«لا» 21 السياسي -
إن تخلقات اليوم الـ21 من أيلول/ سبتمبر الأولية ومخاضات ولادته المتتالية وإرهاصات ميلاده المتوالية، آهات وتأوهات صيحته الأولى وتكبيرات كلمات صرخته اللاأخيرة... كينونة وجوده ومكنونات موجوداته، محاولات وأده وتحولات نجاته، سيرورة انفعالاته وتفاعلاته وصيرورة أفعاله واعتمالاته، مؤثرات استمراره وتطوراته وآثار خطاه وخطواته، مدخلات نصره ومخرجات انتصاراته... كلها تبقيه الأهم تاريخياً والأعم جغرافياً والأعظم إنسانياً. ويكفي وإن لم يستكفِ أنه يوم رفع الوصاية عن السارية اليمانية، ورفع الاستقلال على الراية اليمنية.
وفي ذكرى ميلاده الثامنة يعود الحادي والعشرون من أيلول/ سبتمبر إلى دأبه الثائر المثار والثوري في مواجهة ما تبقى عنه من أسئلة ويعاود ديدنه في مجابهة ما تلقى إليه من تساؤلات، بعد أن كان له في سبع سابقاتٍ قصب السبق في مطارحة أسئلة البدايات وقائع واستجواباتٍ، وفي طرح تساؤلات البديهيات حقائق وإجابات. إنها عادات الثورات الحقيقية، التي لا تنفك عن مراجعة جدلياتها الكبرى أفعالاً ونقاشاتٍ، بالتوازي مع مواقعة اشتغالاتها اللحظوية في المسافات الفاصلة بين العبور من علامات استفهام ما قبل الأمس إلى الحضور بدون علامات تعجب تحجب الثورة عن يوم الناس هذا، وبغير أضغاث أحلام يعجز المفسرون عن طرحها وقائع شعب وعن مطارحتها حقائق بلد، ليغاث الناس عامهم هذا بإجابات السيد الصادقة وأجوبة القائد الصريحة وجوابات العَلَم الحاسمة.
في خطاب الذكرى الثامنة تلمع الثورة بين ثنايا السيد القائد عبدالملك بدر الدين الحوثي صباحاً يؤمن بنور الأمس ويؤتمَن ضياء اليوم ويؤمِّن رؤية الغد في تجلٍّ ملهمٍ لمعنى ومبنى القائد واصطلاح وصلاح العَلَم.
لا ماء لديّ هنا يفسر ماء السماء ذاك؛ ولكن وفي مواجهة نقد الروايات (التاريخية) قد يلزم المرء نفسه باتخاذ قرار الخروج من داخل حبال حلبة الصراع إلى المشاهدة والمراقبة من على وأعلى أبراج الفرجة. الخروج من إطار الصورة يجعلها أمامك أكبر مساحة وأوضح رؤية، وبما يجعلك أيضاً أكثر موضوعية وأدق ملاحظة. المنتصر بالطبع كما يقولون هو من يكتب التاريخ. أما قراءة هذا التاريخ فلا تشترط عليك أن تكون منتصراً أو مهزوماً. لكن الأعراب مهزومون منذ عقود، فعن أي تاريخ يكتبون؟!
أما هنا، حيث العرب اللابائدة، فالتاريخ مسطور على نواصي الأنصار، ثورة تلد ثورة، وإن أفشل المستعربة إحداها أشعل العاربة أخرى.
نعم، تزايدت محاولات إعادة قراءة تاريخ اليمن وثوراته مؤخراً، وهي محاولات جديدة وشجاعة في العموم؛ لكن أصحاب هذه المحاولات وللأسف الشديد ينتهجون الطريق ذاتها التي كانوا ينتقدونها ويجلدون سالكيها بالأمس، فيما هم أنفسهم اليوم يفعلون ما كان يفعل أولئك، وإن بوسائل تنضح بالمكر وغايات تضج بتصفية الحسابات، كما أنها لا تخدم أحداً - إن ظن فاعلوها أنهم يتجملون لأحد. والحقيقة هي الضحية في نهاية الأمر. بالفعل التاريخ يعيد نفسه؛ ولكن معكوساً هذه المرة، ولأن الحمقى لم يفهموه بالفعل كما يقول وينستون تشرشل.
سجل اليمنيون -خلال جميع حقب تاريخهم الممتد قروناً مديدة وألفياتٍ عديدة وعبر كل مساحات جغرافيتهم الواسعة مياهاً والشاسعة يباساً- براءات ثورة تجاوز أزمنة الغلبة، وموجات هجرة تتجاوز أمكنة اللعبة. وبين الثورة حيث فطرة التراب، وبين الهجرة حيث اكتساب التضاريس، وضع اليمنيون أول بصمات الـDNA الثوري، وجدّروا أوسع خارطة هجرة جينية في العالم. إنتصروا في ثورةٍ هنا، وهُزموا من هجرةٍ هناك. ليست اليمن بلاد ما بين النهرين ولا أرض السند والهند... لكنها بلدٌ يتوسد حجر البداية وتتوسده صخرة سيزيف. وبين سهولة الطريق عند أول الوادي ووعورة الوصول إلى رأس الجبل ثار اليمني جيئةً إلى الحقل وذهاباً إلى الحرب، وهاجر بين بحرٍ وبر حين ظن أنه يستطيع أن يغادر الأرض على سفينة نوح، وأن يغزو السماء من على مكوكٍ على عرش بلقيس... وبين الثورة والهجرة عبر الرومان والفرس والأحباش والأتراك والمماليك والبرتغاليون والإنجليز والأمريكان، من بين سيقان الرمل والحصى، ومن بين سواقي البحر والسد، إلى حيث حكايات المقابر لا تكف عن الحديث إلى جثث الغزاة.
ثار اليمنيون وثاروا وثوِّروا وثوَّروا وثأروا وأثروا وتأثروا وأثاروا، في متتالية إنسانية غير رياضية بتاتاً ولا تراتبية انثروبولوجية مطلقاً، لا تحكمها الصدف تماماً ولا تتحكم بها المؤامرات دائماً. وفي جذل جدلٍ طيني من صلصالٍ كالفخار تتخلق الثورة بشراً يشبهونها أُّماً ويتشبهونها أُّمة. لم يشبَّه لهم رغم ذلك، فقد كان علي عبدالله صالح بالفعل مركز ترويكا الوصاية، متشاركاً إثم استمرار التبعية والعمالة مع عبدالله الأحمر وعلي محسن الأحمر وشيوخ «الإخوان المسلمين» ومشائخ «المؤتمر» ومافيا رأس المال الطفيلي وجنرالات البدلات الكاكية والصفراء وقيادات المجتمع المدني المدجنة والمهجنة والمعفنة...
هز الشباب مركز منظومة الوصاية تلك في شباط/ فبراير 2011، وسعوا لطمس كل قبح نظام الوصاية والعمالة والنخاسة والفساد، وطمحوا إلى إسقاط أسوار حديقة آل سعود الخلفية< لكنهم سقطوا أو أُسقطوا داخل هذه الأسوار وخارج أحلام اليمنيين في التخلص من التبعية والخلاص من الوصاية.
فتغولت تمظهرات الوصاية الخارجية جهاراً نهاراً بعد أن ظلت لعقودٍ تتوارى خلف عناوين جمهورية وإكليشات وطنية، وتوزع النظام (الساقط) على فسطاطي باطل متقابلين: معسكر عفاش وأبنائه وشلته، ومعسكر الأحمر و»إخوانه» و»عُكفته». ووزِّعت أدوار النظام والثورة عليهم من جديد وعلى حد سواء، وقسمت الوصاية عناوينها عليهم مجدداً، وتحت إكليشة مخادعة سموها «المبادرة الخليجية» ضمن مخطط تقسيم جديد قديم. لكنها (أي الوصاية) في واقع الأمر عجزت عن سد فراغ الحلم الوطني لليمنيين بالخلاص، والذي تركته وراءها ثورة الحادي عشر من شباط/ فبراير، لتأتي ثورة الحادي والعشرين من أيلول/ سبتمبر لتملأه حقيقة استقلالٍ وسيادة وحق عزةٍ وحرية...!