين، كان سبباً في ظهور التوصيل المجاني والتي بدأت بمبادرة أطلقها مكتب شؤون النقل بالتعاون مع مكتب الشؤون الاجتماعية والعمل بأمانة العاصمة في 12 مارس 2022 وتكللت بتوفير 20 باصاً وحافلة سخرت جميعها في الخطوط المؤدية إلى جامعة صنعاء، إذ استفاد من المبادرة في اليومين الأولين من انطلاقها نحو 16 ألف شخص.
هذه المبادرة شجعت كثيرا من المؤسسات والجهات الحكومية الأخرى على الانضمام إليها وتضافرت الجهود الحكومية مع مشاركة خجولة من القطاع الخاص.
ويؤكد محمد الشهاري مدير الهئية العامة لشؤون النقل البري أن مبادرة توفير باصات النقل المجاني لاقت تجاوباً نسبياً من قبل عدد من الجهات وبلغت بنهاية الأسبوع الأول من إطلاق المبادرة 117 باصاً وحافلة.

أطول خط سير
غطت المبادرة حتى الآن 15 خط سير في أمانة العاصمة، واستهدفت الحملة طلاب جامعة صنعاء، حيث خصصت 18 باصاً وحافلة لتغطية خطوط السير المؤدية للجامعة، فيما توزعت باقي الباصات على عدد من الشوارع، إذ تم استحداث خطوط سير جديدة ويعد أطولها هو خط (شميلة ـ الستين ـ جسر السنينة ـ جولة عمران ـ الجمنة).

اتجاه معاكس
محمد سلطان، طالب سنة ثالثة في جامعة خاصة مقرها جولة المصباحي، يستقل 8 باصات يومياً ذهاباً وإياباً من مسكنه الواقع في منطقة شملان إلى الجامعة. يقول: "قبل الأزمة كان يكلفني ذلك 800 ريال وبعد ارتفاع أجور المواصلات إلى 200 للمشوار الواحد صرت أدفع الضعف، أي 1600 ريال، وهو مبلغ كبير بالنسبة لي كطالب ليس لدي دخل سوى ما يرسله لي والدي من مصاريف، وصرت أحياناً أتغيب عن الذهاب إلى الجامعة بسبب أجور المواصلات".
وعن الباصات المجانية يقول محمد: "أسمع عنها وأشاهدها، لكن لم يسبق أن ركبت أحدها، ربما لأنها غير متوفرة في الخط الذي أسير فيه، وأحياناً وأنا في طريقي للجامعة أنزل في عصر لأستقل باصا آخر، وصادفت أكثر من مرة أن شاهدت أحد هذه الباصات المجانية، ولكنها تسير في عكس خط سيري، أي أنها قادمة من المصباحي باتجاه جولة عمران، بينما أنا أذهب بعكس اتجاهها".

ليلة القدر
محمد عبدالملك طالب هندسة في جامعة صنعاء ويسكن منطقة شميلة، هو الآخر كان قبل أزمة المواصلات يذهب إلى الجامعة ويعود منها بـ600 ريال، لكن بعد ارتفاع أجور المواصلات صار يدفع الضعف.
يقول محمد إنه نادراً ما يصادف الباص المجاني الذي يتحرك من شميلة باتجاه الستين الشمالي وجامعة صنعاء. مضيفاً بالقول: "عندما أصادف الباص المجاني فهي أشبه بليلة القدر وتوفر لي حق الصبوح".
دعا محمد بقية الجهات الحكومية والقطاع الخاص إلى رفد المبادرة بمزيد من الباصات لتخفيف العبء عن كاهل الطلاب.

توجيهات السيد
حمود محمد عباس يسكن في شارع المطار ويعمل موظفاً في مكتب بريد التحرير ولديه ابن يدرس في جامعة صنعاء.
وما بين مقر عمل حمود ومسكنه 6 مشاوير بالباص ذهاباً وإياباً، بإجمالي 1200 ريال حسب التسعيرة الجديدة.
ذات المشكلة التي يعاني منها الأب تلازم ابنه الذي عليه دفع ذات المبلغ إذا ما أراد الذهاب إلى الجامعة.
يقول حمود: "بعد ارتفاع أجرة الراكب من 100 إلى 200 كنت أجد صعوبة كبيرة في حق المواصلات والتي تكلفني أنا وابني 2400 ريال يومياً، في بعض الأيام عندما كنت لا أستطيع أن أتدبر حق المواصلات لنا الاثنين كنت أضحي بنفسي ليذهب ابني إلى الجامعة، بينما أنا أتغيب عن العمل وأحياناً أذهب راجلا، وصار شغلي الشاغل هو توفير حق المواصلات لابني لأن أكثر ما كان يحز في نفسي حين كان يتغيب ابني عن الجامعة لعدم قدرتي على توفير حق المواصلات له".
حمود يشعر بسعادة بالغة تجاه مشروع الباصات المجانية، والذي يصفه بأنه يتفق مع توجهات السيد الهادفة إلى تخفيف معاناة المستضعفين.
ويتابع: "اليوم معنا باصات مجانية لنقل الفقراء والمساكين حسب توجيهات السيد، وهو مشروع عظيم نتمنى أن يستمر طوال الأزمة، فقد خفف عني عبئا ثقيلا، وصرت أنهض باكراً لملاقاة الباص أنا وابني الذي ينزل بالحصبة ومن هناك يستقل باصا مجانيا آخر إلى الجامعة وأنا أواصل المشوار إلى التحرير والـ600 ريال التي كنت أدفعها حق المواصلات مازالت في جيبي".

طابور انتظار طويل
وقت الظهيرة أمام بوابة الجامعة القديمة يصطف طابور من طلاب وطالبات الجامعة بانتظار وصول إحدى الحافلات المجانية.
ترددت كثيرا في التقاط صورة لهم، لكنني ألغيت فكرة التصوير الذي قد يساء تفسيره على أنه انتهاك لخصوصية وحرمة الجنس الناعم، بل إن مجرد محاولة التقاط صورة في مجتمع محافظ يعد مخاطرة، لذا قررت أن أنضم للطلاب وأشاطرهم انتظارهم وطرح بعض الأسئلة عن صعوبة المواصلات ومساهمة الباصات المجانية.

المستعجل هنا
وفيما كنت بصدد إجراء حوارات مع الطلاب المنتظرين للحافلات المجانية، كان أحد سائقي الحافلات غير المجانية يحاول إغراء الطلاب بالصعود إلى حافلته بالهتاف "المستعجل هانا" بتكرار مستمر، فيما كان سائق آخر بالخط يتقدمه بعدد من الأمتار، يهتف هو الآخر: "مع الماشي.. مع الماشي".
وما هي إلا دقائق حتى بدأ الطلاب بالهتاف: "وصل وصل" ابتهاجا بقدوم الحافلة المجانية ذات الـ24 مقعداً، والتي كانت في الجهة المقابلة لهم، والتي عليها أن تواصل سيرها لبضعة أمتار باتجاه شارع الزبيري للانعطاف نحوهم.
قدوم الحافلة المجانية أفزع الحافلتين غير المجانيتين اللتين كانتا تحاولان إغراء الطلاب بالصعود إليهما، إلا أنهما ومع قدوم الحافلة المجانية انطلقتها بأقصى سرعتيهما كما لو أنها حمر مستنفرة فرت من قسورة.
فيما الحافلة المجانية جرى استقبالها بحفاوة تجاوزت المألوف في بروتوكولات الاستقبال.
وفي لمح البصر صارت تكتظ بالأجساد البشرية المكدسة في كل شبر شاغر فيها والمحظوط من يحظى بموطئ قدم على مدخلها ليظل متعلقا على الجوانب، فيما كان السائق يحاول إقناع البقية أن هناك باصا مجانيا آخر في الطريق.
لحظتها كان علي أن أستغل دقيقة التوقف بحوار قصير مع سائق الحافلة المجانية المتأهب للانطلاق باتجاه (جولة سبأ ـ شيراتون ـ سعوان)، والذي أفاد أن الحافلة مخصصة لنقل 24 راكباً، بينما هو يستوعب أكثر من ذلك، وبما يصل إلى 40 راكبا.
ولفت إلى أن بعض من يسكنون بالقرب من الجامعة يفوتون فرصة صعود الحافلة على أقرانهم الساكنين في مناطق بعيدة، يقول: "البعض يسكن عند جولة سيتي مارت مسافة قريبة لا تستغرق منه 8 دقائق سيراً على الأقدام، والمفترض أن مثل هؤلاء يجب أن يتركوا مقاعد الحافلة لمن يسكنون في مناطق بعيدة، كسعوان مثلاً".

متطفلون
سائق حافلة 16 راكبا خط سيره (هائل ـ السنينة ـ مذبح ـ شملان)، أشار إلى أن هناك متطفلين يعرقلون هذا العمل الخيري.
وأضاف: "البعض يكون ذاهباً للمقوات الذي لا يبعد سوى دقيقة واحدة، ويحجز مقعد شخص بحاجة لتوصيلة إلى مسافة بعيدة إلى شملان مثلاً".

بصيص أمل
يبدو في هذه المبادرات التكافلية بصيص أمل للتخفيف من وطأة عبء المواصلات وليس حلها، وإن كان من المبكر الركون إليها كجزء من الحل.. لما يحيط بها من ضبابية وتساؤلات يطرحها الشارع حول صلاحية واستمرارية هذه المبادرة، وهل ستظل سارية المفعول حتى انقشاع الأزمة أم أنها ليست أكثر من مُسكن ألم فرضت تناوله ضرورة المرحلة، وغيرها من التساولات التي لا توجد لها إجابة.
ولكن فضيلة الإنصاف تقتضي عدم إنكار إيجابيات الباصات المجانية في التخفيف من معاناة شريحة هامة من أبناء المجتمع خصوصا الكادحين والطلاب، وهي خطوة رائعة تحسب لتلك الجهات التي أخذت بزمام المبادرة وتبذل وماتزال جهودا خرافية في سبيل استمرار هذه الخدمة المجانية والهامة، ولا يبدو أنها بصدد التراجع عما عزمت عليه، بل من المتوقع أن ينضم إليها آخرون من الجهات الحكومية الإيرادية وكذا مساهمة القطاع الخاص.
لكي يتجسد معنى التكافل لا بد أن يسهم سائقو المركبات الخصوصية في التخفيف من هذه المعاناة، وذلك بالتطوع دون تكلف بتوصيل عدد من المكدسين على الأرصفة أو من يصادفونهم في طريقهم ممن تتوافق وجهاتهم مع خط سيرهم أو بالقرب منه.. دون أن يكلف نفسه مشواراً خصوصياً لهم، وإنما إلى أقرب نقطة لهم على خط سيرهم، وبتعبير آخر "وصلني على طريقك".