علي نعمان المقطري / لا ميديا -
سنوات من الصمود والشموخ
في 26 آذار/ مارس الماضي كانت الحرب العدوانية ضد اليمن الوطن المستقل قد بلغت عامها السابع وأشرفت على العام الثامن، وعام جديد صرنا فيه، ونواصل الصمود والبناء والدفاع والهجوم في وقت واحد.
ومنذ العام الماضي والذي سبقه تركزت المعارك والمواجهات الكبرى على جبهة الشرق (صنعاء مأرب)، واقتربت من مدينة مأرب وصارت على بعد أميال معدودات وعلى مشارفها وحول المدينة وعلى بعد خطوات من مراكز وقيادة المنطقة العسكرية الثالثة المركزية التي تقود الحرب العدوانية على هذا المحور الملتهب ومعها عدد من المناطق العسكرية الرديفة التي كان قد حشدها العدوان السعودي الأمريكي بهدف إسقاط واجتياح العاصمة صنعاء التي ركز جهوده كلها خلال السنوات السبع السابقة للسيطرة عليها وإعادة السيطرة الاستعمارية الإمبريالية السعودية الأمريكية بقوات هائلة الإعداد والمعدات وصلت إلى قرابة ربع مليون مرتزق وآلاف الدبابات والمدرعات والمدافع والرشاشات؛ ولكن فشلت تلك الجحافل المتوحشة التي استمرت عدة سنوات تحاول الزحف نحو العاصمة يومياً عبر آلاف الزحوف؛ ولكن مصيرها كان الفشل دوماً، وتمكن الجيش اليمني والأنصار من كسر تلك الزحوف وتحطيم قواها طوال عدة سنوات من الصمود والاستبسال وإنزال الهزائم على العدوان. وقد تراكمت تلك الهزائم على وضع العدوان حتى تحولت إلى تغيرات نوعية تمثلت في انهيارات قواته على مختلف الجبهات الحربية، وتحولت من حالة الهجوم إلى الدفاع وإلى التراجع الاستراتيجي الذي تواصل من مشارف صنعاء إلى مشارف مأرب، ومن شرق العاصمة إلى شرق البلق الأوسط والغربي الشرقي، وإلى الكسارة، وفقدانه كل المساحات الكبيرة التي كانت لدية تحت سيطرته طوال السنوات الماضية، وباتت مأرب المدينة على مرمى حجر من الجيش اليمني واللجان الشعبية.
وفي الإحصاءات العسكرية التي قدمها المتحدث الرسمي للقوات المسلحة اليمنية عن نتائج المعارك الجارية مع العدو كل عام وملخصها للأعوام السبعة المنصرمة فقط ما يذهل الألباب والعقول من منجزات وانتصارات خطها المناضل اليمني الأبي الفقير الكادح البسيط العاري الجائع المحاصر النازف الجرح المحروم من أبسط الحقوق الإنسانية، وهو بسلاحه الفردي القديم والمتواضع والذي ظل ينحت بالصخر في مواجهة أعتى جيوش العالم ومرتزقته وأباطرته، بكبرياء وكرامة وشموخ حسدته عليه العديد من الأمم والشعوب المكافحة، وأشادت بصموده من خلال قادتها وزعمائها ورجالاتها المنصفين، وأبرزهم وفي مقدمتهم السيد حسن نصر الله والمرشال ميخائيل شويغو، وزير الدفاع الروسي وغيرهم كثيرون سمعناهم ورأيناهم على منصات الإعلام وهم يشددون على أهمية التعلم من التكتيكات اليمانية الأنصارية الحربية التي تمكنت من إذلال أعتى المعدات الأمريكية العدوانية تقنية وتطورا وحولتها إلى نيران ودخان ورماد بأسلحة بسيطة وقديمة وبإيمان عميق بالنصر والحق وبالخالق العزيز العلي القوي العظيم، وبنهاية الطغاة الحتمية المعبرة عن سنن الله في الكون والحياة والمجتمع والتاريخ، والتي لا تدع جبارا إلا حطمته ولا ظالما إلا أذلته ولا طاغية إلا مرغت كرامته في الأوحال.
لقد تم تحرير مناطق واسعة من الأرض اليمنية التي كانت محتلة، وهي مناطق بطول أكثر من مائة كيلومتر وبعرض أكثر من مائة كيلومتر، أي ما يساوي أكثر من عشرة آلاف كيلومتر مربع تشمل مساحات من محافظات عديدة هي صعدة والجوف وحجة وصنعاء ومأرب والبيضاء وتعز وإب والضالع والحديدة وشبوة، ومازالت تتسع دون توقف.
أما مأرب فقد اقتربت المعارك حول المدينة واستطاع الجيش اليمني والأنصار أن يسيطروا على البلق الشرقي أكبر المرتفعات المشرفة على مدينة مأرب وآخر السلاسل الجبلية المدافعة عن المدينة ومركزها. وقد تركزت المعارك في الأشهر الأخيرة حول جبال البلق الثلاثة الاستراتيجية من الشرق والغرب والشمال ومن الجنوب والغرب، حيث أحاطت بالمدينة من الجهات الثلاث، ولم يعد أمام العدو سوى مديرية الوادي ومدينة مأرب فقط، بينما تواصل تساقط بقية المديريات الاثنتي عشرة من المحافظة، وقد ظلت قوات الجيش واللجان تواصل التقدم حتى أصبحت تسيطر على اثنتي عشرة مديرية من بين الأربع عشرة مديرية التي تتكون منها محافظة مأرب وأغلب سكانها.
معارك البلق الشرقي وأهميتها الاستراتيجية
هي آخر الأحزمة الدفاعية حول المدينة. وقد أخذت المعارك حول البلق الشرقي والأسط والقبلي اهتماما خاصا لدى الطرفين المتحاربين، لما لها من أهمية بالغة الخطورة، فهي تطل على المدينة وتعتبر آخر الأحزمة الدفاعية الطبيعية العسكرية حول المدينة، ويعد سقوطها بأيدي طرف سيطرة استراتيجية على المدينة وحسم معاركها استراتيجيا فلا يبقى بعدها سوى تفاصيل صغيرة لا أهمية استراتيجية لها.
وحتى تشرين الثاني/ نوفمبر من العام الماضي كانت قواتنا المسلحة قد حررت مناطق واسعة من البيضاء وشبوة والجوف وصنعاء ومأرب، وتم تطويق المدينة من الجنوب والغرب والشمال، وبدأت تضيق الخناق على العدو أكثر فأكثر، ولم يعد تحريرها الكامل سوى قضية وقت قصير.
وقد تمكنت قواتنا من دحر العدوان وقواته من أغلب مرتفعات البلق الشرقي، وهو أكبر الجبال مساحة وإطلالا على المدينة وأقربها إليها، وشكلت السيطرة على البلق الشرقي أخطر تهديد على وضع قوى العدوان في مركز المدينة، التي لم تعد تسيطر سوى على مديرية واحدة إلى جانب المدينة مما يجعلها معرضة أكثر لتهاوي بقية الدفاعات الأرضية.
وقد واجه العدوان هذا الواقع فاتجه إلى استخدام الطيران بكثافة كبيرة لم نعهدها من قبل، بغرض إيقاف تحرك وإعاقة سرعة الجيش والأنصار إلى بقية المواقع في مناطق مكشوفة. وقد استمر بهذا التكتيك حتى أضناه استخدامه ولم يفده كثيرا، فقد واصل الجيش واللجان المناورة والتحركات والالتفافات وتحقيق المزيد من السيطرة والتقدم على الأرض والمواقع الهامة.
هجومات عدوانية مضادة فاشلة
وحاول العدوان شن العديد من الهجومات المضادة؛ غير أنها فشلت كلها أمام صمود الجيش اليمني والأنصار نهاية العام الماضي، وأوشكنا على إسقاط المدينة قبل أشهر من الآن. وأخيراً اتجه العدوان إلى الاستنصار بالإمارات التي أمدته بآليات جديدة وبقوات من العمالقة ومرتزقتها الذين سحبوا من المناطق الغربية والساحلية، فكان الهجوم العدواني على بيحان ومديرياتها والاتجاه نحو جنوب حريب وعين ومحاولة التوغل عميقا باتجاه جنوب مأرب نحو مرتفعات مناطق "ملعا" وجبالها الحصينة الحاكمة، حيث جرى إيقافه أمام تلك الجبال الصلبة وصده مجدداً.
الهجوم العدواني الإماراتي ينكسر مجدداً
برغم إعلان الإمارات خروجها من الحرب في اليمن منذ أربعة أعوام، إلا أن مصير العدوان في مأرب كان عصيبا ومخيفا عليها وعلى أسيادها وعلى الكتلة الرباعية العدوانية الإمبريالية ككل، التي رأت أن سقوط مأرب سيكون عسيرا عليها، فقررت استعادتها إلى الملعب الميداني من جديد لتغيير التوازن الاستراتيجي في الميدان ومحاولة تشتيت جهود الجيش اليمني على أكثر من جبهة لإضعاف تركيز هجومه وتقدمه. وقد دفع ذلك إلى ضرورة تجاوز تنافسات الطرفين العدوانيين وتناسيها، واجتماعهما في الرياض أكثر من مرة وأتباعهما برعاية أسيادهما الغربيين، فقد أضحت المآلات مشؤومة عليهم جميعا.
إن هذا التهديد الاستراتيجي للعدوان تهديد للوجود العدواني في اليمن كله قد صار أمرا ممكنا الآن بعد مأرب، لما لمأرب من أهمية استراتيجية حاسمة، حيث يتركز قلب العدوان ومرتزقته في المسرح العدواني المركزي (الشمالي).
إن ذلك يجعل الجيش واللجان قادرا على اجتياح بقية المناطق المحتلة، وخاصة الجنوب، وكان هذا هو العامل الرئيسي في استقدام القوات الانفصالية الجنوبية السلفية للزج بها في معارك جنوب مأرب/ شمال شبوة، ومنحها السيطرة على كامل شبوة وإخراج مليشيات الخونج منها، إرضاء للإماراتيين ومرتزقتهم، بهدف استخدامهم في المعارك القادمة التي يستعد لها العدوان بعد فقدان مأرب الذي يراه أمرا حتميا لا راد له.
وهو إذ يستخدم تلك المليشيات السلفية الانفصالية إنما يستخدم آخر أوراقه وآخر احتياطاته العدوانية التي كان يدخرها لاستخدامها في تأبيد وجوده في الجنوب المحتل والدفاع عن آخر معاقله الاحتلالية في اليمن، ولذلك يميل إلى تجنيبها الغرق الطويل في معارك استنزافية مكلفة، ويتجه بها إلى ضمان السيطرة على الأقاليم الجنوبية الشرقية وإقامة قاعدة استعمارية دائمة، مستندا إلى السواحل الطويلة الممتدة لأكثر من ألفي كيلومتر شرقا وجنوبا، حيث تتركز أساطيله وبوارجه ومدمراته وحاملات طائراته العملاقة في الشواطئ اليمنية الجنوبية المنتشرة على باب المندب وميون وخليج عدن وبحر العرب وجزر سقطرى وسواحل المهرة وحضرموت وشبوة. وإلى تلك الهزائم والتراجعات والتطورات الاستراتيجية تعود خططه ومناوراته السياسية والاستراتيجية الراهنة.
تحولات الاستراتيجية العدوانية الراهنة وآفاقها بعد الهدنة الحالية
بعد معارك طويلة شنتها قوات الجيش واللجان تمكنت خلالها من السيطرة على البلق الشرقي بعد أن سيطرت على مناطق مديريات جنوب غرب مأرب خلال المعارك السابقة التي جاءت امتدادا لمعارك تحرير مديريات البيضاء التي كانت تحت العدوان العام الماضي وقبله، وفيها تم السيطرة على مواقع العدوان في مديريات بيحان الثلاث في محافظة شبوة، حيث دحرت قوات العدوان نحو مناطق عتق والمحافظات الساحلية الجنوبية.
وقد حاول العدوان خلال الفترة السابقة أن يستعيد السيطرة على البلق الشرقي وغرب مأرب وجنوبها، لكنه فشل فشلا ذريعا في ذلك وتكبد خسائر كبيرة جداً أجبرت قائد العدوان في مأرب (سلطان العرادة) أن يتوسل لابن سلمان باكيا في شريط مسجل نشر على اليوتيوب العام الماضي ويعترف بأن خسارتهم في مأرب خلال العام الماضي قد بلغت أكثر من 70 ألف قتيل وجريح، وهو ما يكشف مدى الضعف الذي يكابدونه خلال معارك مأرب جاء على ألسنة قادتهم، ولم يكن يبالغ في ذلك، فقد أضحى العدوان وقواته في مأرب في حالة مأساوية شارفت فيه على الانهيار الشامل والهزيمة الكبرى، ولذلك عملت السعودية على مضاعفة الدعم والتسليح وإعادة إرسال وتجنيد المزيد من مرتزقتها من شبوة وجمعت الاحتياطات من الجبهات الشمالية الحدودية وفتحت جبهات حرب جديدة بغرض تحويل الانتباه إلى المناطق الحدودية لتخفيف الضغط على العدوان في مأرب وحرض وميدي وحجة ونجران وجيزان وعسير وغيرها من المحافظات الشمالية الحدودية؛ إلا أن الجيش واللجان استطاعوا أن يستوعبوا الهجمات ثم يصدوها وأن ينتقلوا إلى الهجوم ويدحروا العدوان من الكثير من المناطق التي كانت تحت سيطرته إلى قبل عدة أشهر فقط، وهو ما أعاد وضع العدوان إلى ما كان عليه قبلا، فاتجه إلى المناورات السياسية من خلال البحث عن هدنة عسكرية تمكنه من إعادة ترتيب أوضاعه والبحث عن وسائل جديدة تمكنه من استعادة توازناته التي فقدها.
ولكن تلك المحاولات لم تُجدِ نفعا ابن سلمان وأسياده ومرتزقته، بل زادتهم بلبلة وانهيارا وصراعا وتقاتلا فيما بينهم، وتلك الانهيارات تضغط بقوة شديدة على ابن سلمان للبحث عن مخرج من المأساة التي تلتف على عنقه وتبشره بأسوأ العواقب إن استمر في غيه وتجبره.
والأرقام الواردة تكشف مدى ما وصلت إليه أحوال العدوان وتوضح مأساته وانهياراته. الأرقام الواردة في بيان المتحدث الرسمي للقوات المسلحة اليمنية الذي أوضح أن خسارة العدوان من الدبابات والمدرعات والآليات الحربية قد فاق العشرين ألفا من أحدث المعدات الأمريكية التي تمكن الجيش واللجان من تدميرها وإحراقها والسيطرة عليها، إضافة إلى إسقاط أكثر من 600 طائرة حربية متنوعة المهام والأغراض من الفانتوم إلى الدرونات إلى الـ"إف 16" والـ"إف 15" والـ"تايفون" والـ"رافال" والـ"إم كيو"، وعشرات السفن والزوارق الحربية، منها 13 سفينة حربية، وتدمير آلاف المدافع والرشاشات الثقيلة والمتوسطة، كما تم استهداف العدو ومراكزه بصواريخنا ومسيراتنا في أعماقه ومؤسساته الاستراتيجية.
وبحسبة توضيحية بسيطة تقديرية، نجد أنها تساوي أكثر من (8-10 تريليونات دولار) على أقل التقديرات الغربية ومراكزها، بمعدل خسائر سنوية تقدر بـ1.5 بتريليون دولار سنويا تتحملها الخزانة السعودية.
أضف إلى هذه الخسائر المادية فإن أعداد القتلى والجرحى مهولة، ولا يمكن لأي قوة احتمالها والاستمرار في القتال، رغم الهزائم والانتكاسات التي تكشف لكل ذي عينين استحالة تحقيق العدوان أي نصر على الشعب اليمني مهما طال العدوان واستمر فهو لا يزيد اليمنيين إلا تثبيتا وصلابة وصمودا وشموخا وعزما وجسارة، وهي الحقيقة المُرّة التي بدأت ترتسم أمام مخيال قادة العدوان وحكمائهم وحكوماتهم واحتكاراتهم وبيوت الملك والتجارة والإمارة فيهم، وبدؤوا البحث عن مخارج بعد أن فاض الكيل بهم.
نتائج الوضع الكارثي السعودي
نتيجة حربها العدوانية تمر السعودية بكارثة اقتصادية تتضاعف كل يوم لتصل بها إلى القاع، حيث أمست مداخيلها السنوية النفطية والمالية لا تغطي متطلبات النفقات العسكرية الجارية والتي تبلغ يوميا أكثر من 200 مليون دولار نفقات تشغيل.
وقد حصل الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في عهده أكثر من تريليون دولار قيمة أسلحة وخدمات وجوائز عادت إلى خزينة الاحتكارات الأمريكية ووفرت آلاف الوظائف للأمريكيين العاطلين الذين يمرون بأزمة بطالة كبيرة لم تصل إليها من قبل أي دولة، إذ بلغت أعداد العاطلين في العام الماضي أكثر من 70 مليون عاطل، إضافة إلى 20 مليوناً سابقين قبل جائحة كورونا، وهو ما يكشف مدى اعتمادية الاقتصاد الأمريكي على الأموال السعودية البترودولارية في ظل أزمة العجز الأمريكي السنوي البالغ أكثر من 1.5 تريليون دولار في الموازنة، مما يجعل الاحتكارات الأمريكية لها مصلحة في استمرار الحروب الإقليمية التي تدر على الخزانة والشركات الأمريكية الكثير من الموارد التي تحتاجها لتبقى.
كانت السعودية قبل العدوان تتمتع بمركز مالي كبير بين الدول والكيانات المالية الجديدة، ويتصاعد مدخولها السنوي المالي بانتظام باعتبارها أكبر منتج تجاري في سوق النفط العالمي لا تنافسها سوى روسيا، وكانت لديها استثمارات مالية ضخمة في الغرب والولايات المتحدة وغيرها.
وجدت السعودية وغيرها من البلدان النامية المنتجة للنفط نفسها أمام مواجهة مكتومة مع شركات النفط الصخري الأمريكية التي راحت تفتش عن بدائل نفطية غربية لتجد ما يغنيها عن النفط العربي والسعودي الذي كانت تعتمد عليه اعتماداً شبه كلي في الماضي، وبعد أزمة النفط في السبعينيات واستخدامه سلاحا في المعركة ضد "إسرائيل" وحلفائها الغربيين خلال حرب تشرين الأول/ أكتوبر 73، وحينها وجدت الولايات المتحدة والغرب أنفسهم مهددين بقطع النفط عنهم فجأة بسبب موقفهم الداعم لـ"إسرائيل" ضد الحقوق العربية، وتحريضهم الدائم على توسع "إسرائيل" في الأراضي العربية، حيث أجبرت الشعوب العربية المتحمسة حكوماتها النفطية على ضرورة قطع النفط عن الغرب الأمريكي ليجبر على اتخاذ موقف الحياد في الحرب.
تلك الأزمة عانى منها الغرب بشدة وانعكست على أوضاعه الاقتصادية مباشرة من خلال ارتباك الأسعار والتضخم والركود وانكماش الاقتصادات الداخلية وارتفاع البطالة والديون، وضاقت في أعين الغربيين مجالات الأرباح والفوائد السابقة، ولذلك قررت الدوائر الغربية الأمريكية الحاكمة والمتحكمة اتخاذ ترتيبات وبرامج عملياتية احتياطية استراتيجية وسياسية تخلصها من المخاطر المحتملة القادمة، وفق خطط بعيدة ومتوسطة وقصيرة المدى، وهكذا رأينا كيف دبرت العديد من الانقلابات السياسية والأمنية والمالية للاستحواذ على المزيد من الأموال النفطية العربية، وأبرزها كانت خزن ملايين الأطنان من النفط العربي الرخيص الثمن وإبعاد الملك فيصل عن الحكم عبر اغتياله بواسطة ابن أخيه الذي كان هناك في الولايات المتحدة والإتيان بطاقم جديد للحكم في السعودية تمثل في عصابة الإخوة السبعة السديريين خالد وفهد وسلطان ونايف وسلمان وغيرهم.
وخلال حكمهم حصلت الولايات المتحدة والغرب عموماً على أفضل الموارد النفطية والمالية وأوسعها تبذيرا واستنزافا وتصديرا وإغراقا لأسواق النفط، بما يخدم المصالح الغربية الأمريكية الصهيونية، ووجدت الشركات الأمريكية والغربية أفضل الفرص للاستثمار في السوق العربية واحتكرت النفط بشكل كامل، فصار مجرد مستودع للسلع الغربية والأمريكية المستوردة لاستنزاف الدخول الكبيرة القادمة من النفط وارتفاع أسعاره واتساع أسواقه.
كما فرضت سياسات إقليمية وداخلية ودولية تتناسب مع المصالح الأمريكية الصهيونية في جميع المجالات السياسية والاستراتيجية وفي الصراعات الدولية، حتى صارت الحكومات المحلية مجرد أغطية مهلهلة للسياسات الأمريكية الصهيونية الغربية، وتدخلت مباشرة في تعديلات الحكومات والحكام والسياسات الداخلية والبرامج التعليمية والثقافية والدينية والخارجية للكيانات التابعة.
وفي الحرب ضد أفغانستان وإيران والسوفييت والصين وسورية واليمن كلها كانت ومازلت لا تحقق إلا مصالح الغرب والصهيونية وحدهما.
وفي هذا السياق الإمبريالي ضاعت حتى مصالح الكيان التابع نفسه ككيان على الأرض له مصالح محتمة وموضوعية لا يمكن البقاء عند تجاهلها، فالسعودية ظلت تخوض حروب الأمريكي الصهيوني في كل الحروب التي دخلتها طوال القرن المنصرم، ومازالت إلى الآن تحارب من تحاربه أمريكا و"إسرائيل" وتسالم من يسالمانه، وهم يحاربون اليمن الحر تنفيذاً لأجندات أمريكية صهيونية غربية قبل كل شيء، فليس بيننا وبين شعبنا العربي في الجزيرة العربية ما يستدعي الحروب والصراعات البينية لو أنهم مستقلون في سياساتهم وقراراتهم. وإذا أعدنا النظر في دوافع العدوان على اليمن سنجده مزيجا من مطامع الغرب والصهيونية وأمريكا في اليمن والمنطقة.
ومقابل حماية الأسرة السعودية وحكمها من المخاطر المحتملة فقد تملك الضباط الأمريكيون القرار والسيطرة الحقيقية والسلطة الأمنية والعسكرية والسياسية وعلى كل شيء في البلاد، فليس للأسرة سوى الشعارات الخارجية والصور والشكليات والمظاهر، وتحولوا إلى شبكات تجارية بالوكالة للشركات الأمريكية الغربية، وتحولوا إلى كائنات ثرية تأكل وتنام وتسافد وتتمتع وتعبث وتموت، وأما الحكم والسياسة والقيادة فهي من شأن الأمريكيين والغربيين، أما هم فيدفعون ليحصلوا على الخدمات المطلوبة.
هكذا قضوا حياتهم منذ وجودهم قبل قرن من الآن، وكانوا معتمدين على قوة الأمريكي الغربي التي لا تنافسها أي قوة في العالم كما فهموهم وأرادهم أن يفهموها الراعي الأمريكي الكبير، ولكن فجأة اكتشفوا أن الراعي الكبير لم يعد كبيرا كما كان في الماضي، ولم يعد السيد الوحيد المسيطر على الغابة البشرية، فالزمن دوار مخادع وذو سنن وقواعد ومتغيرات وتبدلات كونية وتحولات دائمة لا تبقي شيئا على حاله أبدا ولا تبقي أحدا كما كان، بل هي صيرورة دائمة وزيادة ونقصان وقوة وضعف وتقدم وتراجع، وظهرت قوى جديدة تنافس وتقاوم تكبر وتتسع وتتقدم حين كان العم سام قد أضحى طاعنا في السن والشيخوخة تحاصره من كل جانب والأعداء تناوشه من كل اتجاه.
فقد وجدت السعودية بعد قرن من الاعتمادية الكاملة على الغرب الأمريكي أنها أضحت مكشوفة بدون الحماية السابقة والحصانة القديمة الموعودة، وخاصة بعد أن عادت أعداء أمريكا و"إسرائيل" في المنطقة طوال عقود وحاربتهم لصالح أمريكا و"إسرائيل"، ولم تتعظ من هزائم أمريكا في فيتنام وأفغانستان وسورية والعراق وإيران وكوبا وفنزويلا والبرازيل ولبنان وفلسطين وغيرها... هكذا أصبحت الكوارث المالية السعودية تضاف إلى الكوارث العسكرية الحربية والاستراتيجية.
تصدع التحالفات الأمريكية السعودية في عهد بايدن وإدارته
لا شك أن العلاقات السعودية الأمريكية الاستراتيجية قد تعرضت للكثير من التمزق خلال حكم بايدن في العامين الماضيين، للكثير من الأسباب الكامنة في بنية العلاقات الاستعمارية التي كانت تربطهما فيما مضى من عقود، وخاصة بعد تفاقم حملات التصفيات الدموية والقمعية الداخلية في داخل الأسرة الحاكمة ومحيطها، وسيطرة ابن سلمان على الحكم واستبعاد وقمع بقية الأمراء في العائلة المالكة التقليدية، ومحاولة فرض نفسه وعائلته الصغيرة حكاما فوق الأسرة السعودية القديمة من أبناء المؤسس عبدالعزيز بن مردخاي بن سعود، وإحلال أسرة جديدة من إخوته وأبنائهم، بعد أن تم الانقلاب السلماني على مسار التقاليد السابقة في انتقال الملك بين الإخوة إلى نقل الملك إلى الأبناء من أحفاد المؤسس بعد أن دب الضعف والتحلل والفساد في أوصال الأسرة الحاكمة التي غرقت في بحر الثروة العامة نهبا وتربحا واختلاسا، وقد استغلها سلمان وأبناؤه ليغترفوا من الثروة العامة هم ومحاسيبهم ليكونوا فئة حاكمة جديدة، وقد أمسى كبار الأمراء الآخرين من بني سعود نزلاء في سجون ابن سلمان (الفندقية الأنيقة) وتعرضوا للإهانات والتعذيب وسلب الأموال التي بحوزتهم، وفق الأسلوب المملوكي، إذ يتم ابتزاز نصف أو قسم من الثروة المالية التي بين يدي المغضوب عليهم من المسؤولين والأمراء السابقين وعزلهم ونفيهم أو تغييبهم ووضعهم تحت ظروف عصيبة هم وأولادهم وأسرهم الصغيرة بهدف قمع معارضتهم لسيطرة عيال سلمان على الملك وحدهم الآن، كما تمت أعمال تصفية دموية طالت عددا من القيادات العسكرية الكبيرة التي لم توالِ ابن سلمان وأباه.
وقد مست تلك المجازر الداخلية رتباً عسكرية كبيرة، منها قائد القوات العدوانية السعودية في اليمن قائد القوات البرية والخاصة السعودية، وقائد الحرس الخاص للملك سلمان، حيث تم اغتيالهما وقتلهما بأوامر الملك وابنه.
وتمت خلال تلك الفترة عمليات تصفية وقتل شملت مئات الأفراد من أبناء الجزيرة العربية وعلمائها ومثقفيها من ذوي الرأي الحر والمعارضين للعدوان على اليمن، وكان في طليعتهم الشهيد العالم النمر ورفاقه الذين أعدموا بدون تهم أو محاكمات. كما تعرضت ومازالت تتعرض الكثير من الحرائر العربيات الماجدات للحبس والتعذيب لسنوات طويلة.
إن صراع قيادات المؤسسة الأمريكية العميقة التي تتحكم بالكيان السعودي العميل وتديره منذ تأسيسه على أيدي الإنجليز ثم الأمريكيين منذ أربعينيات القرن الماضي أدت إلى انقسام في الأسرة السعودية إلى فريقين متضادين متصارعين أحدهما يؤيده الفريق الديمقراطي والآخر يؤيده الفريق الجمهوري في المخابرات الأمريكية.
وبحسب نوع الفريق الحاكم في المؤسسة الأمريكية يكون الوضع في أسرة الحكم السعودية، فعندما كان الفريق الديمقراطي الأمريكي هو السائد في عهدي أوباما وبايدن، فقد هندسوا الحكم على أساس أن سلمان يليه ابن نايف، وزير داخليته ومخابراته، ولكن سلمان دبر انقلابه مع الجناح الجمهوري برئاسة ترامب خلال رئاسته، والذي تفاهم مع سلمان وابنه مقابل الجوائز الضخمة التي حصل عليها للدوائر المالية الاحتكارية الأمريكية وقدم التغطية السياسية والأمنية وتوجيه الانقلاب السلماني بواسطة صهره الصهيوني اليهودي كوشنير، وزير الأمن القومي الأمريكي ومستشاره الاستراتيجي الذي تولى إدارة تحركات انقلاب ابن سلمان في كل مراحلها، وبالمقابل فإن الخزانة السعودية قد تولت تمويل حملات انتخابات ترامب السابقة وستتولى تمويل الجديدة القادمة.
وقد نشأ النزاع بين الجانبين جراء نقض الجمهوريين لما ربطه الديمقراطيون خلال حكمهم، فقد مضى سلمان وابنه وترامب بانقلابهم خطوات بعيدة تجعل كل محاولة للعودة مستحيلة ومحاطة بالمآسي والدماء.
انقسام المؤسسة الأمريكية العميقة بين عدة مراكز إمبريالية عدوانية متباينة في ما بينها عكس التباين التنوعي الطبقي العرقي للرأسمالية الطفيلية الأمريكية العدوانية المأزومة وشراهتها وتناقضاتها الدفينة ومصالحها المتنافسة وتناقضاتها مع المصالح الكلية لصالح مصالحها الاقتصادية والجماعية المباشرة والإقليمية والجيوسياسية وتشابكاتها مع الكتل الإمبريالية المركزية والفرعية والإقليمية والمحلية وتقاطباتها الكبرى بين لوبيات البترول والسلاح والصناعة العسكرية والبنوك وغيرها بكل تبايناتها الأيديولوجية والجهوية والمالية، وهو اتجاه يسير ويتسع داخل الولايات المتحدة وخارجها ويحذر من نتائجه الكارثية كبار المنظرين الاستراتيجيين والاجتماعيين الأمريكيين ورجال السياسة العالميون أمثال كسينجر وبيريزنسكي وروزفلت وجيفرسون، وهم من المؤسسين لأمريكا.
إن انقسام الدولة الأمريكية العميقة بين مؤيد لابن سلمان وبين الرافضين لإجراءاته، وهو ما جعل إدارة بايدن التي استهدفته سياساتها خلال الانتخابات الرئاسية الأخيرة، التي عمل ابن سلمان خلالها لإنجاح مرشحه ترامب وحكومته، ولكنه فشل وخسر أمام الديمقراطيين، ومن ثم فإن حملات الكراهية المتبادلة قد علقت شياطينها بين القيادات والأفراد والمؤسسات، وقد أدى هذ إلى تبني سياسة متحفظة تجاه ابن سلمان وتجاه برامجه (التحديثية والعسكرية) التي أرادت أن ترسخ سيطرته وعائلته على الحكم وهيمنته على الدخل المالي العام واستئثاره بالقسم الأعظم، وتضييق المجال أمام حركة الجناح الأسري الآخر في إطار الطبقة السعودية الكبرى، وفرض الوضع الجديد للسلطة القائم على التركيبة (العائلية السلمانية) الجديدة، وهذا يضر بمصالح الجناح الآخر وأسياده الأمريكيين في المؤسسة الأمريكية العميقة.
وقد أدى هذا إلى انفتاح النزاع بين الجهتين رغم التظاهر بالتسويات واللقاءات المتكررة بعد اندلاع الحرب الأوكرانية -الروسية وتفاقم أزمة الغاز والنفط والطاقة بين الأوروبيين والغربيين، حيث حاول جو بايدن أن يردم الهوة القائمة مؤقتاً بينه وبين ابن سلمان، فاتجه إلى الخليج والمنطقة في الشهر الماضي لتحقيق هدف مركزي رئيسي واحد بالنسبة له ولأمريكا الحالية وللغرب ككل؛ وهو توفير الغاز والنفط بأسعار رخيصة وتحطيم الصمود الروسي على أرض المواجهة والعقوبات الشاملة وعزل روسيا عن (زبائنها) الخليجيين والسعوديين (الجدد)، لكن الزبائن الجدد هؤلاء كانوا قد توغلوا عميقا في منظومة المصالح الذاتية النفطية والاستراتيجية وفهموا القواعد الأمريكية المصالحية النفعية التي يؤمنون بها ويتعبدون نحوها مصالحهم أولاً، أمريكا أولاً، والغرب أولاً، ورب متعلم فاق معلمه ورب عبد مملوك فاق سيده مادام قد صار بين يديه أدوات التأثير ومقدرات الحركة والمنافسة، وعرف طريق الحرير والسافانا والمكيافيلية وتضخمت ثرواته وموارده ووجد من يشتغل لصالحه وله.
أزمة السفاح المحرم
لو شبهنا العلاقة التي تربط ابن سلمان والأجنحة الأمريكية المتعارضة فإن أقرب تشبيه نموذجي لهما هو علاقة (نخاسين اثنين)، معا يملكان المملوك النفطي الكبير، لكنهما متنازعان ولن يتوافقا على مشترك واحد بينهما في القريب المنظور، لكنهما يبتزانه كلا بمفرده عند وجوده في سدة الحكم البعيد، وهو يستفيد من هذا النزاع فيعمل على توظيفه ليوسع من هامش حركته فيدفع لهذا ولذاك، وهكذا..
كما يحتمي خلال ذلك بخصوم كل منهما دولياً وإقليمياً سراً وعلناً لكي لا يجد نفسه وقد باعه الاثنان بصفقة مقبولة بينهما ستأتي حتما حيث يحاول أن يخلق له قواعد بقاء واستمرارية جديدة بعيدا عنهما وقريباً منهما في الوقت نفسه، كما تفعل السياسة «الإسرائيلية»، والمعلم واحد والأصل واحد.
وهي ظاهرة جديدة في علاقات التبعية الوكيلية الإمبريالية لكنها اتجاه قائم الآن تحت السطح وسوف يبرز يوما بشكل أوسع، وهكذا نجد الأسلوب الإماراتي والكويتي والسعودي ينمو على استحياء، فهو ليس خروجا عن «الأمركة»، ولكنه تنويع في العزف والشغل الخاص أينما تسمح علاقات التبعية القائمة، بخاصة على شواطئ الطبقة الاستعمارية والصهيونية الدولية التي تحلم بوراثة العالم بعد أن دب الضعف والتحلل والأزمات والشيخوخة السكسونية الغربية الراهنة وانسداد أفقها الشيطاني الذي أفرز كل هذا الاندحار، وأبرز مظاهره هذا التحلل والتنازع البيني والعجز عن السيطرة على المركب القديم المتهالك وتلقي الطعنات والضربات كل يوم من كل الاتجاهات والمصادر.
وفي هذه المركبات لا وجود للعواطف والمشاعر الإنسانية وإنما هو البحث الدائم عن مصالح كل الأطراف والفرق والمجموعات وتفلت الجماعات عن المراكب الموشكة على الغرق والحجز المسبق على معابر جديدة، وهي قاعدة أساسية من قواعد الرأسمالية الاستعمارية السياسية الغربية الملهمة، فلا غرابة في ذلك إن كانوا هكذا يفكرون، وكل ذلك ينعكس على الواقع المشترك بينهما؛ بما فيه الواقع الحربي في اليمن، فقد تواصلت هزائم العدوان وتراجعاته أكثر فأكثر وتشتد أزماته وتتضاعف وتتفاقم مع اشتداد تناقضاته الداخلية الذاتية حتما، فلم يفكر أحد أن الفرقة وعوامل الصراع والجشع والتوحش والأنانية وانعدام الرحمة والإنسانية تأتي بالانتصارات يوما ما، فذلك مستحيل، ويتعارض مع سنن الله في الكون والحياة.
تفاقم الصراعات بين الحلفاء وانعكاساته
تفاقم العلاقات العدوانية بعد الحرب الأوكرانية -الروسية الجارية وترقب النتائج المترتبة على نهايات الصراع الراهن واحتمالاته الخطرة وانعكاساته خلال العامين القادمين تبشر بالمزيد من الأزمات والانسدادات.
عامــان طويــلان مـن الشــؤم العـدوانـي
خلال الأعوام الماضية من فترة حكم الرئيس جو بايدن، الديمقراطي الليبرالي، شهدت العلاقات السعودية الأمريكية على مستوى حكام البلدين بالذات انتكاسات وأزمات على عكس فترة عهد ترامب، ويمكن أن تصلح أقسام كثيرة منها في عهد آخر، لكنها ليست قبل عامين من الآن من حكم الديمقراطيين، وفي حال عودة ترامب إلى البيت الأبيض أو حزبه، وهذا محتمل الآن.
ومعنى هذا أن مسار العلاقات التحالفية بين البلدين وإدارتيهما تمر بحالة من التصدع والعناد والصراع الشخصي للرجلين الحاكمين وتؤسس لحالة من التفلت بين الجانبين لن يستطيع بايدن بعد الآن أن يعيدها إلى سابق عهدها مهما كانت تنازلاته للسعودية بعد أن دخلت في تشابكات السياسة العالمية وصراعاتها ومراكزها وأقطابها الجدد ومغرياتها في ظل ضعف القدرات الأمريكية الاستراتيجية المتزايدة وعجزها عن المواجهة المباشرة لخصومها في المنطقة وإنجاد عملائها من جهة أخرى في ظل حالة استنزاف ثرواتهم الفلكية باسم حمايتهم دون تحقيق حماية حقيقية لهم ولغيرهم وذلك نتيجة أن الولايات المتحدة قد دخلت حالة من الانهيارات المجتمعية الاقتصادية والاستراتيجية الشاملة البطيئة في مختلف المجالات والجوانب، وصارت بحاجة إلى المساعدة الخارجية على النهوض وهو ما يجعلها عاجزة عن مواصلة دور شرطي الاستعمار في المنطقة والعالم على عكس تصورات وتوقعات التوابع والعملاء والكيانات الوكيلية التي اعتقدت يوما أن نخلة العم سام سوف تظل إلى الأبد يانعة مزهرة باسقة نضرة مثمرة قوية لها هيبتها واحترامها لا تعجز ولا تشيخ ولا تفقر ولا تضعف، وقد سقيت ينبوع الأزل وطعمت من تفاحة الخلد والبقاء دون تغيير.
الواقع التاريخي أظهر بوضوح لا يقبل التأويل أن الولايات المتحدة كغيرها من الدول ظاهرة تاريخية اجتماعية بشرية وإنسانية، فهي تخضع حتما لقواعد التغيير والتبدل والصيرورة والقوة والضعف والشيخوخة مثلها مثل البشر والناس والجماعات الإنسانية، ومهما كانت قدراتها وإمكاناتها فهي محدودة بالنسبة للمتطلبات المتجددة والمتزايدة وتضاعف التحديات التي تتولد كل يوم جراء السياسات الاستعمارية التي تتبناها ضد العالم كله، ولا بد أن تصيبها تلك السياسات في مقاتل كثيرة بالطبع، وتولد قوى جديدة كل يوم قادرة على تجاوز قوة الولايات المتحدة الاقتصادية والصناعية والتحرر من آليات الهيمنة الإمبريالية الغربية القديمة وخوض صراعات استراتيجية جديدة في مواجهة الاحتلال الأمريكي الغربي والصهيوني في الكثير من الساحات وأن تنزل الهزائم المتوالية بها وبعملائها، فلم تعد تلك القوة الصلبة غير القابلة للخدش والإدماء، وقد استنزفت لقرون قوتها وصلابتها ومناعتها كأي كائن حي آخر مهما طال عمره، فلكل شيء أجل وكتاب طال أو نقص فهو آت آت ولا راد له أبدا، ولكن الولايات المتحدة تريد المحافظة على الامتيازات القديمة التي هيمنت عليها منها السيطرة التامة على الثروات الطبيعية والموارد المالية والمواقع الاستراتيجية ومقدرات القوة في البلاد والتحكم الكامل بسياسات الكيانات الخارجية والداخلية وبجميع علاقاتها مع الدول والقوى الأجنبية والتعامل معها بنفس الآليات الاستعمارية القديمة رغم التغيير الحادث فيها وعجزها عن توفير الالتزامات القديمة للكيانات الإقليمية التابعة، وهذا يؤدي حتما إلى انفجار في مركب العلاقات البينية بين الطرفين، وأن ما نراه من توترات بين الجانبين يظهر عبر العديد من الوسائل.
ومنذ أيام عديدة أذاعت وسائل الإعلام الأمريكية أن خطيبة المغدور خاشقجي قد رفعت قضية جنائية ضد ابن سلمان في المحاكم الأمريكية بتهمة قتل خطيبها الصحفي السابق لدى إحدى الصحف الأمريكية، ولا يمكن السير في إجراءات المحاكمة إلا بموافقة الإدارة الأمريكية الحالية.
وكان رد الفعل السلماني هو تعيين ابن سلمان رئيسا للوزراء بدلا عن أبيه ونقل وزارة الدفاع إلى أخيه الأصغر الأمير خالد وإحداث تغيير حكومي كامل سعى لإحكام السيطرة التامة على جميع المرافق الحكومية بواسطة إخوته وأولاد عمومته المقربين من نفس جيل الأحفاد متجاوزا جميع الأعمام من كبار أمراء البيت السعودي القديم الذين كانت الدوائر البريطانية والأمريكية تحديدا تراهن على قدرتهم على استعادة السيطرة على العرش من خلال الأمير أحمد بن عبدالعزيز والأمير محمد بن نايف والأمير متعب بن عبدالله والذين يقضون عقوبة الإقامة الجبرية في قصورهم بعد أن تم وضعهم فيها من قبل ابن سلمان وأبيه.
وكان هذا تصعيدا جديدا من ابن سلمان وأبيه، وبالمقابل فقد استقبلت المخابرات الأمريكية والإدارة الأمريكية الهارب السعودي الضابط الكبير في المخابرات السعودية الجنرال سعد الجبري وقدمت له الرعاية والدعم الكامل والحماية، ويتحرك ضمن حملة لاستهداف ابن سلمان، وإنشاء تنظيم جبهة التجمع الوطني السعودي، لتجميع معارضين عديدين لابن سلمان وأبيه، وهو ما يشير إلى تدهور جديد في العلاقات البينية تكشفه التطورات الجديدة، وأشارت الصحافة الأمريكية القريبة من الإدارة الأمريكية العميقة إلى أن الخلافات بين الجانبين مستمرة.
وكانت قضية الحرب الأوكرانية -الروسية هي آخر القضايا التي تباينت فيها مواقف البلدين الشريكين (السيد وتابعه)، فالإدارة الأمريكية الحالية تبنت الحرب ضد روسيا وحرضت عليها ومولتها وسلحتها ومازالت تقودها وتجمع الأحلاف الدولية والغربية ضدها وتفرض العقوبات على روسيا وأصدقائها، أما السعودية السلمانية وابن زايد الإماراتي فهما ينهجان نهجا مخالفا لنهج الإدارة الأمريكية والغرب لأول مرة في تاريخ العلاقات بين الجانبين.
ثم جاء بايدن إلى السعودية والخليج وطالب بزيادة ضخ النفط إلى الأسواق الأوروبية بكميات أكبر بعد تخفيض أسعاره إلى الحدود التي تزعزع اقتصاد روسيا وحلفائها، ولكن ابن سلمان وابن زايد لم ينصاعا لبايدن ولم ينفذا أوامره حول زيادة إنتاج النفط للتعويض عن النقص في الأسواق الأوروبية، كما أعلنوا بيع الصين البترول بأسعار وعملات محلية باليوان الصيني، وكان ذلك تعزيزا لموقف روسيا التي أعلنت عن بيع نفطها بالعملات المحلية غير الدولار، وهو ما يشير إلى التفاهم الحاصل بين الروس والخليجيين والسعوديين الحاليين ولأول مرة يحدث ذلك في تاريخ العلاقات.. ماذا يعني ذلك إذن؟
يعني أن انهيارات جديدة تنشأ على جبهة العدوان الأمريكي السعودي، ويعني أن تصدعات جديدة تتوسع على كتلة الحلف الأمريكي السعودي ولها انعكاساتها المحتمة على كافة الأصعدة الاستراتيجية وعلى كل القضايا والصراعات الإقليمية والدولية، وقد يقول قائل من هواة نظرية المؤامرة إن ذلك متفق عليه ومدبر بين الجانبين لأهداف سياسية، ولكن هذا يبدو اعتراضا لاعقلانيا يتجاهل الوقائع الحاصلة والأحداث والنتائج المدمرة لطرفيهما ولخسائرهما الواضحة وهذا يكفي.
إن ما يجدر الانتباه إليه هنا هو أن الإمبريالية المأزومة الشائخة المتحللة المتقادمة تنتج لها بدون إرادة منها فروع إقليمية، نبتات وأشجار وجذور وأغصان وسيقان تكبر وتقوى باستمرار ومع الزمن تكسب لها قوة وجود تحاول أن تستقل تدريجيا عن المركز والشجرة الأم، وتبقى إلى جواره تتشارك معه الفوائد وتتجنب التبعات كما حدث بين الإنجليز والأمريكيين وبين الأمريكيين والألمان وبين الإنجليز والهنود وبين الأمريكيين والبرازيليين والأمريكيين والمكسيكيين والأمريكيين والإيطاليين واليونانيين والإسبانيين والفنزويليين وهلم جرا، فهذه الظاهرة، أي التباين التدريجي بين مصالح المراكز والأطراف الإقليمية التابعة، هي جدلية حتمية في ظل تصاعد أزمات الرأسمالية الدولية الطفيلية الاستعمارية فأين وجه الغرابة في ما يقع في منطقتنا؟
التفكير في أمريكا أولاً
حين أعلن العدوان الحرب علينا من واشنطن كانت السعودية والولايات المتحدة والغرب تريد أن تظهر بمظهر المتضامن المدافع معا عن المصالح الاستعمارية المشتركة للجانبين، ولكن الأحداث كشفت أن الولايات المتحدة أضحت عاجزة فعليا وبنيويا عن المواجهة العسكرية الإقليمية مع خصومها الآخرين من دول المقاومة وشعوبها وحركاتها الجديدة، وبخاصة بعد صمود المقاومة العربية الشعبية في وجه الهجوم الكوني ضد الأنظمة الوطنية وضد القوى الوطنية التحررية العربية الإسلامية بعد أن جاءت القوات الروسية إلى سوريا ودعمها للنظام الوطني فيها وبعد أن عجزت أمريكا وقواتها في السيطرة على العراق وهزم حركة المقاومة واضطرارها إلى الخروج الخائب المذل من العراق وأفغانستان وأوكرانيا وكازاخستان وفنزويلا، واتساع القوى اليمنية الوطنية وانتقالها إلى الهجوم على مراكز العدوان وعجز صواريخها العظمى عن اعترض صواريخ المقاومة الوطنية الحرة.
رغم أنهار الأموال التي تصب كل ثانية إلى جيوب الحكومة والشركات الأمريكية، فالعجز مازال سيد الموقف في المنطقة والمقاومة الوطنية والقومية والإسلامية والتحررية مازالت قادرة على التطور والاستمرار وتحقيق الإنجازات كل يوم، والنتيجة هي أن التوازنات الاستراتيجية تسير لصالح القوى الوطنية وليس لصالح العدوان والإمبريالية الأمريكية السعودية، فإلى أين تسير إذن؟ وهل لها مستقبل رغيد بعد الآن؟
كل تلك الصراعات والنزاعات التي تتفاقم على جبهات العدوان الداخلية والخارجية والهزائم الميدانية تكشف حقائقها نتائج الميدان والمعارك التي تبينها الإحصاءات الرسمية للجيش اليمني ولجانه الشعبية بعد ثمان سنوات من الصراع والمقاومة الوطنية الضارية والظافرة.
المصدر علي نعمان المقطري / لا ميديا