استطلاع: عبدالمجيد التركي / لا ميديا -

عمران.. مدينةٌ موغلةٌ في عصب التاريخ ومتجذرةٌ في أخاديد الزمن.
حين نسمع اسم «عمران» يطلُّ من الذاكرة جسر شهارة وحصن ثلا وقصر ناعط وصوت زينب الشهارية ومملكة أسعد الكامل ومؤلفات نشوان بن سعيد الحميري... وتتزاحم مآذنُ وقبابٌ ومعابدُ وقصورٌ ومآثرُ تاريخية لا تتسع لها المساحة.
تعدُّ عمران بوصلة تاريخية وأثرية. كما أنها مشهورة بتاريخها العلمي والثقافي والديني أيضاً؛ ففيها جبل ضين، المشهور بتحديد قِبلة أهل اليمن؛ إذ يعتبر هذا الجبل بوصلةً باتجاه الكعبة، وقد قام بتحديده النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
تم إعلانُها محافظةً في بداية التسعينيات، وتبعد عن العاصمة 50 كيلومتراً. يشكِّلُ سكان المحافظة ما نسبته 4.5% من إجمالي سكان الجمهورية. تقسَّمُ إدارياً إلى 20 مديرية. مدينة عمران هي مركز المحافظة، وتعتبر مديرية حرف سفيان أكبر مديرياتها.
لا تزال مدينة عمران القديمة محاطةً بسور طيني مع إحدى البوابات والعقود القائمة حتى الآن، ولا تزال السوق القديمة لمدينة عمران قائمة، ومبانيها تتميز بنمط معماري قائم على الطين المخلوط بالتبن.
الزراعة من أهم الموارد التي يعتمد عليها السكان؛ إذ تنتج مدينة عمران الرمان والسفرجل والخوخ والتفاح، والكثير من الخضروات، مثل الطماطم والبطاطا والكوسا والجزر والباميا والبطيخ، إضافة إلى الحبوب وغيرها من المحاصيل الزراعية التي تصل إلى العديد من المناطق والمحافظات المجاورة. وفي عمران «قاع البون» الشهير الذي يعتبر واحدة من سلال اليمن الغذائية، وواحداً من أوديتها الخصبة والمثمرة.

ثروة أثرية
عمران واحدة من خزائن الثروة الأثرية الإسلامية، ومركز من مراكز الصناعة التقليدية والتسوق. تضاريسها متنوعة، وتتميز بمناخ معتدل في فصل الصيف وبارد في فصل الشتاء.
ومن ضمن مديريات عمران مديرية ثلا، حيث يقع الحصن الشهير، ومديرية ريدة التي تشتهر بمآثرها التاريخية، بل إنها مدينة بحد ذاتها أثرية، وفيها معابد وقصور كثيرة، أشهرها: قصر تلقم، قرية الغولي، ناعط ـ قرية العصا، قصر ناعط.
إضافة إلى مديرية خَمِرْ الأثرية التي حازت على نصيب وافر في كتب التاريخ. فأينما وليت وجهك ستجد أنك أمام تحفة أثرية وفنية لا تدري كيف تلملم أطراف دهشتها. كما أن خَمِرْ هي مسقط رأس الملك الحميري أسعد الكامل.
تضم محافظة عمران مديرية حوث، التي تبدو وكأنها منحوتة في ذاكرة التاريخ، وبها مسجد الصومعة المائلة، وجامع الهادي... وكانت واحدة من هجر العلم في اليمن، وهي مسقط رأس نشوان بن سعيد الحميري، وموطن المدارس الفكرية... إضافة إلى مدينة شهارة التاريخية، الأشبه بمتحف مفتوح، وبإمكانك التقاط السحر بيديك من شوارعها العتيقة وحصونها الشاهقة، وجسرها الشهير الذي يعدُّ واحداً من العجائب، رغم حداثة بنائه، الذي يقارب مائة وثلاثة عشر عاماً. ولأهميته، صدرت عملة يمنية معدنية فئة عشرة ريالات تحمل صورة جسر شهارة. كما صدر أيضاً طابعٌ بريدي في نهاية الخمسينيات يحمل صورة هذا الجسر.

شهارة وجسرها
شهارة، هذه المدينة الشاهقة، تقع ضمن سلسلة جبلية يطلق عليها اسم «جبال الأهنوم»، نسبة إلى قبائل الأهنوم التي تسكنها. وتشتمل هذه السلسلة على جبل «شهارة الفيش» وجبل «شهارة الأمير». وشهارة هي المركز الإداري لمديرية شهارة، وتبعد عن مدينة عمران تسعين كيلومتراً، ويُقدَّر ارتفاعها عن مستوى سطح البحر بحوالى 3200 متر. أمَّا إدارياً فتنقسم شهارة إلى مديريتين، هما: مديرية شهارة، ومديرية المدان.
وأنت تقف على جسر شهارة تريد تصويره ستوقن أن الكاميرا تحتاج إلى عين ثانية؛ لأنها غير قادرة على استيعاب كلِّ هذه الفتنة، واعتقال كلِّ هذا السحر بعينٍ واحدة فقط.
تغادر جسر شهارة، فيُخيَّلُ إليك أنك كنتَ في غيبوبةٍ لذيذةٍ وأحلامٍ خرافيةٍ لا تمتُّ إلى كوكبنا بصِلة.
تتمنى لو أنك تستطيعُ البقاء على ظهر الجسر طوال اليوم، وتتأمُّلَه وهو ممسكٌ بخناق جبل «شهارة الفَيْشْ»، وكأنه يخشى أن يفلت من قبضته!
ستقنع نفسك بعدم التصديق بنسبة بنائه إلى إنسانٍ عاش في القرن التاسع عشر، ورسخت هذه القناعة فيَّ منذ نعومة تفكيري؛ لكنك ستوقن -بعد ذلك- أن العقل ليس له حدودٌ تقيِّدُ انطلاقه.
هذا العمل المهول لا تستطيع الآلات الحديثة الإتيان بمثله. ويكفي بانيه، المعروف باسم «الأسطى صالح»، الذي استطاع بعبقريته أن يرسم لوحةً أزليَّة بديعة في هذا الفجِّ الفاصل بين الجبلين، وكأنه نظر إلى هذا الفجّ من منظور فلسفي، واستنتج أن هذا التباعد نتج عن خصامٍ كونيٍّ بين جبل «شهارة الأمير» وجبل «شهارة الفيش»، فقرَّر بناءَ هذا الجسر ليتصافح به الجبلان في حميميةٍ سرمدية، وجمالٍ متجدد، وطبيعةٍ طيِّعَة لإرادة الإنسان.
بُني هذا الجسر في عهد الإمام يحيى حميد الدين، وبأمر منه، وقد تم بناؤه في عام 1323هـ/ 1905م.
لا تزال مدينة شهارة التاريخية قائمةً بكل دهشتها المعمارية، وبكل المرافق التابعة لها، من حصون، وأسوار، وأبواب قديمة، ومساجد، ومدارس تاريخية، ومدافن الحبوب، وسدود المياه السطحية، إضافة إلى السدود الواقعة تحت الأرض. وتوجد صهاريج لحفظ المياه، وهي عبارة عن مواجل وأحواض ماء منحوتة في الصخور، وكلها بحالة جيدة.

الجامع الكبير
من أشهر المعالم الدينية في مدينة شهارة جامع الإمام القاسم، ويسمى الجامع الكبير. تم بناء هذا الجامع في عهد الإمام القاسم بن محمد، عام 1025هـ، ثم زاد فيه الإمام المتوكل إسماعيل بن القاسم في الجهة الشمالية، إذ بنى فيها رواق القبلة وانتهى منه في سنة 1074هـ.
وعلى جنوب الجامع صرحٌ عالٍ يطلُّ على بركة كبيرة منحوتة في الصخر وملبَّسة بالقضاض، إضافة إلى عشرات الـ»منازل» التي كانت تابعةً للجامع، فقد كانت سكناً داخلياً للقادمين إلى المدينة لطلب العلم؛ إذ إن هذا الجامع كان أشبه بجامعة تدرِّس شتى أنواع العلوم الدينية والأدبية واللغة والنحو. وكانت شهارة حينها من أكبر هِجَر العلم التي كانت تضاهي صعدة، وذمار، وزبيد، وحضرموت.
إلى جانب كل ذلك تقف ثلاث قباب بيضاء مشهورة، شرق الجامع، يوجد فيها أضرحة الأئمة القاسم بن محمد (المتوفى سنة 1029هـ)، والمؤيد بن القاسم بن محمد (المتوفى سنة 1054هـ)، والإمامين الحسين والحسن ابني الإمام القاسم بن المؤيد بن القاسم بن محمد (توفي الإمام الحسين سنة 1129هـ، وتوفي الإمام الحسن سنة 1156هـ).
وإلى جوار هذه القباب ترقد العالمة والشاعرة زينب الشهارية، المتوفاة عام 1702م، وقد اشتهرت بدراسة علوم النحو والمنطق والأصول، وعلم النجوم، والفلك (الرمل)، والسيمياء (علم الروحانيات)، وبرعت في الأدب، حتى غدت من أبرز شعراء عصرها.
هذه القباب الثلاث من معالم مدينة «شهارة الأمير»، فما إن تدخل من بوابة شهارة حتى تستقبلك هذه القباب ببياضها الذي يشبه الأمان، كما لو أن مدينة شهارة ترفع الراية البيضاء لكل زائر ليشعر بالأمان من أول لحظة تطأ فيها قدماه مديرية شهارة.

حصن ثلا
ثلا واحدة من المدن اليمنية التاريخية التابعة لمحافظة عمران إدارياً. يرجع تاريخها إلى فترة مملكة حمير. وقد تمت إضافتها إلى قائمة التراث العالمي لليونسكو عام 2002. تقع على بُعد 50 كيلومتراً شمال غرب العاصمة صنعاء، ويبلغ عدد سكانها 7462 نسمة، حسب إحصاء عام 2004.
أشهر معالمها حصن ثلا. يعود تاريخ بنائه إلى ما قبل 2500 عام، والمعروف بـ»حصن الغراب»، ويطل على المدينة كأنه يحرسها. وبها العديد من المعالم الأثرية والإسلامية والمزارات، منها الجامع الكبير، مسجد سعيد الكينعي، ضريح محمد بن الهادي، مدرسة الإمام شرف الدين، مدينة حبابة، حقة همدان التي بها «معبد بررن».

بندقية العرب
أطلق بعض السياح على مدينة ثلا اسم «بندقية العرب»، حين رأوا أن بعض بيوتها منحوتة داخل الجبل، فيما بعض البيوت تم تصميمها على أساس السماح للماء بالمرور من تحت البيوت، فحين تهطل الأمطار تتحول مديرية ثلا إلى مدينة عائمة، وترى أنهار الماء تجري من تحتها كأنها لوحة لم تخطر على بال من قاموا بتصميم مدينة فينيسيا.